السنة بين العادة والتشريع
كما يرى الشيخ الغزالي أنه لا بد من التفرقة بين ما صدر عن رسول الله عليه وسلم من حيث إنه وحي وتشريع، وبين ما هو عادي بحكم بشريته صلى الله عليه وسلم، فليس كل ما صدر عليه صلى الله عليه وسلم يطالب المسلم بفعله من جهة الوجوب أو الندب، بل هناك أمور كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم مراعاة للبيئة التي كان يعيش فيها، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يراعي المخاطبين في بعض هذه الأمور التي ترجع إلى العادة.
وفي ذلك يطرح الشيخ الغزالي السؤال: هل العاديات التي فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم تعتبر دينًا، يبر فاعلها ويأثم تاركها؟.
ويقرر الشيخ الغزالي اتفاق العلماء على أن ما فعله صلى الله عليه وسلم في حدود طبيعته البشرية الخاصة، فالمسلم غير مكلف باتباعه، ويضرب على ذلك مثلاً بأكل خالد بن الوليد – رضي الله عنه – الضب، ورفض النبي صلى الله عليه وسلم له، معللاً أن لم يألف أكله في قومه وأرضه، ولم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد ذلك.
وبذلك فإن كل ما فعله صلى الله عليه وسلم بعيدًا عن وظيفة النبوية والرسالة، فليس تكليفا للناس باتباعه.
أما فيما فعله صلى الله عليه وسلم ولم يظهر منه أن فعله قربة إلى الله، ورغم اختلاف العلماء بشأنه فمنهم من قال بندبه ومنهم من ساوى بين الفعل والترك، وآخرون ذهبوا إلى وجوب الفعل.
أما الشيخ الغزالي فيدلي برأيه قائلاً: "أما السنة ففيها عاديات لا نكلف باعتبارها كالعبادات اللازمة، وفيها توجيهات موقوتة بزمان مضى، وفيها توجيهات منظور فيها إلى أحوال معينة، وأقوام مخصوصين".
ويستدل لرأيه بـ "أن الصحابة رضوان الله عليهم – وهم أعلم الناس بالدين، وأحرص الناس على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يقرب إلى الله – كانوا يشاهدون من النبي صلى الله عليه وسلم أفعالاً، ولما لم يظهر لهم فيها قصد القربة، لم يتخذوها دينًا يتعبدون به، ويدعون الناس إليه".
ويضرب الشيخ الغزالي على ذلك أمثلة، مثل:
1- سير النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الساحل وقت الهجرة، ولم يسلكه الصحابة في الهجرة.
2- اختباء النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر – رضي الله عنه – في الغار، ولم يفعله الصحابة.
3- مراجعة الحباب بن المنذر – رضي الله عنه – الرسول صلى الله عليه وسلم في المكان الذي ينزلونه يوم بدر، وقد رجع النبي صلى الله عليه وسلم عن رأيه، ونزل على رأي الحباب.
فلم يكن فعله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاقتداء، وإلا لما ساغ للحباب – رضي الله عنه – أن يراجعه فيه، بل وينزل النبي صلى الله عليه وسلم على رأيه.
ويعقب الشيخ الغزالي قائلاً: "ولاشك أن إقحام الشئون العادية البحتة في نطاق الدين إضرار بدين الله ودنيا الناس جميعًا".