عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 26-04-2010, 10:15 PM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,883
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد الخلق في المعصية (لإبن القيم )

المشهد السابع
مشهد التوفيق والخذلان
وهو من تمام هذا المشهد وفروعه، ولكن أفرد بالذكر لحاجة العبد إلى شهوده وانتفاعه به وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق هو أن لا يكلك الله إلى نفسك، وأن الخذلان هو أن يخلى بينك وبين نفسك، فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا، فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه له ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له فهو دائر بين توفيقه وخذلانه فإن وفقه فبفضله ورحمته وإن خذله فبعدله وحكمته وهو المحمود على هذا وهذا له أتم حمد وأكمله ولم يمنع العبد شيئا هو له وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله.
فمتى شهد العبد هذا المشهد وأعطاه حقه علم شدة ضرورته وحاجته إلى التوفيق في كل نفس وكل لحظة وطرفة عين، وأن إيمانه وتوحيده بيده تعالى لو تخلى عنه طرفة عين لثل عرش توحيده ولخرت سماء إيمانه على الأرض وأن الممسك له هو من يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه فهجيرى قلبه ودأب لسانه: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»، «يا مصرف القلوب صرف قلبي إلى طاعتك» ودعواه: «يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك».
ففي هذا المشهد يشهد توفيق الله وخذلانه كما يشهد ربوبيته وخلقه فيسأله توفيقه مسألة المضطر ويعوذ به من خذلانه عياذ الملهوف، ويلقي نفسه بين يديه طريحا ببابه مستسلما له ناكس الرأس بين يديه خاضعا ذليلا مستكينا لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ونشورا.
والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد بأن يجعله قادرا على فعل ما يرضيه مريدا له محبا له مؤثرا له على غيره ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه إليه وهذا مجرد فعله والعبد محل له قال تعالى: }وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ{[الحجرات: 7- 8] فهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذا الفضل، ومن لا يصح له حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله لا يمنعه أهله ولا يضعه عند غير أهله، وذكر هذا عقيب قوله: }وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ{ ثم جاء به بحرف الاستدراك فقال: }وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ{[الحجرات: 7].
يقول سبحانه: لم تكن محبتكم للإيمان وإرادتكم له وتزيينه في قلوبكم منكم ولكن الله هو الذي جعله في قلوبكم كذلك فآثرتموه ورضيتموه فلذلك لا تقدموا بين يدي رسولي ولا تقولوا حتى يقول ولا تفعلوا حتى يأمر فالذي حبب إليكم الإيمان أعلم بمصالح عباده منكم وأنتم فلولا توفيقه لكم لما أذعنت نفوسكم للإيمان فلم يكن الإيمان بمشورتكم وتوفيق أنفسكم ولا تقدمتم به إليها فنفوسكم تقصر وتعجز عن ذلك ولا تبلغه فلو أطاعكم رسولي في كثير مما تريدون لشق عليكم ذلك ولهلكتم وفسدت مصالحكم وأنتم لا تشعرون ولا تظنوا أن نفوسكم تريد لكم الرشد والصلاح كما أردتم الإيمان فلولا أني حببته إليكم وزينته في قلوبكم وكرهت إليكم ضده لما وقع منكم ولا سمحت به أنفسكم.
وقد ضرب للتوفيق والخذلان مثل ملك أرسل إلى أهل بلد من بلاده رسولا وكتب معه إليهم كتابا يعلمهم أن العدو مصبحهم عن قريب ومجتاحهم ومخرب البلد ومهلك من فيها، وأرسل إليهم أموالا ومراكب وزادًا وعدة وأدلة وقال ارتحلوا مع هؤلاء الأدلة وقد أرسلت إليكم جميع ما تحتاجون إليه ثم قال لجماعة من مماليكه: اذهبوا إلى فلان فخذوا بيده واحملوه ولا تذروه يقعد واذهبوا إلى فلان كذلك وإلى فلان وذروا من عداهم فإنهم لا يصلحون أن يساكنوني في بلدي فذهب خواص مماليكه إلى من أمروا بحملهم فلم يتركوهم يقرون بل حملوهم حملا وساقوهم سوقا إلى الملك فاجتاح العدو من بقي في المدينة وقتلهم وأسر من أسر.
