عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 03-10-2009, 11:13 PM
الصورة الرمزية أبو جهاد المصري
أبو جهاد المصري أبو جهاد المصري غير متصل
قلم فضي
 
تاريخ التسجيل: Aug 2009
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 4,623
الدولة : Egypt
افتراضي رد: جهود الدكتور يوسف القرضاوي في خدمه السنه النبويه

وقرر الدكتور القرضاوي في هذا الموضع قاعدة مهمة حيث قال:«من حق المسلم أن يتوقف في أي حديث يري معارضته لمحكم القرآن إذا لم يجد له تأويلاً مستساغاً» (ص96). وبيّن أنه هو نفسه متوقف في معني حديث أبي داود ( الوائدة والموؤدة في النار )لأن الحكم على الموؤدة بالنار يعارض قوله تعالى: ﴿ وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت ﴾ (التكوير:8ـ10). وأنه متوقف في الحديث الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم لرجل سأله عن أبيه أين هو: ( إن أبي وأباك في النار ) وقال الدكتور القرضاوي هنا:«لكني أوثر في الأحاديث الصحاح التوقف فيها، دون ردها بإطلاق، خشية أن يكون لها معني لم يفتح عليه بعد»(ص9).

وهذا روع حسن، وإشفاق من القول بغير علم، يحمد لصاحبه. وهو مع ذلك نقل ردّ شيخنا، حجة الإسلام في عصرنا، الشيخ محمد الغزالي لحديث«إن أبي وأباك في النار»، ونقل مناقشة الأِّبي ـ شارح صحيح مسلم ـ لتسليم الإمام النووي بالحديث على إطلاقه، وبنائه حكمين عامين عليه، وانتهاء الأِّبي إلى أنه: إما خبر آحاد فلا يعارض المقطوع به شرعا من عدم استحقاق العذاب إلا بعد إقامة الحجة على المنكر أو الرافض، وإما أنه ـ ومثله من الأحاديث الواردة بعذاب بعض أهل الفترة ـ خاص بهؤلاء لسبب يعلمه الله، وإما أن المستحقين للتعذيب هم الذين أحدثوا أموراً من الضلال والفساد لا يعذرون بها. وضرب القرضاوي لذلك مثلاً أن يكون قد وأد ابنته أو نحوه فما هو معلوم القبح لكل العقلاء. (ص99).

ومع أني أحمد التوقف الذي ذهب إليه الدكتور القرضاوي، فإنني لا ألوم من أبدى في هذه الأحاديث رأيه، كالأبِّي وشيخنا الغزالي رحمهما الله، فإنّ التوقف، وإن أراح ضمير صاحبه، وأمانته العلمية، يبقي السائلين وطلاب المعرفة في حيرة من الأمر، لاسيما ونحن نتحدث عن معارضة القرآن نفسه، لا عن معارضة العقل ومدركاته، أو العلم ومكتشفاته.

ولعل الجمع بين الموقفين يكون بإبداء الرأي في الحديث مع التحفظ بأن هذا هو رأي العالم المسؤول حتى وقت الجواب، وقديماً جعل علماؤنا تحفظاً دائماً على كل رأي أبدوه هو قولهم:«والله أعلم»، وهو تحفظ مستصحب دائماً من كل فروع المعرفة الإنسانية، وهو كاف لعذر كل ذي رأي إذا تغيّر بعد ذلك رأيه، أو فتح الله له من أبواب المعرفة ما لم يكن مشرعاً أمامه حين أفتي أو علم أو كتب أو تكلّم.

والواجب، على كل حال، كما بين الدكتور القرضاوي، أن يدقق كل التدقيق في ظن معارضة الحديث الصحيح للقرآن الكريم تجنباً للانزلاق إلى ردّ الحديث الصحيح بالظنون والأوهام.

وقد تناول الدكتور القرضاوي ـ بعد ذلك ـ موضوع جمع الأحاديث الواردة في الموضوع الواحد «بحيث يرد متشابهها إلى محكمها، ويحمل مطلقها على مقيدها، ويفسر عامها بخاصها. وبذلك يتضح المعنى المراد منها، ولا يضرب بعضها ببعض.»(ص103).

