واعلم أن التعسف وسوء الملكة لمن خولك الله تعالى أمره من رقيق أو رعية يدلان على خساسة النفس ، ودناءة الهمة ، وضعف العقل ؛ لأن العاقل الرفيع النفس العالي الهمة إنما يغلب أكفاءه في القوة ونظراءه في المنعة.
وأما الاستطالة على من لا يمكنه المعارضة فسقوط في الطبع ورذالة في النفس والخلق وعجز ومهانة.
ومن فعل ذلك فهو بمنزلة من يتبجح بقتل جرذ ، أو بقتل برغوث ، أو بفرك قملة وحسبك بهذا ضعة وخساسة.
وقد يكون العجب لغير معنى ، ولغير فضيلة في المعجب ؛ وهذا من عجيب ما يقع في هذا الباب وهو شيء يسميه عامتنا : التمترك ، وكثيراً ما نراه في النساء ، وفيمن عقله قريب من عقولهن من الرجال ، وهو عجب من ليس فيه خصلة أصلاً ؛ لا علم ولا شجاعة ولا علو حال ولا نسب رفيع ولا مال يطغيه ، وهو يعلم مع ذلك أنه صفر من ذلك كله ؛لأن هذه الأمور لا يغلط فيها من يقذف بالحجارة ، وإنما يغلط فيها من له أدنى حظ منها .
ولقد تسببت إلى سؤال بعضهم في رفق ولين عن سبب علو نفسه واحتقاره الناس ؟
فما وجدت عنده مزيداً على أن قال لي: أنا حر لست عبدَ أحدٍ !
فقلت له: أكثر من تراه يشاركك في هذه الفضيلة ، فهم أحرار مثلك إلا قوماً من العبيد هم أطول منك يداً ، وأمرهم نافذ عليك ، وعلى كثير من الأحرار ! فلم أجد عنده زيادة.
ودواء من ذكرنا الفقر والخمول ، فلا دواء لهم أنجع منه ، وإلا فداؤهم وضررهم على الناس عظيم جداً ، فلا تجدهم إلا عيابين للناس ، وقاعين في الأعراض مستهزئين بالجميع مجانبين للحقائق مكبين على الفضول ، وربما كانوا مع ذلك متعرضين للمشاتمة والمهارشة ، وربما قصدوا الملاطمة والمضاربة عند أدنى سبب يعرض لهم.
إياك والامتداح فإن كل من يسمعك لا يصدقك ، وإن كنت صادقاً بل يجعل ما سمع منك من ذلك في أول معايبك.
وإياك ومدح أحد في وجهه فإنه فعل أهل الملق ، وضعة النفوس .
وإياك وذم أحد لا بحضرته ولا في مغيبه ؛ فلك في إصلاح نفسك شغل.
من بديع ما يقع في الحسد قول الحاسد إذا سمع إنساناً يغرب في علم ما : هذا شيء بارد لم يتقدم إليه ، ولا قاله قبله أحد.
فإن سمع من يبين ما قد قاله غيره قال: هذا بارد ، وقد قيل قبله.
وهذه طائفة سوء قد نصبت أنفسها للقعود على طريق العلم يصدون الناس عنها ؛ ليكثر نظراؤهم من الجهال.
لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح ، ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل ما لم يظهره بقول أو فعل ، بل يكاد يكون أحمد ممن أعانه طبعه على الفضائل ، ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل.
الخطأ في الحزم خير من الخطأ في التضييع.
من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه فإنه يلوح له وجه تعسفه.
قلما رأيت أمراً أمكن فضيع إلا فات فلم يمكن بعد.
الغالب على الناس النفاق ، ومن العجب أنه لا يجوز مع ذلك عندهم إلا من نافقهم.
أشد الناس استسهالا للعيوب بلسانه هو أشدهم استسهالاً لها بفعله.
اللقاء يذهب بالسخائم ، فكأن نظر العين للعين يصلح القلوب.
الذل عند النفوس الكريمة أشد من المرض والخوف والهم والفقر ، وهو أسهل المخوفات عند ذوي النفوس اللئيمة.
من عجائب الأخلاق أن الغفلة مذمومة ، وأن استعمالها محمود ، وإنما ذلك لأن من هو مطبوع على الغفلة يستعملها في غير موضعها ، وفي حيث يجب التحفظ ، وهو مغيب عن فهم الحقيقة ؛ فدخلت تحت الجهل فذمت لذلك.
وأما المتيقظ الطبع فإنه لا يضع الغفلة إلا في موضعها الذي يذم فيه البحث والتقصي .
إذا حضرت مجلس علم فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علم وأجر ، لا حضور مستغن بما عندك طالباً عثرة تشنعها ، أو غريبة تشيعها ؛ فهذه أفعال الأرذال الذين لا يفلحون في العلم أبداً.
