موقف الإمام من أحاديث الآحاد
يرى الشيخ الغزالي أن حديث الآحاد يمكن الأخذ به في الأحكام الشرعية، وقد كان هذا نهج جمهور العلماء، حتى يعتبر الخروج عن هذا الرأي ومخالفته أقرب للشذوذ.
ففي هذه المسألة يقول: "جمهور الأمة يقبل سنة الآحاد، ويعدها دليلاً على الحكم الشرعي الذي نتعبد الله بإقامته" (دستور الوحدة الثقافية ص 29).
فقد وافق الشيخ الغزالي - رحمه الله - جمهور العلماء في الأخذ بحديث الآحاد في الأحكام الشرعية كدليل معتبر.
كما يرى أن الأحكام الشرعية لا تُبنى على اليقين، بل هي مبنية على غلبة الظن، وإلا كانت الأحكام الشرعية كلها قطعية، لا اختلاف فيها، وإن كان الحق عند الله واحدا، فإن الناس متعبدون بما توصل إليه فقهاؤهم وعلماؤهم.
أما عن نظرة الشيخ الغزالي لأحاديث الآحاد في العقيدة فإنه يرى أنه لا يجوز الاحتجاج بأحاديث الآحاد في مسائل العقيدة، لما يترتب على ذلك من الحكم بالإيمان والكفر على الأشخاص، ومسائل العقيدة يجب أن تكون أدلتها متواترة لعظم أمرها، وخطورة شأنها، إلا إذا أحاطت بأخبار الآحاد قرائن أخرى تقويها.
ويرجع رفض الشيخ الغزالي لخبر الآحاد في العقيدة إلي أربعة أمور، أولها أن الخطأ والنسيان طبيعة بشرية، حتى أن بعض الرواة قد نقلوا ألفاظا متفاوتة في حادثة واحدة، ومن أمثلة ذلك حديث البخاري الذي يتحدث عن الإسلام والإيمان والإحسان، ففي بعض الروايات لم يذكر الحج، وذكر الأركان الأربعة، وفي رواية أخري ذكر الأركان عدا الصوم، وفي رواية ثالثة لم يذكر من الأركان إلا الشهادتين، وفي رواية رابعة ذكرت الأركان كلها، وزيد عليها: "وأن تعتمر وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء".
ويستدل الشيخ الغزالي بقول الحافظ ابن حجر: "فإن قيل: إنه لم يذكر الحج مع أنه من أهم أركان الإسلام، أجيب بأنه ذكره، لكن بعض الرواة، إما ذهل عنه أو نسيه".
والسبب الثاني لرفضه إثبات العقائد بأخبار الآحاد، هو أن الشريعة تثبت الحقوق المادية بشهادة رجلين عدل أو رجل وامرأتين، فكيف نهبط بنصاب الثقة في شئون الدين ؟ وإذا كان خبر العدل لا يثبت عشرة دنانير، فكيف يثبت عقيدة قد تطيح عند منكرها بالرقاب؟.
والسبب الثالث هو أن خبر الآحاد كان سببًا لاختلاف الفقهاء، حيث لم يصل لبعض الأئمة خبر الآحاد، أو وصل إليهم ثم نسوه، فهل هذه القناة المحدودة تصلح مجرى لنقل العقائد الرئيسة التي يهلك من جهلها؟ حيث يجب أن تأخذ العقائد طريقا لا يشوبه جهل أو غفلة، ويشبه الشيخ الغزالي أحاديث الآحاد بالحديث الصحفي مع رئيس الدولة. أما مصادر العقيدة والحقوق العامة، فهي تشبه الدستور الذي تيسرت مواده لكل مطلع.
والسبب الأخير الذي يرفض الشيخ الغزالي من أجله الاحتجاج بخبر الآحاد في مسائل العقيدة أن أخبار الآحاد قد رفض الأئمة بعضها، ويضرب على ذلك، أمثلة، مثل كون المعوذتين ليستا من القرآن، وأن سورة الأحزاب كانت في طول سورة البقرة ثم نسخت، وأن إرضاع الكبار يحرم كرضاع الصغار، وأن الصائم يتناول البرد ولا يفطر.
و يعقب الشيخ قائلا: "أن هذه المرويات حبر على ورق عند رجال الإسلام، مع ورودها في كتب السنة، والحق أن حديث الآحاد دليل محترم ما لم يكن هناك دليل أقوى منه وأولى بالقبول".
ويعرض الشيخ الغزالي لرأي جمهور المحدثين في خبر الآحاد بعد أن يذكر أن المالكية يقدِّمون عليه عمل أهل المدنية والأحناف يقدمون القياس عليه أيضا، ويرون ظاهر القرآن أولى به، نراه يعرض لرأي جمهور المحدثين، وهو يتلخص فيما يلي:
ويرد الغزالي - رحمه الله - على رأى جمهور المحدثين الذين يرفضون الطعن في حجية خبر الآحاد في العقيدة، بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرسل الأمراء وهم آحاد، ويبعث بالرسل إلى الملوك وهم كذلك آحاد فينقلون الشرائع والعقائد، كما يقولون أن خبر الآحاد لا يقدم عليه القياس باعتبار القياس فكر بشرى فلا يقدم على الوحي، ولا يقدم عليه عمل أهل المدينة، لأنه لو ثبت أن الرسول قال شيئا فلا يجوز الطعن فيه، فيقول الغزالي، أنه لا يرفض هذا الكلام بالكلية، ففي هذا الكلام جانب من الصواب، فإذا ثبت أن النبي قال، فلا رأي إلا السمع والطاعة! ولكن أنَّى لنا الثبوت؟ إن الريبة في قيمة السند، هل يهب لنا يقينًا أم لا؟ وذلك موضوع النزاع. أما عن رفضهم تقديم القياس على الحديث الضعيف، بحجة أن الحديث الضعيف فيه رائحة النبوة، ويرفض الغزالي ذلك؛ لأن القياس يقوم على تعدية حكم شرعي ثابت في قضية ما إلي مشابهة أخرى كتحريم الإجارة وقت النداء يوم الجمعة قياسًا على تحريم البيع وقت النداء، فأين هوى البشر هنا؟.
وإن كان البعض يشم من الحديث رائحة الوحي، فإن آخرين يشمون منه روائح الوضع، فلا لوم عليهم.
كما يرد الغزالي في احتجاجهم ببعث الرسول صلي الله عليه وسلم الرسل والسفراء وهم آحاد، أن خبر الواحد في هذا المقام له قيمته، لأن الملابسات التي تحيط به، توفر له الضمانات التي تمنع من الخطأ، فإن أخطأ، وجد من يصحح له.
ويقرر الشيخ الغزالي رحمه الله أن العقائد في ديننا، لم تتلقاها الأمة بأسانيد مفردة أو مزدوجة، بل تلقتها بالتواتر المؤسس للثقة المطلقة.
ويلاحظ هنا أن الشيخ الغزالي - رحمه الله - لا يطعن في الحديث ولكنه يطعن في ثبوته، فإذا ثبت الحديث عن الرسول صلي الله عليه وسلم كان الغزالي أول من يلتزم به، ومن هنا فإن الغزالي رحمه الله - طعن في صحة بعض الأحاديث، حيث رأى عدم ثبوتها عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، كما فرق بين رفض الحديث، وبين الطعن في صحته أو ثبوته.
كما أن الغزالي عرض رأيه، ولم يجبر أحدًا على الأخذ به. بالإضافة إلى أن الشيخ الغزالي رفض ترك حديث الآحاد لمجرد الهوى، بل هو يخضع رفضه إلي موازين معينة.