وضرب مثلاً لذلك بسوء فهم بعض الأحاديث، ومنها الأحاديث الواردة في النهي عن إبال الثوب فذكر غلوّ بعض الشباب في أمرها، ورميهم من لم يقصر ثوبه ـ كما يفعلون ـ بقلة الدين ولو كان من العلماء الدعاة.

وبين أن الصواب في هذه القضية يعرف بالنظر في مجموع الأحاديث، وهو أن النهي والوعيد إنما وردا فيمن يفعل ذلك خُيَلاء. ثم قال الدكتور القرضاوي:«إن أمر اللباس يخضع في كيفيته وصورته إلى أعراف الناس وعاداتهم ... والشارع هنا يخفف عن الناس القيود، ولا يتدخل إلا في حدود معينة ليمنع مظاهر الصرف والترف في الظاهر، أو قصد البطر والخيلاء في الباطن...». وهذه قاعدة ينبغي النظر إليها في مجمل الشؤون المبنية على الأعراف والعادات، وفي تفصيلاتها. لأن الأصل في الشرع أن يضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وأن يريد بهم إلى سر ولا يريد بهم العسر، وأن لا يجعل عليهم في الدين من حرج. ولذلك كان العرف معتبراً في تقرير الأحكام إلا حيث يصادم نصاً صحيحاً فيعمل النص ويهمل العرف.

وما أحسن ما نقله الدكتور القرضاوي عن الحافظ العراقي:«والخروج على العادة أحياناً يجعل صاحبه مظنة الشهرة، وثياب الشهرة مذمومة في الشرع أيضاً. فالخير في الوسط»(ص108).

ثم عالج الدكتور القرضاوي موضوع الجمع أو الترجيح بين مُخْتَلِفِ الحديث، فالأصل في النصوص الشرعية ألا تتعارض. وشرح هنا القاعدة التي تقول بتقديم الجمع على الترجيح، ومثّل لذلك بأحاديث زيارة النساء للقبور، وأحاديث العزل، وبيّن وجه الجمع بين ما ظاهره التعارض من رواياتها. ثم تناول موضوع النسخ في الحديث وبين موقف العلماء المحققين منه، ومتى يقال بالنسخ ومتى لا يقال به.

وحين بحث الدكتور موضوع فهم الأحاديث في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها مثّل لذلك بحديث ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) وحديث( أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين ) وحديث ( لا تسافر امرأة إلا ومعها محرم ) وحديث ( الأئمة من قريش ) وبيّن السبب الذي ورد فيه كل حديث منها، والعلة التي بني كل حديث عليها، وأن العمل بهذه الأحاديث منوط بهذه العلل، فيدور الحكم مع علته وجودا وعدماً، كما هو مقرر في علم أصول الفقه.

وأيد الدكتور القرضاوي رأيه هذا. بموقف عثمان رضي الله عنه من ضالة الإبل، وبالمقرر عند المحققين من العلماء من تغير الأحكام المنصوصة، إذا كانت مبنية على العرف، متي تغير هذا العرف، ومثل لذلك بأمثلة منها تغير نظام العاقلة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومنها التوسعة على الناس بإخراج زكاة الفطر من أنواع من الأطعمة التي لم يرد بها النص، ومادامت من غالب قوت البلد، وبإخراجها بدءً من أول رمضان في بعض المذاهب، أو من منتصفه في بعضها الآخر، بعد أن كانت في مجتمع المدينة النبوية تخرج صباح يوم العيد، بعد صلاة الصبح وقبل صلاة العيد. ووصف الدكتور القرضاوي إجازة إخراج قيمة زكاة الفطر نقودا بأن فيه رعاية المقصود النص النبوي وتطبيق لروحه، وربما كانت القيمة أوفي. بمهمة الإغناء للفقراء من الطعام. بل قال إن «هذا هو الفقه الحقيقي».(ص135).

