عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 23-02-2022, 08:29 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 134,332
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب

ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب(7/10)
د. عيد محمد شبايك





المخزون الثقافي والخبرة الجمالية:
من الأمور التي يوظفها عبدالقاهر لإظهار مكانة المتلقِّي في الظاهرة الأدبية حرصُه على أن يكون المتلقِّي ذا عقل وفكر متميِّزين؛ حتى يقدر على استجلاء المعنى الحقيقي الذي يقصده المتكلِّم، خاصَّة إذا تعلَّق الأمر بالتعبير المجازي كالكناية والاستعارة والتمثيل... فبالإضافة إلى الخبرة والثقافة اللغوية، لا بُدَّ على المتلقِّي أن يكون قادرًا ليس فقط على معرفة السياق الحضاري الذي قيل فيه الكلام، ولكن على سياق الموقف الذي قيلت فيها العبارة.

ومن أنسب الأمثلة لتوضيح أثر السياق على المتلقِّي وهدايته للوقوف على المعنى الخفي لعبارةٍ ما، ما قاله عبدالقاهر بخصوص قولهم: "هو كثير رماد القدر"[1]، فهو يرى لكي يستطيع المتلقِّي إدراك المعنى الحقيقي الباطني، ومن ثَمَّ (البعد الجمالي) لهذا التعبير المجازي لا بُدَّ له: "أن يكون محيطًا - إلى جانب العلاقة اللغوية - بالعلاقات غير اللغوية التي يتوقَّف فَهْمُ المعنى الثاني على معرفتها"[2]، ومما لا شكّ فيه أن: "مرجعية هذه العلاقات ماثلة في أوضاع البيئة العربية البدوية؛ حيث تقضي الأعراف بتقديم الطعام للضيف الوافد، وحيث يكون طَهْوُ الطعام في قدور، وحيث تشعل النار تحت القدور في الحطب الذي يؤول فيما بعد إلى رماد، وحيث يتكاثر الرماد نتيجةً لكثرة الطَّهْوُ، وحيث يكثر الطَّهْوُ نتيجة لكثرة الضيوف"[3].

فعلى المتلقِّي أن يكون عالمًا بكلِّ هذه الأمور المرتبطة بحياة العربي آنذاك؛ حتى يستطيع أن يربط العبارة والسياق الحضاري الذي أفرزها... ومن ثَمَّ الربط بين كثرة الرماد وكثرة الجود أو الكرم، فمن أين إذًا لمتلقٍّ يجعل السياق الحضاري لهذه العبارة حتى يدرك أن كثرة الرماد هي عنوان الجود؛ بل وكثرته؟ وأنها جاءت في سياق المدح؛ وعليه فإن تحديد المتلقِّي لهذا السياق يتطلَّب منه يقَظَة وتنبُّهًا إذا كان الكلام دالاًّ عليه بنفسه، كما يتطلَّب منه معرفة تاريخه إذا كان واقعًا خارج الكلام"[4].

وهذا ما يؤكِّد أن السياق مرشد المتلقِّي "والحارس الأمين على المعنى"[5]، وأن المعرفة التامَّة به شرطٌ أساس للقراءة الصحيحة المنتِجة؛ لأن السياق إذًا هو الرصيد الحضاري للقول، وهو مادَّة تغذيته بوقود حياته وبقائه... وكلُّ نص أدبي هو حالة انبثاق عمَّا سبَقَه من نصوص تُماثِله في جنسه الأدبي، فالقصيدة الغزلية انبثاقٌ تولّد عن كلِّ ما سلف من شعر غزلي، وليس ذلك السالف سوى (سياق) أدبي لهذه القصيدة التي تمخَّضت وصار مصدرًا لوجودها النصوصي... فالمتنبي مخبوء في شوقي، وأبو تمام في السيّاب، وعمر بن أبي ربيعة في نزار قباني[6]؛ وعليه فإن القراءة لا يمكن أن تُعَدَّ صحيحة إلا إذا كانت منطلقة من مبدأ السياق؛ لأن النص توليد سياقي ينشأ عن عملية الاقتباس الدائمة من المستودَع[7]، ونُضِيف إلى سياق النص هذا سياق المستودَع الحضاري والثقافي والاجتماعي.

وفي الاستعارة تكشف اللغة عن تاريخ قديم للكلمات يُعِيد الشاعر إيقاظه فيها على نحوٍ لا يمكن لنا أن نكتشفه إذا تصوَّرنا أن المسألة لا تخرج عن أن تكون ضربًا من الإيهام والتخييل والصنعة التي يزيِّن بها الشاعر شعره ويقرِّبه إلى الناس، فعندما يقول منصور النمري:

مَنِيعُ الحِمَى لَكِنَّ أَعْنَاقَ مَالِهِ
يَظَلُّ النَّدَى يَسْطُو بِهَا وَيَسُورُ

وَقَفْتُ عَلَى حَالَيْكُمَا فَإِذَا النَّدَى
عَلَيْكَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَمِيرُ[8]



فإنه يحملنا حملاً على مراجعة دلالة كلمة (مال) عند العرب؛ لإدراك أي إيحاءاته استثمره الشاعر في هذا البيت، وإلى أي حدٍّ عُدَّ من أبيات المعاني الجِياد[9]، وبه وبمثله كان النمري أحدَ الشعراء الذين أسَّسوا لمذهب البديع، ووضعوا الشعر العربي على طريق جديد سلَكَه الشعراء بعدهم.

