عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 15-11-2021, 05:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 131,550
الدولة : Egypt
افتراضي تقديم من لا يحسن لمن لا يستحق وأثره على الإبداع النقدي

تقديم من لا يحسن لمن لا يستحق وأثره على الإبداع النقدي
د. محمود عبدالجليل روزن





قال صاحبي موافقًا:"إنه كتاب رائع؛ يكفي أن تقرأ على الغلاف أن خمسة من أكابر العلماء قد قدموا له".
قلت: "وهل قرأت تقديماتهم؛ لترى ماذا قالوا عن الكتاب؟ ثم هل قرأت الكتاب نفسه لترى: هل رأيهم في محله؟!".
قال: "يا عزيزي، أقول لك: خمسة من العلماء، وتسألني عن رأيي؟!"

هكذا أيقنت في قرارة نفسي أن تقديمهم للكتاب أضرَّ أكثر مما أفاد، اللهم إن كان المقصود بالفائدة أرقامَ التوزيع فحسب.

هذا الموقف القصير يلخص ظاهرة ثقافية سلبية، تفاقمت في الآونة الأخيرة بصورة مرَضِيَّة، وقد دعاني لتذكره الآن، رسالةٌ صغيرة وقعت في يدي، موضوعها عن غض البصر، لا يتجاوز حجمها أربعين ورقة، قدم لها ستة من مشاهير المشايخ والدعاة، فيما لا يقل عن عشر ورقات، هي ربع حجم الرسالة!


قد يكون أول أسباب المشكلة أن كثيرًا من دور النشر لا تقبل بنشر الكتب إلا بعد أن يقدم لها أحد المشهورين؛ لضمان التوزيع، ولترويج الكتاب.

أنا أفهم بالطبع أهمية أن يراجع الكتابَ المزمَع نشرُه عددٌ من المختصين، ويُبْدُوا آراءهم العلمية فيما يحتويه، ولكني لا أفهم ضرورة أن يصدِّر هذا المراجِعُ الكتابَ بتقديم.

المشكلة أن المؤلف قد يكون أكثر علمًا وتخصصًا في القضية التي يناقشها كتابه من ذلك المقدِّم الذي يكفي أن يكون مشهورًا!

وربما لا يقرأ المقدِّم الكتاب قراءة تفصيلية؛ إذ يكتفي بالاطلاع على العناوين من الفهرس؛ ليأخذ "فكرة" عن الكتاب، وكثيرًا ما رأيت في تقديم بعضهم تصريحًا بأنه تصفح الكتاب على عجل، أو قرأ بعض فصول الكتاب، أو نحو ذلك من العبارات التي توحي بعدم استيفائه الكتاب كاملاً، وما هكذا يكون النقدُ العلمي.

في غالب الأمر؛ تأتي تلك المقدِّمات في صورة "وصلات" من المديح والإطراء للكاتب وللكتاب، هذا المديح المبالغ فيه، الذي جعل كل كتاب هو أفضل كتاب في بابه، وكل كاتب عجيبة زمانه، يكفي أن ترى اسمه على الكتاب حتى تشتريه بلا تردد!

وهذا الصنيع صوابه خطأ، وخطؤه خطأ على خطأ، فعلى فرض صحة ما وصل إليه المقدِّم من شهادة لهذا الكاتب، أو لذلك الكتاب؛ فإنه لم يزد على أن كبل فكر القارئ، وحبس عقله عن محاولة رؤية الكتاب من غير الجهة التي رآه منها المقدِّم، وفي هذا إهدار لثروة نقدية هائلة، كان من الممكن أن تضاف لرصيد الكتاب وكاتبه، ولكن - والحال تلك - من يجرؤ على أن يقول شيئًا بعد الذي قاله خمسةُ مقدمين؟