وقد قدم الدكتور القرضاوي لبحثه لمسألة فهم الأحاديث على ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها، بما يمكن أن نجله ختاما لعرضنا لهذا الكتاب الجليل من كتبه في خدمة السنة النبوية. قال ـ حفظه الله ـ«لابد لفهم الحديث فهما سليما دقيقا» من معرفة الملابسات التي سيق فيها النص، وجاء بيانا لها وعلاجا لظروفها، حتى يتحدد المراد من الحديث بدقة ولا يتعرض لشطحات الظنون، أو الجري وراء ظاهر غير مقصود». وقال قبل ذلك مباشرة«وهذا يحتاج إلى فقه عميق، ونظر دقيق، ودراسة مستوعبة للنصوص، وإدراك بصير لمقاصد الشريعة, وحقيقة الدين، مع شجاعة أدبية، وقوة نفسية للصدع بالحق وإن خالف ما ألفه الناس وتوارثوه. وليس هذا بالشيء الهين..»(ص125).

والناظر في كتاب: كيف نتعامل مع السنة، يشهد للشيخ القرضاوي ـ إذا أنصف ولم يتعسف ـ بالحظ الوافر من ذلك كله، مع الإحاطة النادرة بأقوال العلماء وآرائهم وتأويلاتهم وأسباب اختلافهم، وهو كتاب لا يجوز أن يفوت عالما، ولا طالب علم، أن ينتفع به ويستفيد منه.

(3) المنتقي من كتاب الترغيب والترهيب للمنذري:

كتاب الترغيب والترهيب للحافظ عبد العظيم بن عبد القوي المنذري هو أعظم كتب الترغيب والترهيب، بإجماع العلماء. وهو المعين الذي يستقي منه معظم الدعاة والوعاظ والمدرسين ما يرد في ثنايا كلامهم أو كتاباتهم من الحديث النبوي الشريف.

وقد جمع الحافظ المنذري في كتابه كل ما كان في كتب من سبقه من العلماء من أحاديث الترغيب والترهيب. وأحاديث الترغيب والترهيب ترقق القلوب وتحرك في النفوس الدواعي لعمل الخير، والزواجر عن الشر، رغبة فيما عند الله من النعيم، ورهبة ممــا عنده ـ سبحانه ـ من العقاب.

وقد بين القرضاوي سبب عمله في (انتقاء) أحاديث من الكتاب وتيسير وصولها للناس مشروحة شرحاً مبسطاً يفيد منه المبتدئ ولا يستغربه المنتهي. فقد رأى« ولع {بعض الناس} بالأحاديث الواهية والمنكرة والشديدة الضعف، بل والموضوعة، أكثر من ولعه بالصحيح والحسن، لان تلك تحمل من التهويل والمبالغات ما يثير عواطف العامة من الناس، وينتزع إعجابهم(ومصمصة) شفاههم، غير مبالٍ بما يحدثه ذلك من استنكار لدى المثقفين والمستنيرين، وما يترتب عليه من إفساد وعي المسلمين بحقيقة الدين.

وحسب هؤلاء إذا احتج عليهم محتج، أو أنكر عليهم منكر، أن يقولوا:«هذا الحديث في كتاب الترغيب والترهيب».(ص47).

وقد رام الدكتور القرضاوي«اختصار الكتاب بحذف الضعيف والمكرر منه، والتعليق عليه بما لابد منه في أضيق نطاق؛ وبذلك ننقذ كثيرين من التعلق بالضعيف من الحديث».(ص48).

ولاشك أن هذا عمل جليل، نهض لمثله من قبل الإمام الحافظ بن حجر العسقلاني، ولكن الفروق بين عمل القرضاوي وعمل ابن حجر كثيرة بيّنها الدكتور القرضاوي في مقدمة كتابه (ص77ـ79) وهي تجعل الاعتماد على المنتقى ضرورة للراغب في الاستفادة من عمل الإمام المنذري رحمه الله.

وقد قدم الدكتور القرضاوي بين يدي مختصره ـ المنتقي ـ بمقدمة ضافية عن فكرة الترغيب والترهيب وأساسها الديني والنفسي، ثم تحدث عن الترغيب والترهيب في القرآن الكريم ـ وهو موضوع يحتاج إلى أن يفرد له كتاب ـ ثم تحدث عن الترغيب والترهيب في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناول في ذلك ذكر الكتب التي جمعت هذه الأحاديث إلى أن ختمها المنذري بكتابة الجامع.

