ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح فيما يروى عن ربه لا يزالعبدى يتقرب الى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها بي يسمع وبى يبصر وبى يبطش وبى يمشى ولئن سألنى لأعطيته ولئن إستعاذنى لأعيذنه وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددى عنقبض نفس عبدى المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته ولا يد له منه فبين سبحانه أنهيتردد لأن التردد تعارض إرادتين وهو سبحانه يحب ما يحب عبده ويكره ما يكرهه وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال وأنا أكره مساءلته وهو سبحانه قد قضى بالموت فهو يريد أن يموت فسمى ذلك تردداً ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك .
وهذا إتفاق واتحاد فى المحبوب المرضى المأمور به والمبغض المكروه المنهى عنه وقديقال له إتحاد نوعى وصفى وليس ذلك إتحاد الذاتين فان ذلك محال ممتنع والقائل به كافر وهو قول النصارى والغالية من الرافضة والنساك كالحلاجية ونحوهم وهو الاتحاد المقيد فى شئ بعينه .
وأما الإتحاد المطلق الذى هو قول أهل وحدة الوجود الذين الذين يزعمون أن وجودالمخلوق هو عين وجود الخالق فهذا تعطيل للصانع وجحود له وهو جامع لكل شرك فكما إن الإتحاد نوعان فكذلك الحلول نوعان قوم يقولون بالحلول المقيد فى بعض الأشخاص وقوم يقولون بحلوله فى كل شئ وهم الجهمية الذين يقولون أن ذات الله فى كل مكان .
وقد يقع لبعض المصطلمين من أهل الفناء فى المحبة أن يغيب بمحبونه عن نفسه وحبه ويغيـب بمدكـوره عـن ذكره وبعروفة عن معرفته وبموجوده عن وجوده حتـى لا يشهد الا محبوبه فيظن فى زوال تمييزه ونقص عقله وسكره أنه هو محبوبه كما قيل أن محبوباً وقع فى اليمفألقى المحب نفسه خلفه فقال أنا وقعت فأنت ما الذى أوقعك فقال غبت بك عنى فظننت أنكأنى فلا ريب أن هذا خطأ وضلال ، لكن إن كان هذا لقوة المحبة والذكر من غير أن يحصل عن سبب محظور زال به عقله كان معذورا فى زوال عقله فلا يكون مؤاخذا بما يصدر منه من الكلام فى هذه الحال التى زالفيها عقله بغير سبب محظور كما قيل فى عقلاء المجانين إنهم قوم آتاهم الله عقولاً وأحوالاً فسلب عقولهم وأبقى احوالهم وأسقط ما فرض بما سلب ، وأما إذا كان السبب الذى به زوال العقل مخطوراً لم يكن السكران معذوراً وان كان لا يكم بكفره فى أصح القولين كما لا يقع طلاقة فى أصح القولين وأن كان النزاع فى الحكم مشهورا وقد بسطنا الكلام فى هذا وفيمن يسلم له حاله ومن لا يسلم فى قاعدة ذلك وبكل حال فالفناء الذى يفضى بصاحبه الى مثل هذا حال ناقص وإن كان صاحبه غير مكلفولهذا لم يرد مثل هذا عن الصحابة الذين هم أفضل هذه الأمة ولا عن نبينا محمد صلىالله عليه وسلم وهو افضل الرسل وإن كان لهؤلاء فى صعق موسى نوع تعلق وإنما حدث زوال العقل عند الواردات الآلهية على بعض التابعين ومن بعدهم وأن كانت المحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب فى محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته فمن المعلوم ان من احبالله المحبة الواجبة فلا بد ان يبغض أعداءه ولا بد ان يحب ما يحبه من جهادهم كماقال تعالى : ()إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) ، والمحب التام لا يؤثر فيه لوم اللأئم وعذل العاذل بل ذلك يغريه بملازمة المحبةكما قد قال أكثر الشعراء فى ذلك وهؤلاء هم أهل الملام المحمود وهم الذين لا يخافونمن يلومهم على ما يحب الله ويرضاه من جهاد أعدائه فان الملام على ذلك كثير وأما الملام على فعل ما يكرهه الله أو ترك ما أحبه فهو لوم بحق وليس من المحمود الصبر على هذا الملام بل الرجوع الى الحق خير من التمادى فى الباطل وبهذا يحصل الفرق بي الملامية الذين يفعلون ما يحبه الله ورسوله ولا يخافون لومة لائم فى ذلك وبينالملامية الذين يفعلون ما يبغضه الله ورسوله ويصبرون على الملام فى ذلك .