فهل يعد الملك ظالما لهؤلاء أم عادلا فيهم نعم خص أولئك بإحسانه وعنايته وحرمها من عداهم إذ لا يجب عليه التسوية بينهم في فضله وإكرامه بل ذلك فضله يؤتيه من يشاء.
وقد فسرت القدرية الجبرية التوفيق بأنه خلق الطاعة، والخذلان بأنه خلق المعصية.
ولكن بنوا ذلك على أصولهم الفاسدة من إنكار الأسباب والحكم وردوا الأمر إلى محض المشيئة من غير سبب ولا حكمة.
وقابلهم القدرية النفاة ففسروا التوفيق بالبيان العام والهدى العام والتمكن من الطاعة والإقبال عليها وتهيئة أسبابها وهذا حاصل لكل كافر ومشرك بلغته الحجة وتمكن من الإيمان.
فالتوفيق عندهم أمر مشترك بين الكفار والمؤمنين إذ الإقدار والتمكين والدلالة والبيان قد عم به الفريقين ولم يفرد المؤمنين عندهم بتوفيق وقع به الإيمان منهم والكفار بخذلان امتنع به الإيمان منهم ولو فعل ذلك لكان عندهم محاباة وظلما.
والتزموا لهذا الأصل لوازم قامت بها عليهم سوق الشناعة بين العقلاء ولم يجدوا بدا من التزامها فظهر فساد مذهبهم وتناقض قولهم لمن أحاط به علما وتصوره حق تصوره وعلم أنه من أبطل مذهب في العالم وأردئه.
وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فلم يرضوا بطريق هؤلاء ولا بطريق هؤلاء وشهدوا انحراف الطريقين عن الصراط المستقيم فأثبتوا القضاء والقدر وعموم مشيئة الله للكائنات، وأثبتوا الأسباب والحكم والغايات والمصالح، ونزهوا الله عز وجل أن يكون في ملكه ما لا يشاء أو أن يقدر خلقه على ما لا يدخل تحت قدرته ولا مشيئته، أو أن يكون شيء من أفعالهم واقعا بغير اختياره وبدون مشيئته ومن قال ذلك فلم يعرف ربه ولم يُثْبِت له كمال الربوبية.
ونزهوه مع ذلك عن العبث وفعل القبيح وأن يخلق شيئًا سدى وأن تخلوا أفعاله عن حكم بالغة لأجلها أو جدها وأسباب بها سببها وغايات جعلت طرقا ووسائل إليها وأن له في كل ما خلقه وقضاه حكمة بالغة وتلك الحكمة صفة له قائمة به ليست مخلوقة كما تقول القدرية النفاة للقدر والحكمة في الحقيقة.
فأهل الصراط المستقيم بريئون من الطائفتين إلا من حق تتضمنه مقالاتهم فإنهم يوافقونهم عليه ويجمعون حق كل منهما إلى حق الأخرى ولا يبطلون ما معهم من الحق لما قالوه من الباطل فهم شهداء الله على الطوائف وأمناؤه عليهم حكام بينهم حاكمون عليهم ولا يحكم عليهم أحد منهم يكشفون أحوال الطوائف ولا يكشفهم إلا من كشف له عن معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وعرف الفرق بينه وبين غيره ولم يلتبس عليه وهؤلاء أفراد العالم ونخبته وخلاصته ليسوا من الذين فرقوا دنيهم وكانوا شيعا ولا من الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبرا بل ممن هم على بينة من ربه وبصيرة في إيمانه ومعرفة بما عند الناس والله الموفق.

المشهد الثامن
مشهد الأسماء والصفات
وهو من أجل المشاهد وهو أعلى مما قبله وأوسع.
والمطلع على هذا المشهد معرفة تعلق الوجود خلقا وأمرا بالأسماء الحسنى والصفات العلى وارتباطه بها وإن كان العالم بما فيه من بعض آثارها ومقتضياتها.