وتحدث الدكتور القرضاوي عن أساليب الترغيب في الحديث، وعن أنواع الثواب والعقاب، وعن الجزاء في اليهودية والنصرانية والفرق بينه وبين فكرة الجزاء في الإسلام. فالجزاء في الإسلام متنوع شامل فهو يشمل ـ في جانبي العقوبة والمثوبة ـ الأجزية الدنيوية، والأخروية، والروحية، والمادية، الفردية والاجتماعية والنفسية والأخلاقية. وذكر الدكتور القرضاوي أمثلة من الحديث الصحيح لذلك كله تدل على حصة ما قرره عن مفهوم الجزاء في الإسلام.

وتحدث الدكتور القرضاوي في مقدمته ـ أيضا ـ عن أساليب الترغيب والترهيب وصوره في الحديث الشريف، وعن المثوبات والعقوبات الروحية والنفسية والمعجلة. ثم وقف مع فئتين تعارضان فكرة الترغيب والترهيب، هما الفلاسفة والصوفية، ورد على كل منهما ردا علميا رصينا، وأنكر على المتصوفة مبالغتهم في إنكار العبادة رغبة في الثواب إلى الله بالعبادة رغبة ورهبة. ثم عقب بكلام ابن قيم الجوزية الذي بين فيه حقيقة الجنة والنار، وختمه بقوله«إن مطلوب الأنبياء والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين هو: الجنة، ومهربهم: من النار».

ومن أجمل ما في مقدمة الدكتور القرضاوي للمنتقى ما ذكره ـ نقلاً عن الإمام الغزالي ـ من فائدتي استحضار الخوف واستحضار الرجاء؛ فأما الخوف ففائدتا استحضاره: أن يزجر النفس عن المعصية، وأن لا يعجب الإنسان بطاعته فيهلك. وأما الرجاء ففائدتا استحضاره: البعث على الطاعات لأن الخير ثقيل، والشيطان عنه زاجر، والهوى إلى ضده داعٍ، وأنه ـ أي الرجاء ـ يهوِّن على المرء احتمال الشدائد والمشقات، فإن من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل.

ثم ذكر الدكتور القرضاوي عمله في الكتاب؛ وجملته أنه حذف منه الضعيف والمكرر، وعلق عليه تعليقات مبسطة تفيد القارئ أيما فائدة.

وقد اقتصر الدكتور القرضاوي على إخراج الصحيح والحسن من أحاديث «الترغيب والترهيب»، دون الضعيف والموضوع، وقد بين في صفحات (48ـ61) مسألة الأحاديث الضعيفة والتساهل في روايتها في فضائل الأعمال، على نحو ما بينه في دراسته«كيف نتعامل مع السنة». ولم يقتصر في الانتفاء على ما صححه المنذري أو حسنه، بل ضم إلى رأيه رأي غيره من أئمة الحديث ونقاده. وقد أسهب الدكتور القرضاوي ـ وحسنا فعل ـ في بيان منهجه في الحكم على الحديث، وكيفية تتبعه أقوال أئمة الصناعة الحديثة واستخلاص الحكم الصحيح على الحديث منها. ومن أوفق ما وفّق إليه في ذلك النظر في المتن أيضا، أي في محتوى الحديث ومضمونه: أيتفق مع أصول الإسلام العامة ومفاهيمه الثابتة، وقيمه المتفق عليها أم لا؟.

ومن هذه المفاهيم ألا يعارض قاطعا عقليا، ولا حقيقة علمية، كما لا يعارض قاطعا شرعيا أو حقيقة دينية سواء بسواء... من أجل ذلك تركت بعض الأحاديث التي قد تقبل من ناحية السند ولكنها تحتوي في متنها ما يوجب التوقف، فلم أدخلها في هذا المنتقي.»(ص73).

