
إنَّ الفقه في أسماء الله والحسنى باب شريف من العلم ، بل هو الفقه الأكبر ، وهو يدخل دخولاً أوَّليًّا ومقدَّما في قوله صلى الله عليه وسلم (( من يرد الله به خيرا يفقه في الدين )) متفق عليه ، وهو أشف ما صرفت فيه الأنفاس ، وخير ما سعى في تحصيله ونيله أولو النهى والرشاد ، بل هو الغاية التي تسابق إليها المتسابقون ، والنهاية التي تنافس فيها المتنافسون ، وهو عماد السير إلى الله ، والمدخل القويم لنيل محابِّه ورضاه ، والصراط المستقيم لكل من أحبَّه الله واجتباه .
وكما أن لكل بناء أساسًا فإنَّ أساس بناء الدِّين الإيمانُ بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته ، وكلّما كان هذا الأساس راسخا حمل البنيان بقوة وثبات ، وسَلِم من التداعي والسقوط .
قال ابن القيم رحمه الله (( من أراد علوَّ بنيانه فعليه بتوثيق أساسه وإحكامه وشدَّة الاعتناء به ، فإن علوَّ البنيان على قدر توثيق الأساس وإحكامه ، فالأعمال والدرجات بنيان وأساسها الإيمان ، ومتى كان الأساس وثيقا حمل البنيان واعتلى عليه ، وإذا تهدَّم شيء من البنيان سهل تداركه ، وإذا كان الأساس غير وثيق لم يرتفع البنيان ولم يثبت ، وإذا تهدم شيء من الأساس سقط البنيان أو كاد .
فالعارف همَّته تصحيح الأساس وإحكامه ، والجاهل يرفع في البناء عن غير أساس فلا يلبث بنيانه أن يسقط قال تعالى { أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم } [ التوبة : 109 ] .
فالأساس لبناء الأعمال كالقوة لبدن الإنسان فإذا كانت القوة قوية حملت البدن ودفعت كثيرا من الآفات ، وإذا كانت القوة ضعيفة ضعف حملها للبدن وكانت الآفات إليه أسرع شيء .
فاحمل بنيانك على قوة أساس الإيمان فإذا تشعث شيء من أعالي البناء وسطحه كان تداركه أسهل عليك من خراب الأساس .
وهذا الأساس أمران : صحة المعرفة بالله وأمره وأسمائه وصفاته ، والثاني : تجريد الانقياد له ولرسوله دون ما سواه .
فهذا أوثق أساس أسَّس العبد عليه بنيانه ، وبحسبه يعتلي البناء ماشاء الله )).
ولذا كثرت الدلائل في القرآن الكريم المرسخة لهذا الأساس المثبتة لهذا الأصل ، بل لا تكاد تخلو آية من آياته من ذكر لأسماء الله الحسنى وصفاته العليا ؛ مما يدل دلالة واضحة على أهمية العلم بها والضرورة الماسّة لمعرفتها ، كيف لا يتبوء هذه المكانة المنيفة وهو الغاية التي خلق الناس لأجلها وأوجدوا لتحقيقها فالتوحيد الذي خلق الله الخلق لأجله نوعان :
· توحيد المعرفة والإثبات ، وهو يشمل الإيمان بربوبية الله والأسماء والصفات .
· توحيد الإرادة والطلب ، وهو توحيد العبادة .
دل على الأول قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [ الطلاق :12 ] .
ودل على الثاني قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات :56 ] .
في الأولى خلق لتعلموا ، والثانية خلق لتعبدوا فالتوحيد علم وعمل .
وجاء في القرآن آيات كثيرة فيها الأمر بتعلم هذا العلم الشريف والعناية بهذا الأصل العظيم .
قال تعالى { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ البقرة : 209 ] ، وقال { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ البقرة :331 ] ، وقال { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ البقرة : 233 ] ، وقال { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [ البقرة : 235 ] ، وقال { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 244 ] ، وقال { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ البقرة : 267 ] ، وقال { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ المائدة : 98 ] ، وقال { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } [ الأنفال : 40 ] ، وقال { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 194 ] ، وقال { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } [ البقرة : 235 ] ، وقال { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [ محمد : 19 ] . والآيات في هذا المعنى تقارب الثلاثين آية .
وأما ذكر لأسمائه وصفاته في القرآن فهو كثير جدَّا ولا يقارن به ذكره سبحانه لأيَّ أمر آخر ، إذ هو أعظم شيء ذكر في القرآ ن وأفضله وأرفعه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (( والقرآن فيه ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة ، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد ، فأعظم آية في القرآن آية الكرسي المتضمنة لذلك ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال لأبي بن كعب (( أتدري أيّ آية في كتاب الله أعظم ؟ )) قال : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ، فضرب بيده على صدره وقال (( ليهنك العلم أبا المنذر ))
وأفضل سورة سورة أم القرآن كما ثبت في حديث أبي سعيد بن المعلى في الصحيح ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم (( إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) ، وفيها من ذكر أسماء الله وصفاته أعظم مما فيها من ذكر المعاد .
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن ، وقد ثبت أنه بشر الذي كان يقرأها ويقول : إني لأحبها لأنها صفة الرحمن بأن الله يحبه ، فبيَّن أن الله يحب من يحب ذكر صفاته سبحانه وتعالى وهذا باب واسع )) .
وكل هذا واضح الدلالة على أهمية هذا العلم الشريف وعظم شأنه وكثرة خيراته وعوائده ، وأنه أصل من أصول الإيمان ، وركن من أركان الدين ، وأساس من أسس ملة الإسلام عليه تبني مقامات الدين الرفيعة ومنازله العالية ، وكيف يستقيم أمر البشرية وتصلح حال الناس بدون معرفتهم بفاطرهم وبارئهم وخالقهم ورازقهم ، ودون معرفتهم بأسماء الحسنى وصفاته العليا ونعوته الكاملة الدالة على كماله وجلاله وعظمته ، وأنه المعبود بحق ولا معبود بحق سواه ، ولكن أكثر الناس شغلهم ما خلق لهم عما خلقوا له ، وقد حذر الله عباده من ذلك بقوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ المنافقون :9 ] ،
والله المستعان والموفق لكل خير