الاستسلام الفلسطيني
ان الاستسلام الفلسطيني الذي دفع إليه تسرب الوهن إلى بعض الأنفس، والبأس إلى بعض القلوب و الشعور بالمرارة من تخاذل الكثيرين من العرب، وارتماء بعضهم في أحضان الأمريكان، وسقوط السوفيت، والإحساس بالرعب من الوحش الأمريكي، وتحيزه الدائم لربيبته إسرائيل، واستطالة طريق الجهاد، وكثرة تكاليفه، وضحاياه، كل أولئك سارع بدفع عدد من القادة الفلسطنين إلى قبول ( السلام الأعرج) الذي عرضته إسرائيل، تحت عنوان (الأرض مقابل السلام) . يعنون أن تتخلى إسرائيل عن الأرض الفلسطينية والسورية واللبنانية التي احتلها عام (1967 م) في مقابل سلامها، بحيث لا يناوشها أحد ولا ينازعها. باختصار: هذا القول يعني: أرض العرب في مقابل سلام إسرائيل.
أي يردّون إلينا أرضنا المحتلة لينعموا بالسلام، معنى هذا: أن الأرض التي أخذوها بقوة السلاح وبالدم والعنف أمست ملكا لهم، وأمسى لهم الحق عليها، وهم يتنازلون عنها ليفوزوا بالسلام!
وقَبِل العرب المفاوضات على هذا الأساس الأعوج، وأعطوا إسرائيل السلام، ولكنها لم تعطهم شيئا، باعت لهم (الترام)! كما تحكي الحكايات عن القاهري الماكر والصعيدي الساذج.
ما معنى سلام يترك المشاكل الكبرى الأساسية كلها معلقة:
مشكلة القدس
مشكلة الاستيطان
مشكلة اللاجئين
مشكلة الحدود
هذه المشكلات الخطيرة معلقة مؤجلة، لا تبحث إلا في نهاية المفاوضات، ولم يسأل أحد: وإذا لم نتفق عليها في النهاية فماذا يكون الموقف؟
والحقيقة أن هذه المشاكل كانت معلقة ومؤجلة عند العرب، ولم تكن مؤجلة ولا معلقة عند إسرائيل، فقد أعلن اسحاق رابين عشية توقيع الاتفاق في 0أوسلو) قائلا ومصرحا: جئتكم من أورشليم ( القدس) العاصمة التاريخية والأبدية والموحدة لشعب إسرائيل!
وكذلك لم يؤجل موضوع الاستيطان، بل ظل مستمرا في أكثر من مكان في فلسطين، إلى أن فجرته المحاولة الصريحة الجريئة بإنشاء مستوطنة (هارحوما) في جبل أبو غنيم وكذلك في رأس العامود في القدس الشرقية، ولا يزال الاستبطان يتوسع وينمو، في حين لا يسمح للفلسطينيين أهل البلد وأصحاب الدار، بأي نمو أو توسع.
وكم رأينا بأعيننا البيوت تهدم على مرأى ومسمع، لأن إسرائيل لم تسمح بها. ولن تسمح يوما.
إن الفلسطينيين اليوم أدركوا أن إسرائيل تخدعهم وتلعب بهم، وأن انسحابها الجزئي المحدود جدا لم يكن إلا خدعة كبيرة، وأنها تستطيع أن تعود إلى احتلال المواقع التي أخْلتها في ساعات قلائل، وان زمام الأمور كلها بيديها، وأن لا حول لهم ولا طول، وأن السلطة التي منحتها إسرائيل لهم سلطة وهمية، هدف إسرائيل منها: إن تضرب الفلسطينيين بعضهم بعض، وأن تسلط بعضهم على بعض، وأن يكون بأسهم بينهم شديدا، لتقف هي متفرجة على صراع الأخ مع أخيه، وأن بندقية الفلسطيني لم تعد موجهه إلى صدر غاصب أرضهم بل إلى فلسطيني مثله. وهذا مراد إسرائيل.
ولما لم يتحقق لإسرائيل كل ما تريد، طلبت بصراحة من السلطة: تدمير حماس، وتحطيم كل قوة لها، وإعانة إسرائيل عليها. وهذا شرط أساسي وضروري اليوم للعودة للجلوس على مائدة السلام المزعوم.