وقد قارن الدكتور القرضاوي بين منتقاه ومختصر الحافظ ابن حجر بطريقة غير مباشرة حين ذكر مآخذه على مختصر ابن حجر وهي: مبالغته في الاختصار، وعدم إكماله العمل في الكتاب فقد وقف عند كتاب الحدود وترك ما بعده وهي أبواب كثيرة، وإبقاءه أحاديث غير ثابته مع أنه ذكر أنها غير ثابتة عنده، وعدم كتابته مقدمة تبين منهجه ولماذا أبقى في مختصره ما أبقاه وحذف ما حذفه، وأنه لم يلتزم الصحة فيما أبقاه مع أن بعض ما أخرجه من الضعيف نص هو نفسه في كتبه الأخرى على ضعفه، وانه يحذف أحيانا تعقيبات المنذري مع أهميتها في بيان درجات الحديث.

وهذه المقارنة، غير المباشرة، تبين فضل علم الدكتور القرضاوي، وسده حاجة كانت قائمة إلى أن وفقه الله إلى القيام بإخراج هذا المنتقى للناس. فإذا أضيف إلى ذلك تصحيحه ما وقع في الأصل نفسه (الترغيب والترهيب) من أوهام وأغلاط سواء ما كان مصدره المنذري نفسه (فقد أملى الكتاب كله من حفظه دون مراجعة) وما كان من عمل النساخ، الذين قلما يخلو كتاب من أثر أيديهم في التصحيف والتحريف، إذا أضيف هذا الصنيع إلى مزايا عمل القرضاوي في الانتقاء العلمي، تبين لكل ذي معرفة بكتاب«الترغيب والترهيب» وبعلوم الحديث مدى الجهد الذي بذله الدكتور القرضاوي، ومبلغ العناء الذي تعرض له، وهو ما جعل كتابه بالمنزلة العليا من الكتب المصنفة في عصرنا خدمة للسنة النبوية الشريفة.

والقارئ للمنتقى يجد فيه ـ كما يقول مصنفه:ـ

1- مجموعة طيبة من روائع التوجيه وحقائق المعرفة وجوامع الكلم وشوامخ الأدب تكلم بها رسول لا ينطق عن هوى، وهي تفصيل لما جاء في القرآن الكريم يرد على من زعموا الاستغناء عن السنة بالقرآن.

2- ويجد القارئ في «المنتقى» شمول الإسلام، وتكامل تعاليمه، فهو عقيدة وعبادة، وخلق وسلوك، ودين وسياسة، ونظام معاملة، وأصول حكم وقضاء.

3- وفي الكتاب ثروة من البيان والأدب الرفيع، صيغت بأرفع أساليب التعبير فمثلت قمة البيان البشري.

4- وفي «المنتقى» من أدب الدعوة، ومناهج التربية ما يتضمن أحسن نتاج العصر من مزايا ومحاسن، ويتنزه عما فيه من نقائص وآفات.

5- و«المنتقى» كله حافز لفعل الخير ونصرته، ووازع عن تأييد الباطل، والوقوع في الشر، ومعصية الله ورسوله.

والحق أن هذا المنتقى ـ بما أثبته مصنفه فيه وما استبعده ـ يقطع بعلو كعبه في علوم الرواية والدراية جميعاً. وهو خدمة رائعة للسنة النبوية، وعمل جليل لا يجوز أن يخلو منه بيت مسلم، ومهما قيل في وصفه فإن الإحاطة بقيمته لا تكون إلا لمن طالعه. فجزى الله أخانا الكريم الدكتور القرضاوي عن صنيعه فيه أحسن الجزاء.

(4) السنة مصدراً للمعرفة والحضارة:

هذا الكتاب ثلاثة أقسام:

القسم الأول يتناول الجانب التشريعي في السنة، وهو البحث الذي عرف في الدراسات الأصولية المعاصرة بعنوان (السنة التشريعية وغير التشريعية). وقد أقر الدكتور القرضاوي بحثه مبدأ تقسيم السنة، الذي قال به المحققون قديماً وحديثاً، فمن السنة ما هو تشريع عام، ومنها ما هو تشريع خاص، ومنها ما هو تشريع دائم للناس كافة، ومنها ما هو حكم في قضية بعينها، ومنها ما هو تشريع عارض جاء لسبب معين يبق ببقائه ويزول بزواله، وقد يعود العمل به إذا وجد السبب مرة أخرى، ومنها ما ليس بتشريع أصلاً.