ويُقدِّم لنا أحد الباحثين النقاد[10] قراءةً لهذا البيت، كاشفًا عن عبقرية المبدِع في استخدام اللغة والمجاز (الاستعارة)، مُضفيًا عليه من حِسِّه وخبرته في التعامل مع النصوص الأدبية، فيقول: فإن كان المال هو كل ما يقتنى، وإذا كان قد انتهى وصفًا خاصًّا للذهب والفضة، فإن السياق الذي يضعُه فيه النمري يُوقِظ فيه دلالة قديمة، فالرقاب التي ظهرت للمال إنما جاءت من أن "أكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم"[11].

والإبل التي تتراءَى وراء رقاب المال وشيجةُ الصلة بالحِمَى المنيع الذي بسَطَه الشاعر في صدر بيته، ثم مضى يقتنص ما يمكن أن يلوح خلفه من دلالات وإيحاءات، ينتزع منه هذه الإبل الراتعة فيه فتصبح للمال رقاب، ثم يقتحم على هذا الحمى منعته واعتصامه حينما يسطو الندى ويسور بهذه الإبل، لا تعصمها منه الحمى ولا عزَّته.



وهكذا يتحرَّر المعنى في الشعر، فهو تتابع إيحاء الكلمة تتحرَّك فيه من الشيء إلى نقيضه، ومن الشيء إلى ما يدور في مضماره.

إن المعاني في المجال الاستعاري تتفاعَل فيكون التوسُّع، وهذا التوسُّع هو الذي يحدث الغموض، وعلى هذا الأساس تتحدَّد مهمَّة المتلقِّي بأنه المعوَّل إليه في تحليل النظام الجديد، وتزداد مهمَّته صعوبة عند حذف الطرف الرئيس للاستعارة[12].

فالرقاب التي ظهرت للمال تلبَّسته من فترة كان يختصُّ فيها بالإبل، حينما كانت قوام الاقتصاد في مجتمع رعوي كالمجتمع العربي، هذه الرقاب لا يكفي فيها أن يُقال: إنها ذِكرٌ للبعض وقصدٌ للكل، فالرقاب هي التي بالتحكُّم فيها يتحقَّق التحكُّم في الكائن إنسانًا كان أو حيوانًا، ولذلك أطلق على (العتق) فك الرقبة أو إعتاق الرقبة، كما أن الرقبة بالنسبة للحيوان هي موطن الذبح، فإذا تسلَّط الندى على المال، فإنما يتسلَّط على رقابها حينما تؤول إلى جُزُر تذبح للأضياف.

والشاعر بذلك يُوقِظ في اللغة تاريخ الكرم العربي ومسالكه، التي تظلُّ كامنة في اللغة حتى يجيء العبقري الذي يمتلك القدرة على الكشف عنها.

واللغة تقيم للممدوح أفقًا متوترًا تمنحه الحمى تارة، وتسلبه منه تارة أخرى، تقيمه حوله سياجًا ثم لا تلبث أن تنزع عنه هذا السياج، ومن خلال ذلك يحقِّق الشاعر أفقًا شعريًّا لممدوحه، فإذا كانت العزَّة تنطوي على الاستعلاء على الناس والانفصال عنهم، فإن الندى هو الذي يحطم في هذه العزة قدرتها على عزل الإنسان عن الآخرين، وبهذا يعيد إليه تواصله وتواشجه معهم.

ومن هذا المنطلق تنهض بين الأمير وما تقتضيه مكانة الإمارة من عزة ومنعة، وبين الندى واقتحامه لهذه العزة والمنعة، تنهض بين الاثنين علاقة نديَّة، تنتهي بأن يقول النمري:

وَقَفْتُ عَلَى حَالَيْكُمَا فَإِذَا النَّدَى
عَلَيْكَ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَمِيرُ


وخلاصة ما يمكن أن نخرج به هو أن الاستعارة - وهي جوهر الشعر - تكشف عن عبقرية الشاعر في فَهْمِ الطاقات الكامنة في اللغة، وبواسطة الاستعارة يتداخل العالم وتمتزج حدوده ليولد ولادة جديدة لا تتحقق إلا في الشعر.


[1] "دلائل الإعجاز": صـ 258.

[2] عز الدين إسماعيل: "قراءة في معنى المعنى عند عبدالقاهر": صـ 41.

[3] المصدر السابق، صـ 41، وينظر: "التعبير البياني": صـ 212، 213.

[4] المصدر السابق، صـ 42.

[5] "جمالية الألفة": صـ 105.

[6] "الخطيئة والتكفير": صـ 15، 16.

[7] عبدالله الغذامي: "الخطيئة والتكفير": صـ 78.

[8] "ديوان منصور النمري": صـ 82.

[9] أبو هلال العسكري، "ديوان المعاني": 1/58.

[10] هو الدكتور سعيد السريحي، (بنية الاستعارة)، "مجلة علامات"، النادي الأدبي بجدة، ج1، م1، ذو القعدة 1411هـ، وينظر: "الاستعارة في الدرس المعاصر (وجهات نظر عربية وغربية)".

[11] ابن منظور: "اللسان"، (مول).

[12] "مفهوم الأدبية في التراث النقدي": ص 125، 126.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.26 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.74%)]