إن إسرائيل ماضية في خطتها وإصرارها على تهويد القدس، وهي خطة ليست بنت اليوم ولا وليدة الأمس. وقد حددت هدفها، ورسمت سياستها، ومارست تنفيذها، بمحاصرتها بالمستوطنات، والعمل الدائب على تفريغها من أهلها العرب، مسلمين ومسيحيين ووضع العوائق والعقبات في سبيل نموّهم وامتدادهم عمرانيًا وبشريًا، والوقائع كلها شاهدة قاطعة، والعرب لا يملكون إلا الشجب والاحتجاج والاستنكار، وهذه كلها لا تجدي فتيلاً، ولا تحيي قتيلاً، ولا تشفي عليلاً. لقد احتج العرب على مستوطنة أبو غنيم، واحتجوا على احتلال بيت رأس العامود، ولكن احتجاجاتهم ذهبت أدراج الرياح.
لم يبق من شئ تخافه إسرائيل إلا الشباب الذين حملوا رؤوسهم على أكفهم، بائعين أرواحهم لله، لا يبالون أوقعوا على الموت أم وقع الموت عليهم، من الذين أقلقوا إسرائيل بعملياتهم الاستشهادية، وقذفوا الرعب في قلوب أبنائها، وأطاروا النوم من أجفانهم، ولا يفل الحديد إلا الحديد.
لهذا قامت إسرائيل – على أعلى مستوى فيها- بالانتقام من هؤلاء الأبطال، فقتلت الدكتور الشقاقي، والمهندس يحيى عياش، وشرعت أخيرا في قتل خالد مشعل، بسلاح كيماوي متطور، وفي بلد معاهد لهم، هو الأردن، ليعلم الجميع أن هؤلاء قوم لا عهد له ولا ذمة، كما قال تعالى في أسلافهم:{ الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون}الأنفال:56
وهم من قديم يقتلون كل من يقف في طريقهم أو ينتقدهم، أو يكشف أحابيلهم، من مدنيين وسياسين ومفكرين، فقد قتلوا اللورد موين، وقتلوا الكونت برنادوت، وقتلوا المفكر الإسلامي الدكتور اسماعيل الفاروقي وزوجته أشنع قتلة، هذا ما تقوله الوقائع ، ولا يزالون يهددون ويتوعدون كل من يقول كلمة لا تعجبهم، حتى الرسائل الأكاديمية أو البحوث العلمية، التي تتحدث عن مذابح النازية معهم، وتحاول أن تبين حجمها الحقيقي، لا يسمح لها أن تبرز وترى النور، حتى إن كاتبيها يتعرضون للمساءلة والمحاكمة بله المضايقة والإيذاء والتهديد، وآخرهم المفكر الفرنسي المعروف روجيه جارودي.
إن الذين ظلوا يحملون روح الشعب الفلسطيني المجاهد، وعناد مقاومته، واستعداده للتضحية، إنما هم تلك الفئة المؤمنة التي وهبت حياتها وكل ما تملك من نفس ونفيس، لتحرير الأرض المقدسة ومسجدها الأقصى. إنما هم أبناء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإخوانهم وأعوانهم في (الجهاد) المقدس ومن يشد أزرهم من أبناء الشعب. إنهم الذين باعوا أرواحهم لله ليشتروا الجنة، ولقد ابتلوا وأوذوا وسجنوا وعذبوا في سبيل الله، فصبروا وصابروا ورابطوا، ( فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين. وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) آل عمران: 146 ـ 147
وظني أن الاستسلام الذي جر إليه الفلسطينيون لن يستمر، فقد طفح الكيل، وبلغ السيل الزبى، وأوشك الصبر أن ينفد، وحينئذ لا يكون أمام هؤلاء إلا عودة الانتفاضة الشاملة أشد وأقوى مما كانت، ويفرض الواقع الجديد نفسه، وتنضم السلطة إلى الشعب، ويقف الجميع في وجه العدو صفًا واحدًا كالبنيان المرصوص. وصدق الشاعر:
إذا لم يكن إلا الأسنة مركب فما حيلة المضطر إلا ركوبها!