فصل وإذا كانت المحبة اصل كل عمل دينى فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبةويرجع اليها فان الراجى الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب قال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ) ورحمته إسم جامع لكل خير وعذابه إسم جامع لكل شر ودار الرحمة الخالصة هى الجنة ودار العذاب الخالص هى النار وأما الدنيا فدار إمتزاج فالرجاء وإن تعلق بدخول الجنـة فالجنـة إسم جامع لكل نعيم وأعلاه النظر الى وجه الله كما فى صحيح مسلم عـن عبد الرحمنبن أبى ليلى عن صهيب عن النبى صلى الله عليه وسلم قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد لأن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ألم يثقل موازيننا ويدخلنا الجنة وينجينا من النار قال فيكشف الحجاب فينظروناليه فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهو الزيادة .
ومن هنا يتبين زوال الإشتباه فى قول من قال ما عبدتك شوقاً الى جنتك ولا خوفاً من نارك وانما عبدتك شوقاً الى رؤيتك فان هذا القائل ظن هو ومن تابعه إن الجنة لا يدخلفى مسماها الا الأكل والشرب واللباس والنكاح والسماح ونحو ذلك مما فيه التمتعبالمخلوقات كما يوافقه على ذلك من ينكر رؤية الله من الجهمية أو من يقربها ويزعمأنه لاتمتع بنفس رؤية الله كما يقولـه طائفـة مـن المتفقهة فهؤلاء متفقون على أن مسمى الجنة والآخرة لا يدخـل فيه الا التمتع بالمخلوقات ولهذا قال بعض من غلط من المشائخ لما سمع قوله منكم من يريد الدينا ومنكم من يريد الآخرة قال فأين من يريد الله وقال آخر فى قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) بأن لهم الجنة قال إذا كانت النفوس والأموال بالجنة فأين النظر اليه وكل هذا لظنهم أن الجنة لا يدخلفيها النظر ، و التحقيق أن الجنة هي الدار الجامعة لكل نعيم وأعلى ما فيها النظر الى وجه اللهوهو من النعيم الذى ينالونه فى الجنة كما أخبرت به النصوص وكذلك أهل النار فإنهممحجوبون عن ربهم يدخلون النار مع إن قائل هذا القول إذا كان عارفاً بما يقول فإنماقصده إنك لو لم تخلق ناراً أو لو لم تخلق جنة لكان يجب أن تعبد ويجب التقرب اليكوالنظر إليك ومقصوده بالجنة هنا ما يتمتع فيه المخلوق ، وأما عمل الحى بغير حب ولا إرادة أصلاً فهذا ممتنع وان تخيله بعض الغالطين من النساك وظن أن كمال العبد ان لاتبقى له ارادة اصلا فذاك لأنه تكلم فى حال الفناء والفانى الذى يشتغل بمجبوبه له ارادة ومحبة ولكن لا يشعر بها فوجود المحبة شىءوالإرادة شئ والشعور بها شئ آخر فلما لم يشعروا بها ظنوا انتفاءها وهو غلط فالعبد لايتصور أن يتحرك قط إلا عن حب وبغض وارادة ولهذا قال النبى صلىالله عليه وسلم أصدق الأسماء حارث وهمام فكل إنسان له حرث وهو العمل وله هم وهو أصل الإرادة ولكن تارةيقوم بالقلب من محبـة الله ما يدعوه الى طاعته ومن إجلاله والحياء منه ماينهاه عن معصيته كما قال عمر رضى الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه أى هو لميعصه ولو لم يخفه فكيف إذا خافه فإن إجلاله وإكرامه لله يمنعه من معصيته .
