رد: رجل الفكر والايمان ( حسن البنا )
حسن البنا
و
طريقتان:
وأحب أن أسجل هنا ذكريان إحداهما عملية والأخرى نظرية، أعجبت بهما واسترعتا تفكيري فترة من الوقت.
أما أولاهما فذكرى العلامة المفضال الشيخ أحمد الشرقاوي الهوريني رحمه الله، والذي لم أره إلا مرة واحدة: حين زار أبناءه وطلابه ومريديه وأحباءه بدمنهور، وتفقد شئونهم في منازلهم وبيوتهم، وقضى معنا ليلة لم يخرج فيها عن طبعه المألوف. وعرفت عن الرجل ما جعلني أكبره ولا أزال أذكره. عرفت عنه أنه أحب العلم والتعليم من كل قلبه فدفع إليه أهل بلدته، وكان يعين غير القادر على نفقات التعليم من ماله الخاص حتى يتم تعليمه، ثم بعد أن يتخرج يعمل على أن ينفق على طالب آخر من غير القادرين حتى يرد الدين - لا نقداً، ولكن علماً ومعرفة - وبهذه الطريقة لم يكن في هورين عاجز عن التعليم مهما كان أهله فقراء، ففد أغناهم جميعاً هذا التكافل العلمي، فضلاً عن تلك الرابطة الروحية التي كانت تجمع بين هؤلاء المتعلمين جميعا. وكانت متعة الرجل الوحيدة أن يتجمعوا من حوله، في الإجازة الصيفية فيرى عشرين أزهريا إلى جوار عشرين درعمياً - كما كان يسمى طلاب دار العلوم - إلى جانب خمسين من طلاب دار المعلمين الأولية.. إلى أعداد كثيرة من طلاب المعاهد على اختلاف أنواعها، يذاكرهم ويسامرهم ويورد عليهم الألغاز والاعتراضات، ويتلقى منهم الأسئلة والإجابات، ويشحذ بذلك الأذهان والهمم إلى الدرس والعلم والمعرفة، ومن هنا كان طلاب المعلمين الأولية بدمنهور الهورينيون عدداً عظيما، و قد زارهم زيادة تشجيعية قضاها في هذه النكات والمحاورات العلمية ولم أنج من أسئلته واعتراضاته وألغازه وإيراداته رحمه الله وأفسح له في جنته.
والذكرى الثانية ذكرى الشيخ صاوي دراز رحمه الله، وهو شاب فلاح، كان حينذاك لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وقد توفي بعد ذلك إلى رحمة الله، ولكنه كان نادرا في الذكاء ودقة الفهم، وتصوير الأمور، أخذنا نتحدث عن الأولياء والعلم، وتطرق بنا الحديث إلى سيدي إبراهيم الدسوقي المجاور لبلدهم، ثم إلى سيدي أحمد البدوي بطنطا فقال: أتدري ما نبأ سيدي أحمد البدوي؟ فقلت له لقد كان ولياً كريماً وتقياً صالحا وعالما فاضلا فقال: ذلك فقط؟ هذا ما نعلم، فقال: اسمع وأنا أحدثك.
جاء السيد البدوي إلى مصر من مهجره من مكة وكان أهله من المغرب، ولما نزل مصر كانت محكومة بالمماليك، مع أن ولايتهم لا تصح لأنهم ليسوا أحراراً وهو سيد علوي اجتمع له النسب والعلم والولاية، وأهل البيت يرون الخلافة حقاً لهم وقد انقرضت الخلافة العباسية وانتهي أمرها في بغداد، وتفرقت أمم الإسلام دويلات صغيرة يحكمها أمراء تغلبوا عليها بالقوة، ومنهم المماليك هؤلاء. فهناك أمران يجب على السيد أن يجاهد في سبيلهما: إعادة الخلافة واستخلاص الحكم من أيدي المماليك الذين لا تصح ولايتهم. كيف يفعل هذا؟ لا بد من ترتيب خاص. فجمع بعض خواصه ومستشاريه -- ومنهم سيدي مجاهد وسيدي عبد العال وأمثالهما—واتفقوا على نشر الدعوة وجمع الناس على الذكر والتلاوة وجعلوا اشارات هذا الذكر السيف الخشي أو العصا الغليظة لتقوم مقام السيف والطبل يجتمعون عليه، والبيرق ليكون علماً لهم والدرقة - وهذه شعائر الأحمدية - فإذا اجتمع الناس على ذكر الله وتعلموا أحكام الدين استطاعوا بعد ذلك أن يشعروا وأن يدركوا ما عليه مجتمعهم من فساد في الحكم وضياع في الخلافة فدفعتهم النخوة الدينية، واعتقاد واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى الجهاد في سبيل تصحيح هذه الأوضاع وكان هؤلاء الأتباع يجتمعون كل سنة. واختار السيد طنطا مركزا لحركته - لتوسطها في البلدان العامرة في مصر، ولبعدها عن مقر الحكم - فإذا اجتمع الأتباع سنوياً على هيئة” مولد” استطاع هو أن يدرك إلى أي مدى تأثر الناس بالدعوة. ولكنه لا يكشف لهم عن نفسه بل يعتكف فوق السطح ويضرب اللثام مضاعفاً ليكون ذلك أهيب في نفوسهم، وهذا هو عرف ذاك الزمان، حتى كان أتباعه يشيعون أن النظرة بموته فمن أراد أن ينظر إلى القطب فليستغن عن حياته في سبيل هذه النظرة. وهكذا انتشرت هذه الدعوة حتى أجتمع عليها خلق كثير.
ولكن الظروف لم تكن مواتية لتنجح هذه الحركة، فقد تولى مصر الظاهر بيبرس البندقداري، فانتصر على الصليبيين مرات، وانتصر على التتار مع المظفر قطز. ولمع اسمه وارتفع نجمه وأحبه العامة، ولم يكتف بذلك بل استقدم أحد أبناء العباسيين وبايعه بالخلافة فعلاً، فقضى على المشروع من أساسه، ولم يقف عند هذا الحد، بل أحسن السياسة مع السيد واتصل به ورفع من منزلته، وكلفه بأن يكون القيم على توزيع الأسرى حين تخليصهم من بلاد الأعداء لأهليهم لما في ذلك من تكريم وإعزاز، وكل ذلك قبل تمام هذا المشروع الخطير، واستمر الملك والحكم فعليا في المماليك، و إسميا لهذا الخليفة الصوري حيناً من الدهر. كنت أسمع هذا التعليل والتسلسل في تاريخ السيد البدوي وأنا أعجب لعقلية هذا الشاب الفلاح الذي لم يتعلم اكثر من التعليم الأولي في القرية، و كم في مصر من ذكاء مقبور، وعقل موفور لو وجد من يعمل على إظهاره من حيز القوة إلى حيز الفعل؟؟.. ولا زالت كلمات الشيخ الصاوي دراز رحمه الله تتمثل لي كأنما أسمعها الآن، وفيها عبرة وفيها طرافة والأمور بيد الله، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
|