وقد ناقش الدكتور القرضاوي في هذا القسم الذي زاد عدد صفحاته على تسعين صفحة معظم المسائل التي ذكرها القدماء والمحدثون في دراستهم لهذه المسألة.

ومن أهم ما بينه في هذا البحث، الانحراف الذي أصاب فهم بعض المعاصرين لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن تأبير النخل، الذي ورد فيه قوله صلى الله عليه وسلم: ( أنتم أعلم بأمر دنياكم ) فبيّن أنه يعني خروج المسائل التي تدفع إليها الحاجات الدنيوية والغرائز البشرية العادية عن مجال التشريع فلا يتدخل فيها الدين «إلا حيث يكون فيها إفراط أو تفريط أو انحراف، كما أنه يتدخل ليربط حركات الإنسان كلها ـ حتى الغريزية والعادية منها ـ بأهداف ربانية عليا، وقيم أخلاقية مثلى، ثم ليرسم آداباً إنسانية راقية في أداء هذه الأعمال». (ص 15،16). وانتقد الدكتور القرضاوي أيضاً مبالغة المعاصرين في نفي صفة التشريع عن السنة، كما انتقد بحق موقف المنكرين أن يكون في السنة شيء صدر غير مقصودٍ به التشريع.

ونهج الدكتور القرضاوي في بحثه كله منهج الوسطية الإسلامية الذي وصفه بقوله: إنه الاعتدال والتوازن، والنظر إلى المسألة «بعمق وإنصاف وتجرد، في ضوء النصوص المحكمة للقرآن والسنة، وفي ضوء مقاصد الشريعة وقواعدها، وفي ظلال هدي السلف وفهمهم». ورد على الغلاة المقصرين رد الفقيه المحقق والمحدِّث المدقق، وعرض مواقف العلماء من هذه القضية قدامى ومحدثين، ونبه إلى أن أول من أوضح التفرقة بين السنة والتشريعية وغير التشريعية هو الشيخ أحمد عبد الرحيم المعروف بـ (شاه ولي الله الدهلوي) الهندي، وذلك في كتابه (حجة الله البالغة) حيث قسم السنة إلى قسمين: تشريعي وغير تشريعي، أو بتعبير الدهلوي: «ما سبيله تبليغ الرسالة، وما ليس من باب تبليغ الرسالة».

وانتهى الدكتور القرضاوي من ذلك كله، إلى صحة أصل التقسيم، وإلى أن الخلاف في التطبيقات.

ومن أهم ما بينه هذا البحث أن علماء الصحابة والتابعين لم يهملوا هذه القضية ولكنهم أولوها عنايتهم عندما ناقشوا، في مسائل لا تحصى، ما إذا كان الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها سنة أو ليس بسنة. وأن معنى ذلك أن بعض ما يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بسنة، وأن ما كان سنة فهو مطلوب الاتباع.

وأكد الدكتور القرضاوي ذلك بأمثلة عديدة من الأحاديث النبوية التي تباينت مواقف العلماء، من الصحابة فمن بعدهم، من الأخذ بها. وحذر من الإفراط والتفريط الذين يقع فيهما كثير من الناس بإثبات صفة التشريع، أو نفيها، دون تبصر في حقيقة الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ودون إعمال لمقاصد الشرع أو دون تأهلٍ أصلاً للنظر والاجتهاد.

والقسم الثاني من الكتاب، خصصه الدكتور القرضاوي للنظر في السنة باعتبارها مصدراً للمعرفة، وتحدث في ذلك عن المعرفة الغيبية والمعارف الإنسانية، وعن السنة والتربية، والسنة والبيئة، والسنة وعلم الصحة، وعن السنة والاقتصاد؛ وفي كل موضوع من هذه الموضوعات أورد الدكتور القرضاوي من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ما يؤكد أن السنة تتضمن ما لابد للمسلم من الإحاطة به، من أمور الغيب وأمور الحياة على السواء، وقرر الدكتور القرضاوي في وضوح أن: «المعرفة الأساسية التي نستفيدها من السنة، ليست هي المعرفة المتعلقة بشؤون الحياة المتطورة... فهذه يتعلمها الإنسان بالممارسة عن طريق المحاولة والتجربة... وهذه الحقيقة عرفناها من السنة أيضاً...» واستشهد لذلك بحديث: ( أنتم أعلم بأمر دنياكم )