هذا الشيء شبيه بما يفعله الإعلام في العقل الجَمْعي، ثم ما يفعله هذا العقل الجمعي بالعقل الفردي، فنحن نتأثر - أولاً - بالدعاية المبالغ فيها لكتاب، أو رواية، أو ديوان شعرٍ ما، وخصوصًا إذا دعمت تلك الدعاية برأي بعض النقَّاد المشهورين، فنجد العقل الجمعي قد اتخذ قراره في لحظة واحدة بشراء ذلك الكتاب، أو الديوان، أو تلك الرواية، فتنفد طبعاتها الأولى تباعًا، وكلما نفدت طبعة شجعت على نفاد لاحقتها بأسرع منها، حينها لا يستطيع العقل الفردي أن يخالف الموجة السائرة الهادرة ليقول: إن هذا العمل لا يستحق كل هذه الضجة!

وربما كان العمل جيدًا فعلاً من وجهة نظر المقدِّمين، ولكن قارئًا ناقدًا كان ليرى فيه ما لم يروه، لولا أنهم أسروا رأيه، فصار يرى بعين رأسه لا بعين رأيه.

والخطب أشد في حال كون العمل لا يرقى لهذا المديح والإطراء، الذي صب صبًّا في التقديم، فقد تحول به التقديم إلى نوع من التدليس، لا يقل كثيرًا عن ذلك "الفاكهي" الذي يروج لفاكهته بوضع الجيد منها على السطح، والقبيح مكدس في قاع "القفص"، بل ربما كان الأمر أكثر سوءًا؛ من حيث إن هذا الفاكهي إنما كان تدليسه فيما هو غذاء للأجساد، والمقدِّم تدليسه فيما هو غذاء للعقول والألباب، وغاية ما يضار به من خُودِع على مثقال من الفاكهة أن يرمي به طول يده؛ إذ كل الناس ناقد فيما يؤكل، وكلهم يعرف الغث في ذلك من الثمين.

أما فيما يقرأ؛ فقد يدخل على قلبه بشبهة يكون معها زيغه وانحرافه.

ومما يجب التوقف عنده كثيرًا: أنك ترى "فلانًا" من المشاهير على كل غلاف، حتى تقاول الخبثاء: "صاحبنا شغال مقدِّم!".

إن من جربوا النشر الأكاديمي في المجلات المحكمة؛ يعرفون أن بحثًا متوسط الحجم قد يستغرق شهورًا من المراجعة، والتدقيق، والتحكيم، يتخللها إصلاحات، وإضافات، وتنقيحات؛ حتى يصير البحث صالحًا للنشر، وإني لأسأل هذا الذي يقدم أكثر من عشرين عملاً كل عام.

أين تجد وقتًا لكل هذه التقديمات؟


وهل بلغ من علمه أن صار قادرًا على التقديم لكل هؤلاء، وبين فروع المعرفة التي يكتبون فيها ما لا يعقل أن يلم به عقل واحد، فضلاً عن أن يبلغ فيه درجة من العلم، تؤهله للتقديم لأعمال المختصين؟!

وأخطر من هذا وأظلم، من تدفعه شهوة نفسه وحب الشهرة إلى كتمان ما يراه من أخطاء فيما يقدم له، مؤْثرًا ألا يوغر صدر المؤلف برأي مخالف يهدد استمرارَ الطلب عليه كمقدِّم! فهؤلاء يشترون بعلمهم ثمنًا قليلاً من الشهرة الزائفة الزائلة، متناسين الميثاقَ الذي أُخِذ على مَن أوتي العلم، ليبيننَّه للناس ولا يكتمه.

وفي دركة هؤلاء مَن يفرق بين قاصديه، ويصنفهم على أساس من الانتماء الحزبي والطائفي، فمن انتمى إلى جماعته وطائفته، حظي بأكثر مما يحلم به من الرعاية، والتعاهد، والصفحات ذوات العدد في صدر المؤلفات، ومن اختلف معه في شيء من ذلك، كان مصير أوراقه الرفض المبدئي الصريح، أو سلة المهملات!