فالراجى الخائف إذا تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب باحتجاب الرب عنه والتنعم بتجليهله فمعلوم أن هذا من توابع محبته له فالمحبة هى التى أوجبت محبة التجلى والخوف منالإحتجاب وان تعلق خوفه ورجاؤه بالتعذب بمخلوق والتنعم به فهذا إنما يطلب ذلك بعبادة الله المستلزمة محبته ثم إذا وجد حلاوة محبة الله وجدها أحلى من كل محبة ولهذا يكون إشتغال أهل الجنة بذلك أعظم من كل شئ كما فى الحديث أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس وهو يبين غاية تنعمهم بذكر الله ومحبته فالخوف من التعذببمخلوق والرجاء له يسوقه الى محبة الله التى هى الأصل وهذا كله ينبنى على أصلالمحبة فيقال قد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين كما فى قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) وقوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه) وقوله تعالى : ( أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ) وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال ثلاث من كن فيهوجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما وأن يجب المرء لا يحبهالا الله وأن يكره أن يرجع فى الكفر بعد إذ انقذه الله منه كما يكره أن يلقى فى النار بل محبة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وجبت لمحبة الله كما فى قوله تعالى: ( أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) وكما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قالوالذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين وفى صحيح البخارى عن عمر بن الخطاب أنه قال والله يارسول الله لأنت أحب إليّ من كل شئ إلا من نفسى فقال لا ياعمر حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال والله لأنت أحب إليّ مننفسى قال الآن ياعمر .
وكذلك محبة صحابته وقرابته كما فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الإنصار وقال لا يبغض الإنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر وقال على رضى الله عنه انه لعهد النبى الأمى أنه لا يحبنى إلا مؤمن ولا يبغضنى الا منافق وفى السنن أنه قال للعباس والذى نفسى بيده لا يدخلونالجنة حتى يحبوكم لله ولقرابتى يعنى بنى هاشم وقد روى حديث عن إبن عباس مرفوعاً أنه قال أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبونى يحب الله وأحبوا أهل بيتى لأجلى .
وأما محبة الرب سبحانه لعبده فقال تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلاً وقال تعالىيحبهم ويحبونه وقال تعالى وأحسنوا إن الله يحب المحسنين واقسطوا إن الله يحب المقسطين فاتموا اليهم عهدهم الى مدتهم إن الله يحب المتقين فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ان الله يحب المتقين إن الله يحب الذين يقاتلون فى سبيله صفاً كأنهمبنيان مرصوص بلى من أوفى بعهده واتقى فان الله يحب المتقين .
وأما الأعمال التى يحبها الله من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء الله المتقون .
وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة والذى عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث وجميع مشائخ الدين المتبعون وأئمة التصوف أن الله سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقة بل هى أكمل محبة فانها كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) وكذلك هوسبحانه يحب عباده المرمنين محبة حقيقة .
وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الطرفين زعماً منهم أن المحبة لاتكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة وكان أول منإبتدع هذا فى الإسم هو الجعد بن درهم فى أوائل المائة الثانية فضحى به خالدين بن عبد الله القسرى أمير العراق والمشرق بواسط خطب الناس يوم الأضحى فقال أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فانى مضح بالجعد بن ردهم أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيمخليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه وكان قد أخذ هذا المذهب عنه الجهم بن صفوان فأطهره وناظرعليه واليه أضيف قول الجهمية فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها ثم انتقل ذلك الى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد وظهر قولهم أثناء خلافة المأمون حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوا الى الموافقة لهم على ذلك .
وأصل قولهم هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة من البراهمة والمتفلسفة ومبتدعة أهل الكتاب الذين يزعمون أن الرب ليس له صفة ثبوتية أصلاً وهؤلاء هم أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام وهم يعبدون الكواكب ويبنون الهياكل للعقول والنجوم وغيرها وهم ينكرون فى الحقيقة أن يكون إبراهيم خليلا وموسى كليما لأن الخلة هى المحبةالمستغرقة للمحب كما قيل قد تخللت مسلك الروح منى * وبذا سمى الخليل خليلا ويشهدلهذا ما ثبت فى الصحيح عن ابى سعيد عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال لوكنتمتخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعنى نفسهوفى رواية انى أبرأ الى كل خليل من خلتهولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لا تخذتأبا بكر خليلا وفى رواية ان الله إتخذنى خليلا كما إتخذ إبراهيم خليلا فبين صلىالله عليه وسلم أنه لايصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلا وانه لو أمكن ذلك لكانأحق الناس بها أبو بكر الصديق رضى الله عنه .
مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً كما قال لمعاذ والله أنىلأحبك وكذلك قوله للأنصار وكان زيد بن حارثة حب رسول الله عليه وسلم وكذلك إبنه أسامة حبه وأمثال ذلك وقال له عمرو بن العاص أى الناس أحب اليك قال عائشة قال فمن الرجال قال أبوها وقال لفاطمة إبنته رضى الله عنها ألا تحبين ما أحب قالت بلى قال فأحبى عائشة وقال للحسن اللهم أنى أحبه فأحبه وأحب من يحبه وأمثال هذا كثير.