وفي هذا القسم من العلم النبوي والفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما ينبغي للمثقف المسلم ـ فضلاً عن الداعية والمشتغل بعلوم الإسلام ـ أن يقف عليه ويستفيد منه، فما أكثر ما نجهل أين توضع النصوص النبوية في سياق المعرفة المعاصرة، وفي أيدينا ثروة لا تنضب من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم في كل مجالات الحياة، لو وضعت مواضعها لغيرت كثيراً من أحوالنا، ولبينت حقائق من هدي هذا الدين، تصلح بها الحياة، وهي لا تزال مجهولة عند أكثر الناس.

ولا يقل القسم الثالث (السنة مصدراً للحضارة) عن القسمين السابقين أهمية، بل ربما تميز عنهما بجدَّتِه وابتكاره. وقد تناول الدكتور القرضاوي فيه فقه الآيات والسنن، فبين وجوب معرفة آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق، وسننه في الكون والمجتمعات، وهي القوانين الثابتة التي تجري على الآخرين كما جرت على الأولين، ثم تناول فقه المعرفة وأراد به فقه تأصيل العلم، وهو فقه تكاثرت في شأنه نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، ثم تناول فقه الحياة، فتحدث عن أفضل الأعمال، وعن ضرورة فقه الواقع أي معرفته معرفة صحيحة دقيقة، وعن فقه مقاصد الشريعة وهي الحكم والأهداف الكلية، التي من أجلها شُرعت الأحكام وفرضت الفرائض، ولكل منها أهداف اجتماعية وأخلاقية، مع أهدافها الروحية. وأشار الدكتور القرضاوي في هذا الموضع إلى مسألتي تعليل الأحكام ووجوب رعاية المصالح.

وهاتان المسألتان هما لب التشريع وجوهره، فقه بهما من فقه وقعد بجهلهما من قعد.

ثم تحدث بعد ذلك عن فقه مكارم الشريعة، وعن الاتباع في الدين والابتداع في الدنيا، وهما أصلان متكاملان، فالله تبارك وتعالى لا يعبد إلا بما شرع، والحياة لا تكف عن التطور والتقدم، والواجب على المسلم أن يعمر الأرض بما يستطيع من خير. وإلى ذلك أشار الحديث الصحيح: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده....» وما أكثر ما سن الأخ الجليل الدكتور يوسف القرضاوي من سنن الخير في حياته العلمية المباركة، ومن أحسنها هذا الكتاب الذي نختم بحديثنا عنه حديثنا عن جهوده في خدمة السنة النبوية، فهو تصنيف غير مسبوق، التزم فيه الاستمداد المباشر من القرآن والسنة ـ كما التزم ذلك في سائر كتبه وبحوثه ـ ونظر في أقوال العلماء نظر الخبير بها، فأخذ وترك عن بينة وبصيرة.

وبعد، فقد طال هذا البحث أكثر مما قدرت، وهو مع ذلك لا يغني عن مطالعة الكتب التي ذكرتها، والتي لم أذكرها، للوقوف على عمله في خدمـة السنة الذي يسلكه ـ بفضل الله تعالى ـ في سلسلة حفظتها المبلغين عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإن التبليغ كما يكون بنقل النصوص، يكون بفقهها، والجمع بين المتماثلات منها، والتفريق بين المختلفات، بما يظهر وحدة هذا الدين، واتساق أحكامه، وإحكام بنيانه. وقد فعل الدكتور القرضاوي من كل ذلك ما يذكر له ويشكر.

والله قدير أن ينفع بعلمه،

وأن يثبت لسانه وقلمه وقلبه،

وأن يجعلنا وإياه ممن يعملون بما يعلمون، ويقولون ما يفعلون.
المصدر: موقع الاتحاد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
__________________
مدونتي ميدان الحرية والعدالة
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.39 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.76 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.79%)]