وربما كان الكاتب نفسه هو سبب المشكلة في بعض الأحيان؛ إذ قد يعتذر منه بعض العلماء عن التقديم له؛ لأنهم لا يقتنعون بموضوع التقديم أصلاً، أو لأنهم يرون العمل المؤلف ليس بذاك، أو لأن الوقت لا يكفي لأعباء إضافية فوق ما هم فيه من المهام والمشاغل، أو غير ذلك من الأعذار الوجيهة؛ فيتهمون حينئذٍ بأشنع التهم التي ليس أقلها: متكبر، مغرور، لا يهتم بالطلاب.. إلخ.

آخرون من العلماء يعتذرون؛ لأنهم لا يرون أنفسهم أهلاً لتقديم العمل المعروض عليهم، لأنه في تخصص غير الذي يجيدونه، أو في فرع من المعرفة لا يتقنونه، فهم يتورَّعون عن الحكم على ما لا يعرفون.

المؤسف أننا نرى صاحب الكتاب يلح في طلب تقديمهم، وهو يرقص طربًا بقول بعض هؤلاء المتورعين في تقديمه: "ولسنا أهلاً لأن نحكم على عمل فلان"!

فكيف تستحل - يا هداك الله - أن تسوِّد الصفحات بنشر تقديم من اعترف أنه ليس أهلاً للتقديم؟


أم هو طلب لإذعان القارئ مسبقًا بلسان حال يقول: "هذا فلان على علمه ليس أهلاً لتقديم كتابي، فما بالك بك أيها القارئ؟"؟

وهو - في تقديري - نوع مقنَّع ورخيص من حب المديح، الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وحذر منه.

وهذه الصفحات التي تضاف على ثمن الكتاب لتجبى من مال القارئ؛ قد يراها البعض شيئًا تافهًا يمكن التغاضي عنه، ولكن ألا ترونها أكبر شأنًا من مثقال الذرة، الذي لا يغادره سجل الحسنات والسيئات؟


من أكثر ما يؤسَف له في هذه القضية أن بعض المؤلفين الصادقين يضطرون اضطرارًا إلى طلب المقدمات من مشهوري رؤوس بعض الطوائف والجماعات، والذي يضطرهم إلى هذا أن بعض طلاب العلم الشرعي لا يقرؤون للمخالف حتى وإن كان ما يكتبه حقيقًا بالقراءة، ومع حرص المؤلفين على نشر العلم يطلبون التقديم من هؤلاء المشاهير؛ لكي يضمنوا أن يصل العلم إلى أيدي الطلاب المنتمين لهذه الطوائف بتزكية مشايخهم!

والحقيقة المُرَّة التي يجب الاعتراف بها أن الحكمة ضالة المؤمن، ولكن بعض المؤمنين لا يطلبها إلا ممن انتمى إلى فكره جملة وتفصيلاً! فهل علاج هذا الخلل التربوي يكون بتقديم كل الكتب الجديرة بالقراءة التي يصنفها المخالفون؟

هذا - بالطبع - أمر مستحيل، والأسهل منه والأيسر أن نعالج الخلل نفسه، بأن ننتهج منهجًا تربويًّا يساعد في تكوين ملكة النقد، وحسن الانتقاء، ودقة التمييز بين ما يصلح وما لا يصلح.

ومن جميل ما يدل على تربية النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه على هذا المنهج النقدي الدقيق، ما رواه أبو نعيم في الحلية [1/ 103] وغيره؛ أن عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - كان في أول الإسلام يعيش في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى ما يحدث لإخوانه من أذى المشركين، عزَّ عليه أن يعذبوا دونه، فمضى إلى الكعبة، فوجد لَبِيد بن ربيعة في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان.

فقال لبيد:
ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ


فقال عثمان: صدقتَ.

فقال لبيد:
وكل نعيم -لا محالة- زائلُ


فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول... إلى آخر الخبر.