وهذا من أجل المعارف وأشرفها وكل اسم من أسمائه سبحانه له صفة خاصة فإن أسماءه أوصاف مدح وكمال وكل صفة لها مقتض وفعل إما لازم وإما متعد ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه، وهذا في خلقه وأمره وثوابه وعقابه كل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها.
ومن المحال تعطيل أسمائه عن أوصافها ومعانيها وتعطيل الأوصاف عما تقتضيه وتستدعيه من الأفعال وتعطيل الأفعال عن المفعولات كما أنه يستحيل تعطيل مفعوله عن أفعاله وأفعاله عن صفاته وصفاته عن أسمائه وتعيطل أسمائه وأوصافه عن ذاته.
وإذا كانت أوصافه صفات كمال وأفعاله حكما ومصالح وأسماؤه حسنى ففرض تعطيلها عن موجباتها مستحيل في حقه ولهذا ينكر سبحانه على من عطله عن أمره ونهيه وثوابه وعقابه وأنه بذلك نسبه إلى ما لا يليق به وإلى ما يتنزه عنه وأن ذلك حكم سيئ ممن حكم به عليه وأن من نسبه إلى ذلك فما قدره حق قدره ولا عظمه حق تعظيمه كما قال تعالى في حق منكري النبوة وإرسالالرسل وإنزال الكتب:}وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ{ [الأنعام: 91]، وقال تعالى في حق منكري المعاد والثواب والعقاب: }وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ{ [الزمر: 67]، وقال في حق من جوز عليه التسوية بين المختلفين كالأبرار والفجار والمؤمنين والكفار: }أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ{ [الجاثية: 21]، فأخبر أن هذا حكم سيئ لا يليق به تأباه أسماؤه وصفته وقال سبحانه: }أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ{[المؤمنون: 115- 116] عن هذا الظن والحسبان الذين تأباه أسماؤه وصفاته.
ونظائر هذا في القرآن كثيرة ينفي فيها عن نفسه خلاف موجب أسمائه وصفاته إذ ذلك مستلزم تعطيلها عن كمالها ومقتضياتها.
فاسمه الحميد المجيد يمنع ترك الإنسان سدى مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب، وكذلك اسمه الحكيم يأبى ذلك، وكذلك اسمه الملك واسمه الحي يمنع أن يكون معطلا من الفعل بل حقيقة الحياة الفعل؛ فكل حي فعال، وكونه سبحانه خالقا قيوما من موجبات حياته ومقتضياتها، واسمه السميع البصير يوجب مسموعا ومرئيا، واسمه الخالق يقتضي مخلوقا، وكذلك الرزاق واسمه الملك يقتضي مملكة وتصرفا وتدبيرا وإعطاء ومنعا وإحسانا وعدلا وثوابا وعقابا، واسم البر المحسن المعطي المنان ونحوها تقتضي آثارها وموجباتها.
إذا عرف هذا فمن أسمائه سبحانه الغفار التواب العفو فلا بد لهذه الأسماء من متعلقات ولا بد من جناية تغفر وتوبة تقبل وجرائم يعفى عنها ولا بد لاسمه الحكيم من متعلق يظهر فيه حكمه إذ اقتضاء هذه الأسماء لآثارها كاقتضاء اسم الخالق الرازق المعطي المانع للمخلوق والمرزوق والمعطي والممنوع وهذه الأسماء كلها حسنى.
والرب تعالى يحب ذاته وأوصافه وأسماءه فهو عفو يحب العفو ويحب المغفرة ويحب التوبة ويفرح بتوبة عبده حين يتوب إليه أعظم فرح يخطر بالبال.
وكان تقدير ما يغفره ويعفو عن فاعله ويحلم عنه ويتوب عليه ويسامحه من موجب أسمائه وصفاته وحصول ما يحبه ويرضاه من ذلك، وما يحمد به نفسه ويحمده به أهل سمواته وأهل أرضه ما هو من موجبات كماله ومقتضى حمده.
وهو سبحانه الحميد المجيد وحمده ومجده يقتضيان آثارهما.