فوصف نفسه بمحبة أشخاص وقال أنى أبرأ الى كل خليل من خلته ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة بحيث هى من كمالها وتخللها المحب حتى يكون المحبوب بها محبوباً لذاته لا لشئ آخر إذ المحبوب لشئ غيره هو مؤخر فى الحب عن ذلك الغير ومن كمالها لاتقبل الشركة والمزاحمة لتخللهاالمحب ففيها كمال التوحيد وكمال الحب فالخلة تناقى المزاحمة وتقدم الغير بحيث يكون المحبوب محبوبا لذاته محبة لا يزاحمه فيها غيره وهذه محبه لا تصلح الا لله فلا يجوز أن يشركه غيره فيما يستحقه من المحبة وهو محبوب لذاته وكل ما يحب غيره إذا كان محبوباً بحق فانما يحب لأجله وكل ما أحب لغيره فمحبته باطلة فالدنيا ملعونة ملعون مافيها إلا ما كان لله تعالى واذا كانت الخلة كذلك فمن المعلوم أن من أنكر أن يكونالله محبوباً لذاته ينكر مخاللته وكذلك أيضاً أن أنكر محبته لإحد من عباده فهو ينكرأن يتخذه خليلا بحيث يحب الرب ويحبه العبد على أكمل ما يصلح للعباد .
وكذلك تكليمه لموسى أنكروه لإنكارهم أن تقوم به صفة من الصفات أو فعل من الأفعالفكما ينكرون أن يتصف بحياة أو قدرة أو أعلم أو أن يستوى أو أن يجئ فكذلك ينكرون أنيتكلم أو يكلم فهذا حقيقة قولهم كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهتقلوبهم .
لكن لما كان الإسلام ظاهراً والقرآن متلوا لا يمكن جحده لمن أظهر الإسلام أخذوايلحدون فى أسماء الله ويحرفون الكلم عن مواضعه فتأولوا محبة العباد له بمجرد محبتهم لطاعته أو التقرب اليه وهذا جهل عظيم فان محبة المتقرب الى المتقرب اليه تابع لمحبته وفرع عليه فمن لا يحب الشيء لا يحب التقرب إليه إذ التقرب وسيلة ومحبةالوسيلة تبع لمحبة المقصود فيمتنع أن تكون الوسيلة الى الشئ المحبوب دون الشئ المقصود بالوسيلة وكذلك العبادة والطاعة اذا قيل في المطاع المعبود ان هذا يجبطاعته وعبادته فان محبته ذلك تبع لمحبته والا فمن لا يجب لا يحب طاعته وعبادته ومنكان لايعمل لغيره الا لعوض يناله منه أو لدفع عقوبة فانه يكون معاوضا له أو مفتدياً منه لا يكون محباً له ولا يقال أن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته فان محبة المقصود وأن هذا يحبه ويفسر ذلك بمحبة طاعته وعبادته فان محبة المقصود وان إستلزمت محبة الوسيلة أو غير محبة الوسيلة فان ذلك يقتضى أن يعبر بلفظين محبة العوض والسلامة عن محبة العمل أما محبة الله فلا تعلق لها بمجرد محبة العوض ألا ترى أن منإستأجر أجيراً بعوض لإيقال أن الأجير يحبه بمجرد ذلك بل قد يستأجر الرجل من لايحبهبحال بل من يبغضه وكذلك من افتدى نفسه بعمل من عذاب معذب لا يقال أنه يحبه بل يكونمبغضاً له فعلم ان ما وصف الله به عباده المؤمنين من أنهم يحبونه يمتنع أن لا يكون معناه الا مجرد محبة العمل الذى ينالون به بعض الفرائض المخلوقة من غير أن يكونربهم محبوبا أصلاً .
وأيضاً فلفظ العبادة متضمن للمحبة مع الذل كما تقدم ولهذا كانت محبة القلب للبشر على طبقات .