فهو ينقد البيت الواحد، ويزنه بميزان حساس يأخذ شطره ويدَع شطره، وعلى هذا يجب أن يربَّى المسلمون عامة، وطلاب العلم منهم خاصة.

أما لو انتقلنا إلى صنيع السلف الصالح، فما رأينا في مصنفاتهم التي وصلتنا مثل هذه التقديمات، وإنما لم يزد الأمر عند بعض متأخري السلف عن تقريظ في آخر الكتاب، لا يضاف - غالبًا - في حياة المصنف، وإنما يضيفه بعض النساخ باجتهادهم، ويلحقونه بالمخطوطات، وهذا صنيع امرئ يعرف ماذا يفعل؛ إذ به لا يصادر رأي القارئ من أول لحظة، بل يقرأ حتى إذا انتهى من الكتاب مكونًا رأيه الخاص؛ لم يضره في شيء تقريظُ مقرظ، ولا مدح مادح، وقد تحدث الكتاب عن نفسه، فأطنب القول وبيَّن.

بقي أن نقول: إن بعض المقدمين يضيف فعلاً إلى العمل الذي يقدمه؛ حيث يجيد عرض مفاتحه، ويسهل على القارئ أخذه، ويوقفه على طريقة فهمه، وكيفية الاستفادة منه، وقد يستطرد - عن رضا الكاتب أو جزعه - ناقدًا العمل نقدًا بنَّاءً، مظهرًا مواطن قوته، ومدى ما أضافه إلى العلم، ومبينًا نقاط ضعفه وتقصيره، وما الذي لو أضيف إليه لكان أفضل وأجمل.

وهذا الضرب من المقدِّمين الناقدين نادر جدًّا، وعزيز الوجود، وحسب كل كاتب أن يقرأ مثل هؤلاء النحارير عمله وينقدوه، فهو مكسب لا يقدر بمال، سواء قدموا له أم لم يقدموا.

ويجب أن ينطلق كل كاتب من قناعة مفادها: رأي قارئ ناقد خامل، خير من ألف مقدم مشهور مجامل.

وممَّن التزم ذلك من العلماء المعاصرين الشيخ بكر أبو زيد -، يقول عنه تلميذه محمد بن عبد الله الذياب في مقال عن الشيخ: "حدثني الأستاذ سعد الصميل صاحب دار ابن الجوزي، والمعتني بتفسير السعديّ الذي طبعته الدار؛ قال: بعد الفراغ من تحقيق الكتاب أعطيت الشيخ بكر نسخة من الكتاب قبل طباعته لينظر فيه ويقوم بكتابة مقدمة له، فمكث عنده فترة طويلة، ولمَّا كلَّمته في ذلك، قال لي: إن مسألة التقديم والكتابة لأي كتاب - عندي - ليست بالأمر الهيّن؛ فإن من يريد أن يقدم لكتاب ما لا بد أن يأتي بشيء جديد يفيد القارئ، وإلا فلا يُتعب نفسه".


يقول: وأُحيل القارئ الكريم على مقدمات الكتب التالية مما دبّجه الشيخ - كتقديمه الرائع لكتاب (الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية) المطبوع ضمن مجموعة (مؤلفات وآثار شيخ الإسلام ابن تيمية) وهو مجلد كبير حوى تراجم من كتب مطبوعة ومخطوطة عن شيخ الإسلام، فقدّم الشيخ للكتاب بمقدمة بلغت نحو ثلاثين صفحة. ومنها ما كتبه مقدِّمًا لكتاب (الموافقات) للشاطبي الطبعة التي حقّقها الشيخ مشهور سلمان وطُبعت في ستة مجلدات، فجاءت مقدمة الشيخ مدخلاً حافلاً يليق بالكتاب والعمل الذي بذل فيه المحقق جهداً مباركًا". ا.هـ.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.64 كيلو بايت... تم توفير 0.62 كيلو بايت...بمعدل (2.37%)]