ب- اتقوا الشح :
نهى الله تعالى عن البخل والشح قال سبحانه : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى) (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعسْرَى) (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) (الليل: 11،8) .وقال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(التغابن: 16).
والبخل: هو منع ما يجب وما ينبغي بذله.
و الشح: هو الطمع فيما ليس عنده، وهو أشد من البخل؛ لأن الشحيح يطمع فيما عند الناس ويمنع ما عنده، والبخيل يمنع ما عنده مما أوجب الله عليه من زكاة ونفقات، ومما ينبغي بذله فيما تقتضيه المروءة.
وكلاهما - أعني البخل والشح- خلقان ذميمان، فإن الله سبحانه وتعالى ذم من يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، وقال (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(التغابن: 16).
قال الخطابي : (الشح) ابلغ في المنع من البخل ,وإنما الشح بمنزلة الجنس والبخل بمنزلة النوع , وأكثر ما يقال البخل إنما هو في أفراد الأمور وخواص الأشياء , والشح عام وهو كالوصف اللازم للإنسان من قبل الطبع والجبلة . عون المعبود شرح سنن أبي داود للعلامة أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم أبادي 1682.
فالمسلم كريم لا يحب البخل فهو يعلم أن الكرم سبيل إلى مرضاة الله تعالى , وأن ما ينفقه هو الذي يبقى له عند الله , عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِىِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ :بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ . فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ فَأَفْرَغَ مَاءَهُ في حَرَّةٍ فَانْتَهَى إِلَى الْحَرَّةِ فَإِذَا هُوَ في أَذْنَابِ شِرَاجٍ وَإِذَا شِرَاجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ فَتَبِعَ الْمَاءَ فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللهِ مَا اسْمُكَ قَالَ فُلاَنٌ بِالاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحَابَةِ . فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللهِ لِمَ سَأَلَتْنِى عَنِ اسْمِى قَالَ إِنِّى سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحَابِ الذي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ لاِسْمِكِ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا قَالَ أَمَا إِذَا قُلْتَ هَذَا فإني أَنْظُرُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ وَآك ُلُ أَنَا وَعِيَالِى ثُلُثَهُ وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ. أخرجه أحمد 2/296(7928) و\"مسلم\" 8/222 و223 ( صحيح ) انظر حديث رقم : 2864 في صحيح الجامع .
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : \"إن الله كريم يحب الكرماء، جواد يحب الجودة، يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها\" صحيح: رواه الطبراني في \"الكبير والحاكم في \"المستدرك\"، والبيهقي في \"شعب الإيمان\" \"صحيح الجامع\" رقم (1800).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم :أي الإسلام خير ؟ قال : تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف . [ متفق عليه ].
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟!فقال صلى الله عليه وسلم : إدخالك السرور على مؤمن أشبعت جوعته ، أو كسوت عورته ، أو قضيت له حاجة . رواه الطبراني في الأوسط وحسنه الألباني (954) في صحيح الترغيب .
وقد جاء في بعض الإسرائيليات : قال موسى لرب العزة عزَّ وجل : فما جزاء من أطعم مسكينا ابتغاء وجهك ؟ قال : يا موسى آمر مناديا ينادي على رؤوس الخلائق إن فلان بن فلان من عتقاء الله من النار.[ حلية الأولياء (6/19) .
عن أبي بردة قال لما حضر أبا موسى الوفاة قال يا بني اذكروا صاحب الرغيف قال كان رجل يتعبد في صومعة أراه قال سبعين سنة لا ينزل إلا في يوم واحد قال فشبه أو شب الشيطان في عينه امرأة فكان معها سبعة أيام أو سبع ليال قال ثم كشف عن الرجل غطاؤه فخرج تائبا فكان كلما خطا خطوة صلى وسجد فآواه الليل إلى دكان كان عليه اثني عشر مسكينا فأدركه العياء فرمى بنفسه بين رجلين منهم وكان ثم راهب يبعث إليهم كل ليلة بأرغفة فيعطي كل إنسان رغيفا فجاء صاحب الرغيف فأعطى كل إنسان رغيفا ومر على ذلك الرجل الذي خرج تائبا فظن أنه مسكين فأعطاه رغيفا فقال المتروك لصاحب الرغيف مالك لم تعطني رغيفي ما كان بك عنه غنى فقال أتراني أمسكته عنك سل هل أعطيت أحدا منكم رغيفين قالوا لا قال تراني أمسكته عنك والله لا أعطيك الليلة شيئا فعمد التائب إلى الرغيف الذي دفعه إليه فدفعه إلى الرجل الذي ترك فأصبح التائب ميتا قال فوزنت السبعون سنة بالسبع الليالي فرجحت السبع الليالي ثم وزنت السبع الليالي بالرغيف فرجح الرغيف فقال أبو موسى يا بني اذكروا صاحب الرغيف . ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه 8 /107. وأبو نعيم في : حلية الأولياء 1/263 .