ومن آثارهما مغفرة الزلات وإقالة العثرات والعفو عن السيئات والمسامحة على الجنايات مع كمال القدرة على استيفاء الحق والعلم منه سبحانه بالجناية ومقدار عقوبتها فحلمه بعد علمه وعفوه بعد قدرته ومغفرته عن كمال عزته وحكمته كما قال المسيح صلى اللهعليه وسلم:}إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{ [المائدة: 118] أي فمغفرتك عن كمال قدرتك وحكمتك لست كمن يغفر عجزا ويسامح جهلا بقدر الحق بل أنت عليم بحقك قادر على استيفائه حكيم في الأخذ به.
فمن تأمل سريان آثار الأسماء والصفات في العالم وفي الأمر تبين له أن مصدر قضاء هذه الجنايات من العبيد وتقديرها هو من كمال الأسماء والصفات والأفعال وغايتها أيضا مقتضى حمده ومجده كما هو مقتضى ربوبيته وإلهيته.
فله في كل ما قضاه وقدره الحكمة البالغة والآيات الباهرة والتعرفات إلى عباده بأسمائه وصفاته واستدعاء محبتهم له وذكرهم له وشكرهم له وتعبدهم له بأسمائه الحسنى إذ كل اسم فله تعبد مختص به علما ومعرفة وحالا وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر كمن يحجبه التعبد باسمه القدير عن التعبد باسمه الحليم الرحيم أو يحجبه عبودية اسمه المعطي عن عبودية اسمه المانع أو عبودية اسمه الرحيم والعفو والغفور عن اسمه المنتقم أو التعبد بأسماء التودد والبر واللطف والإحسان عن أسماء العدل والجبروت والعظمة والكبرياء ونحو ذلك وهذه طريقة الكمل من السائرين إلى الله وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن قال الله تعالى : }وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا{ [ الأعراف : 180] والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء الثناء ودعاء التعبد وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته فهو عليم يحب كل عليم جواد يحب كل جواد، وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عفو يحب العفو وأهله، حيي يحب الحياء وأهله، بر يحب الأبرار، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم يحب أهل الحلم؛فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح : خلق من يغفر له ويتوب عليه ويعفو عنه وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له ليترتب عليه المحبوب له المرضي له فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب فربما كان مكروه العباد إلى محبوبها سبب ما مثله سبب والأسباب مع مسبباتها أربعة أنواع : محبوب يفضي إلى محبوب، ومكروه يفضي إلى محبوب؛ وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه والثالث : مكروه يفضي إلى مكروه والرابع : محبوب يفضي إلى مكروه وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره الذي ما خلق ما خلق ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها لا تكون إلا محبوبة للرب مرضية له والأسباب الموصلة إليها منقسمة إلى محبوب له ومكروه له فالطاعات والتوحيد: أسباب محبوبة له موصلة إلى الإحسان والثواب المحبوب له أيضا والشرك والمعاصي: أسباب مسخوطة له موصلة إلى العدل المحبوب له وإن كان الفضل أحب إليه من العدل فاجتماع العدل والفضل أحب إليه من انفراد أحدهما عن الآخر؛ لما فيهما من كمال الملك والحمد وتنوع الثناء وكمال القدرة فإن قيل : كان يمكن حصول هذا المحبوب من غير توسط المكروه قيل : هذا سؤال باطل لأن وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع والذي يقدر في الذهن وجوده شيء آخر غير هذا المطلوب المحبوب للرب وحكم الذهن عليه بأنه محبوب للرب حكم بلا علم بل قد يكون مبغوضا للرب تعالى لمنافاته حكمته فإذا حكم الذهن عليه بأنه محبوب له كان نسبة له إلى ما لا يليق به ويتعالى عنه فليعطِ اللبيب هذا الموضع حقه من التأمل فإنه مزلة أقدام ومضلة أفهام، ولو أمسك عن الكلام من لا يعلم لقل الخلاف، وهذا المشهد أجل من أن يحيط به كتاب أو يستوعبه خطاب وإنما أشرنا إليه أدنى إشارة تطلع على ما وراءها والله الموفق والمعين.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.51 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.88 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.13%)]