أحدها العلاقة وهو تعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة وهو إنصباب القلب إليه ثمالغرام وهو الحب اللازم ثم العشق وآخر المراتب هو التتيم وهو التعبد للمحبوبوالمتيم المعبود وتيم الله عبد الله فان المحب يبقى ذاكراً معبداً مذللًا لمحبوبه ، وأيضاً فاسم الإنابة اليه يقتضى المحبة أيضاً وما أشبه ذلك من الأسماء كماتقدم ، وأيضاً فلو كان هذا الذى قالوه حقاً من كون ذلك مجازا لما فيه من الحذف والإضمارفالجاز لا يطلق إلا بقرينه تبين المراد ومعلوم أن ليس فى كتاب الله وسنة رسوله ما ينفى أن يكون الله محبوباً وأن لا يكون المحبوب إلا الأعمال لا فى الدلالة المتصلةولا المنفصلة بل ولا فى العقل أيضاً وأيضاً فمن علامات المجاز صحةاطلاق نفيه فيجب أنيصح اطلاق القول بأن الله لايحب ولا يحب كما أطلق إمامهم الجعد بن ردهم أن الله لميتخذ ابراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ومعلوم أن هذا ممتنع باجماع المسلمين فعلمدلالة الإجماع على أن هذا ليس مجازاً بل هى حقيقة .
وأيضاً فقد فرق بين محبته ومحبة العمل له فى قوله تعالى احب اليكم من الله ورسولهوجهاد فى سبيله كما فرق بين محبته ومحبة رسوله فى قوله تعالى احب اليكم من اللهورسوله فلو كان المراد بمحبته ليس الا محبة العمل لكان هذا تكريراً أو من باب عطفالخاص على العام وكلاهما على خلاف ظاهر الكلام الذى لا يجوز المصير اليه الا بدلالة تبين المراد وكما ان محبته لايجوز أن تفسر بمجرد محبة رسوله فكذلك لا يجوز تفسيرهابمجرد محبة العمل له وان كانت محبته تستلزم محبة رسوله ومحبة العمل له .
وأيضاً فالتعبير بمحبة الشئ عن مجرد محبته طاعته لا عن محبة نفسه أمر لا يعرف فىاللغة لا حقيقة ولا مجازاً فحمل الكلام عليه تحريف محض أيضاً وقد قررنا فى مواضع منالقواعد الكبار أنه لايجوز أن يكون غير الله محبوباً مراداً لذاته كما لا يجوز أنيكون غير الله موجوداً بذاته بل لارب الا الله ولا اله الا هو المعبود الذى يستحق أن يحب لذاته وبعظم لذاته كمال المحبة والتعظيم .
وكل مولود يولد على الفطرة فانه سبحانه فطر القلوب على أنه ليس فى محبوباتهاومراداتها ما تطمئن اليه وتنتهى اليه الا الله وحده وان كل ما أحبه المحبوب من مطعوم وملبوس ومنظور ومسموع وملموس يجد من نفسه أن قلبه يطلب شيئاً سواه ويحب أمراًغيره يتألهه ويصمد اليه ويطمئن إليه ويرى ما يشبهه من هذه الاجناس ولهذا قال اللهتعالى فى كتابه الا بذكر الله تطمئن القلوب وفى الحديث الصحيح عن عياض بن حمار عنالنبى صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى انه قال إنى خلقت عبادى حنفاء فاجتالتهمالشياطين وحرمت عليهــم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بى مالم انزل به سلطانا كمافى الصحيحين عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال كل مولود يولد علىالفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتح البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئام فطرة الله التى فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم .
وأيضاً فكل ما فطرت القلوب على محبته من نعوت الكمال فالله هو المستحق له على الكمال وكل ما فى غيره من محبوب فهو منه سبحانه وتعالى فهوالمستحق لأن يحب على الحقيقة والكمال وإنكار محبة العبد لربه هو فى الحقيقة إنكار لكونه إلهاً معبوداً كما أن إنكار محبته لعبده يستلزم إنكار مشيئته وهو يستلزم إنكار كونه رباً خالقا فصار إنكارها مستلزماً لإنكار كونه رب العالمين ولكونه إله العالمين وهذا هو قول أهلالتعطيل والجحود .