قال الشافعي :
وإن كثرت عيوبك في البرايا * * * وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب * * * يغطيه كما قيل السخاء
وقال آخر:
أخو البشر محمود على كلّ حالةٍ * * * ولن يعدم البغضاء من كان عابساً
ويسرع بخل المرء في هتك عرضه * * * ولم أر مثل الجود للعرض حارساً
وقال شمس الدين البديوي
إذا المرء وافى منزلا منك قاصدا * * * قراك وأرمته لديك المسالك
فكن باسما في وجهه متهللا * * * وقل مرحبا أهلا ويوم مبارك
وقدم له ما تستطيع من القرى * * * عجولا ولا تبخل بما هو هالك
فقد قيل بيت سالف متقدم * * * تداوله زيد وعمرو ومالك
بشاشة وجه المرء خير من القرى ... فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك
وأما البخل فانه يشين صاحبه ويجعله مصدرا للتندر بين الناس , لذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله دائما من البخل والشح , عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُنَا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا تُعَلَّمُ الْكِتَابَةُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْقَبْرِ.صحيح البخاري
قال الأصمعي: كنت عند رجل من ألأم الناس وأبخلهم ، وكان عنده لبن كثير، فسمع به رجل ظريف ، فقال: لأن أموت أو أشرب من لبنه. فأقبل مع صاحب له حتى إذا كان بباب صاحب اللبن، تغاشى وتماوت، فقعد صاحبه عند رأسه يسترجع، فخرج إليه صاحب اللبن، فقال: ما باله يا سيدي؟ قال: هذا سيد بني تميم، أتاه أمر الله هاهنا، وكان قال لي: اسقني لبناً. قال صاحب اللبن: هذا هين موجود، ائتني يا غلام بعلبة من لبن. فأتاه بها. فأسند صاحبه إلى صدره وسقاه، حتى أتى عليها، ثم تجشأ. فقال صاحبه لصاحب اللبن: أترى هذه الجشأة راحة الموت؟ قال: أماتك الله وإياه وفطن بأنه خدعة.
وقال الجاحظ للحزامي: أترضى أن يقال لك بخيل؟ قال: لا أعدمني الله هذا الاسم ، لان يقال لي بخيل إلا وأنا ذو مال، فسلم لي المال وسمني بأي اسم شئت. قلت: ولا يقال لك سخي إلا وأنت ذو مال، فقد جمع الله لاسم السخاء المال والحمد، وجمع لاسم البخل المال والذم. قال: بينهما فرقٌ عجيب وبون بعيد، إن في قولهم بخيل سبباً لمكث المال في ملكي ، وفي قولهم سخي سبباً لخروج المال عن ملكي، واسم البخيل فيه حزم، واسم السخي فيه تضييع وحمد، والمال ناض نافع وكرم لأهله، والحمد ريح وسخرية وسمعة ، وما أقل غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه ، وعرى ظهره، وضاع عياله، وشمت به عدوه.
قال أبو نواس يصف أحد البخلاء:
أبو هند نزلت عليه يوما* * * فغداني برائحة الطعام
وقدم بيننا لحما سمينا* * * أكلناه على طبق الكلام
فكان كمن سقى الظمآن إلا* * * وكنت كمن تغدى بالكلام
قال آخر يصف عرسا:
مات في عرس سليمان* * * من الجوع جماعة
لم يكن ذلك عرسا* * * إنما كان مجاعة
ونزل على أبي حفصة الشاعر ،رجل من اليمامة فأخلى له المنزل،ثم هرب مخافة أن يلزمه قراه في تلك الليلة،فخرج الضيف واشترى ما احتاج إليه، ثم رجع وكتب إليه:
يا أيها الخارج من بيته* * * وهاربا من شدة الخوف
وقال ابن الرومي:
يقتر عيسى على نفسه* * * وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره* * * تنفس من منخر واحد
أعاذنا الله تعالى من الظلم ومن البخل ورزقنا الرضا بما قضا
صيد الفوائد