فإذا حضرتها على هذه النية فقد حصّلت خيراً على كل حال ، وإن لم تحضرها على هذه النية ؛ فجلوسك في منزلك أروح لبدنك ، وأكرم لخلقك ، وأسلم لدينك.
فإذا حضرتها كما ذكرنا فالتزم أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها وهي:
إما أن تسكت سكوت الجهال ، فتحصل على أجر النية في المشاهدة ، وعلى الثناء عليك بقلة الفضول ، وعلى كرم المجالسة ، ومودة من تجالس.
فإن لم تفعل ذلك فاسأل سؤال المتعلم ، فتحصل على هذه الأربع محاسن ، وعلى خامسة وهي: استزادة العلم.
وصفة سؤال المتعلم: أن تسأل عما لا تدري لا عما تدري ، فإن السؤال عما تدريه سخف ، وقلة عقل وشغل لكلامك ، وقطع لزمانك بما لا فائدة فيه لا لك ولا لغيرك ، وربما أدى إلى اكتساب العداوات ، وهو بعد: عين الفضول.
فيجب عليك أن لا تكون فضولياً فإنها صفة سوء ، فإن أجابك الذي سألت بما فيه كفاية لك فاقطع الكلام ، وإن لم يجبك بما فيه كفاية ، أو أجابك بما لم تفهم ، فقل له: لم أفهم ، واستزده فإن لم يزدك بياناً ، وسكت ، أو أعاد عليك الكلام الأول ، ولا مزيد فأمسك عنه ، و إلا حصلت على الشر والعداوة ، ولم تحصل على ما تريد من الزيادة.
والوجه الثالث: إياك من أن تراجع مراجعة العالم ، وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقصه نقصاً بيناً ، فإن لم يكن ذلك عندك ، ولم يكن عندك إلا تكرار قولك أو المعارضة بما لا يراه خصمك معارضة ، فأمسك فإنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر ، ولا على تعليم ، ولا على تعلم بل على الغيظ لك ، ولخصمك والعداوة التي ربما أدت إلى المضرات.
وإياك وسؤال المعنت ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم فهما خلقا سوء دليلان على قلة الدين ، وكثرة الفضول ، وضعف العقل ، وقوة السخف ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وإذا ورد عليك خطاب بلسان أو هجمت على كلام في كتاب ؛ فإياك أن تقابله مقابلة المغاضبة الباعثة على المغالبة قبل أن تتبين بطلانه ببرهان قاطع.
وأيضاً: فلا تقبل عليه إقبال المصدق به المستحسن إياه قبل علمك بصحته ببرهان قاطع فتظلم في كلا الوجهين نفسك ، وتبعد عن إدراك الحقيقة. ولكن أقبل عليه إقبال سالم القلب عن النزاع عنه ، والنزوع إليه .
من اكتفى بقليله عن كثير ما عندك = فقد ساواك في الغنى ، ولو أنك قارون ، حتى إذا تصاون في الكسب عما تشره أنت إليه فقد حصل أغنى منك بكثير .
ومن ترفع عما تخضع إليه من أمور الدنيا = فهو أعز منك بكثير.
فرض على الناس تعلم الخير والعمل به ، فمن جمع الأمرين فقد استوفى الفضيلتين معاً ، ومن علمه ولم يعمل به فقد أحسن في التعليم ، وأساء في ترك العمل به ، فخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، وهو خير من آخر لم يعلمه ، ولم يعمل به ، وهذا الذي لا خير فيه أمثل حالاً ، وأقل ذماً من آخر ينهى عن تعلم الخير ويصد عنه.
ولو لم ينه عن الشر إلا من ليس فيه منه شيء ولا أمر بالخير إلا من استوعبه لما نهى أحد عن شر ، ولا أمر بخير بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وحسبك بمن أدى رأيه إلى هذا فساداً ، وسوء طبع ، وذم حال ، وقد صح عن الحسن أنه سمع إنساناً يقول: لا يجب أن ينهى عن الشر إلا من لا يفعله ، فقال الحسن: ود إبليس لو ظفر منا بهذه حتى لا ينهى أحد عن منكر ، ولا يأمر بمعروف.
وصدق الحسن جعلنا الله ممن يوفق لفعل الخير والعمل به ، وممن يبصر رشد نفسه فما أحد إلا له عيوب إذا نظرها شغلته عن غيره ، نسأل الله أن يحيينا ، ويـتوفانا على سنة محمد صلى الله عليه وسلم .
انتهى المقصود اختياره من هذا الكتاب العظيم ، نسأل الله أن ينفعنا بما علمنا.
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله ، وسلم.
في 30/3/1425هـ