ولهذا اتفقت الأمتان قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى صلوات الله عليهما وسلامه إن أعظم الوصايا أن تحب الله بكل قلبك وعقلك وقصدك وهذا هو حقيقة الحنيفية ملة ابراهيم التى هى أصل شريعه التوراة والانجيل والقرآن وإنكار ذلك هو مأحوذ عن المشركين والصابئين أعداء إبراهيم الخليل ومن وافقهم على ذلك من متفلسف ومتكلم ومتفقه ومبتدع أخذ عن هؤلاء وظهر ذلك فى القرامطة الباطنية من الإسماعيلية ولهذا قال الخليل أمام الحنفاء صلوات الله وسلامه عليه أفرأيتم ماكنتم تعبدون أنتم وآباؤكم القدمون فإنهم عدو لى إلا رب العالمين وقال إيضاً لا أحب الآفلين وقال تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) وهو السليم من الشرك .
وأما قولهم أنه لا مناسبة بين المحدث والقديم توجب محبته له وتمتعه بالنظر اليهفهذا الكلام مجمل فان أرادوا بالمناسبة انه ليس بينهما توالد فهذا حق وان أرادوا أنه ليس بينهما من المناسبة ما بين الناكح والمنكوح والآكل والمأكول أو نحو ذلكفهذا أيضاً حق وإن أرادوا أنه لا مناسبة بينهما توجب أن يكون أحدهما محبا عابداً والآخر معبوداً محبوباً فهذا هو رأس المسأله فالاحتجاج به مصادرة على المطلوب ويكفىفى ذلك المنع .
ثم يقال بل لا مناسبة تقتضى المحبة الكاملة إلا المناسبة التى بين المخلوق والخالق الــذى لا إله غيره الذى هو فى السماء وفى الآرض إله وله المثل الأعلى فى السموات والأرض وحقيقة قول هؤلاء جحد كون الله معبوداً فى الحقيقة ولهذا وافق على هذه المسأله طوائف من الصوفية المتكلمين الذين ينكرون أن يكون الله محباً فى الحقيقة فأقروا بكونه محبوباً ومنعوا كونه محبا لأنهم تصوفوا مع ما كانوا عليه من قول أولئك المتكلمة فأخذوا عن الصوفية مذهبهم فى المحبة وإن كانوا قد يخلطون فيه وأصل إنكارها إنما هو قول المعتزلة ونحوهم من الجهمية فأما محبة الرب عبده فهم لها أشد إنكاراً ومنكروها قسمان قسم يتأولونها بنفس المفعولات التى يحميها العبد فيجعلون محبته فيخلقه .
و قسم يجعلونها نفس إرادته لتلك المفعولات وقد بسطنا الكلام فى ذلك فى قواعد الصفات والقدر وليس هذا موضعها ومن المعلوم أنه قد دل الكتاب والسنة واتفاق سلفالأمة على أن الله يحب ويرضى ما أمر بفعله من أوجب ومستحب وإن لم يكن ذلك موجوداً وعلى أنه قد يريد أمور يبغضها ويسخطها من الأعيان والأفعال كالفسق والكفر وقد قال الله تعالى : ( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ) وقال تعالى : (ْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) والمقصود هنا انما هو ذكر محبة العباد لآلهتهم .
وقد تبين أن ذلك هو أصل أعمال الإيمان ولم يتبين بين أحد من سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان نزاع فى ذلك وكانوا يحركون هذه المحبة بما شرع الله أن تحرك به من أنواع العبادات الشرعية كالعرفان الإيمان الإيمانى والسماع الفرقانى قال تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) إلى آخر السورة ثم أنه لما طال المد صار فى طوائف المتكلمة من المعتزلة وغيرهم من ينكرهذه المحبة .
وصار فى بعض المتصوفة من يطلب تحريكها بأنواع من سماع الحديث كالتغيير وسماع المكاء والتصدية فيسمعون من الأقوال والأشعار ما فيه تحريك جنس الحب الذى يحرك منكل قلب ما فيه من الحب بحيث يصلح لمحب الأوثان والصلبان والأخوان والأوطان والمردان والنسوان كما يصلح لمحب الرحمن ولكن كان الذين يحضرونه من الشيوخ يشترطون له المكانوالإمكان والخلان وربما اشترطوا له الشيخ الذى يحرس من الشيطان ثم توسع فى ذلك غيرهم حتى خرجوا فيه الى أنوا من المعاصى بل إلى أنواع من الفسوق بل خرج فيه طوائف الى الكفر الصريح بحيث يتواجدون على أنواع من الأشعار التي فيها الكفر والإلحاد مماهو من أعظم أنواع الفساد وتنتج ذلك لهم من الأحوال بحسبه كما تنتج لعباد المشركينواهل الكتاب عباداتهم بحسبها .