وحد الكرم أن تعطي من نفسك الحق طائعاً ، وتتجافى عن حقك لغيرك قادراً ، وهو فضل أيضاً ، وكل جود كرم ، وفضل وليس كل كرم ، وفضل جوداً ؛ فالفضل أعم ، والجود أخص ، إذ الحلم فضل وليس جوداً ، والفضل فرض زدت عليه نافلة.
كانت فيَّ عيوب ، فلم أزال بالرياضة ، وإطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين ، والمتقدمين في الأخلاق ، وفي آداب النفس ، أعاني مداواتها ، حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه ، وتمام العدل ورياضة النفس والتصرف بأزمة الحقائق ، هو الإقرار بها ليتعظ بذلك متعظ يوماً ، إن شاء الله.
فمنها: كلف في الرضاء ، وإفراط في الغضب ، فلم أزل أداوي ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة ، بالكلام والفعل والتخبط ، وامتنعت مما لا يحل من الانتصار ، وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً ، وصبرت على مضض مؤلم ، كان ربما أمرضني وأعجزني ذلك في الرضا ، وكأني سامحت نفسي في ذلك ؛ لأنها تمثلت أن ترك ذلك لؤم.
ومنها دعابة غالية ، فالذي قدرت عليه فيها إمساكي عما يغضب الممازح ، وسامحت نفسي فيها ، إذ رأيت تركها من الانغلاق ، ومضاهياً للكبر.
ومنها عجْب شديد ، فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها ، حتى ذهب كله ، ولم يبق له ـ والحمد لله ـ أثر ، بل كلفت نفسي احتقار قدرها جملة ، واستعمال التواضع.
ومنها محبة في بُعد الصيت والغلبة ، فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحل في الديانة ، والله المستعان على الباقي.
ومنها إفراط في الأنفة بغضت إلي إنكاح الحرم جملة بكل وجه ، وصعبت ذلك في طبيعتي ، وكأني توقفت عن مغالبة هذا الإفراط الذي أعرف قبحه لعوارض اعترضت علي ، والله المستعان.
ومنها حقد مفرط ، قدرت ـ بعون الله تعالى ـ على طيه وستره ، وغلبته على إظهار جميع نتائجه ، وأما قطعه ألبتة ؛ فلم أقدر عليه ، وأعجزني معه أن أصادق من عاداني عداوة صحيحة أبداً.
وأما سوء الظن فيعده قوم عيباً على الإطلاق ؛ وليس كذلك ، إلا إذا أدى صاحبه إلى ما لا يحل في الديانة ، أو إلى ما يقبح في المعاملة ، وإلا فهو حزم ، والحزم فضيلة.
.. النائل مني لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما:
إما أن يكون كاذباً ،
وإما أن يكون صادقاً.
فإن كان كاذباً فلقد عجل الله لي الانتصار منه على لسان نفسه ، بأن حصل في جملة أهل الكذب .
وبأن نبه على فضلي بأن نسب إليّ ما أنا منه بريء العرض ، وما يعلم أكثر السامعين له كذبه ، إما في وقته ذلك ، وإما بعد بحثهم عمّا قال.
وإن كان صادقاً فإنه لا يخلو من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن أكون شاركته في أمر استرحت إليه استراحة المرء إلى من يقدر فيه ثقة ، وأمانة، فهذا أسوأ الناس حالة ، وكفى به سقوطاً وضعة.
وإما أن يكون عابني بما يظن أنه عيب وليس عيباً ، فقد كفاني جهله شأنه ، وهو المعيب لا من عاب .
وأما أن يكون عابني بعيب هو فيّ على الحقيقة ، وعلم مني نقصاً أطلق به لسانه ، فإن كان صادقاً:
فنفسي أحق بأن ألوم منه ، وأنا حينئذ أجدر بالغضب على نفسي مني على من عابني بالحق.
وأما أمر إخواني (من نال منهم بحضرته) فإني لست أمسك عن الامتعاض لهم ، لكني أمتعض امتعاضا رقيقاً لا أزيد فيه أن أُنَدِّم القائل منهم بحضرتي ، وأجعله يتذمم ، ويعتذر ويخجل ، ويتنصل ، وذلك بأن أسلك به طريق ذم من نال من الناس ،
وأن نظر المرء في أمر نفسه والتهمم بإصلاحها أولى به من تتبع عثرات الناس ،
وبأن أذكر فضل صديقي فأبكته على اقتصاره على ذكر العيب دون ذكر الفضيلة ،
وأن أقول: إنه لا يرضى بذلك فيك ، فهو أولى بالكرم منك ، فلا ترض لنفسك بهذا ، أو نحو هذا من القول.
وأما أن أهارش القائل فأحميه وأهيج طباعه وأستثير غضبه = فينبعث منه في صديقي أضعاف ما أكره ، فأنا الجاني حينئذ على صديقي ، والمعرض له بقبيح السب ، وتكراره فيه ، وإسماعه من لم يسمعه ، والإغراء به ، وربما كنت أيضاً في ذلك جانياً على نفسي ما لا ينبغي لصديقي أن يرضاه لي ، من إسماعي الجفاء والمكروه ،
وأنا لا أريد من صديقي أن يذب عني بأكثر من الوجه الذي حددت ، فإن تعدى ذلك إلى أن يساب النائل مني حتى يولد بذلك أن يتضاعف النيل ، وأن يتعدى أيضاً إليه بقبيح المواجهة وربما إلى أبويّ وأبويه على قدر سفه النائل ، ومنزلته من البذاءة ، وربما كانت منازعة بالأيدي ، فأنا مستنقص لفعله في ذلك زارٍ عليه ، متظلم منه ، غير شاكر له.
لكني ألومه على ذلك أشد اللوم وبالله تعالى التوفيق.
وجدت أفضل نعم الله تعالى على المرء ، أن يطبعه على العدل وحبه، وعلى الحق وإيثاره .
وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه ، فلييأس من أن يصلح نفسه أو يُقَوِّم طباعه أبداً ، وليعلم أنه لا يفلح في دين ، ولا في خلق محمود.
وأما الزهو ، والحسد ، والكذب ، والخيانة ، فلم أعرفها بطبعي قط ، وكأنني لا حَـمْد لي في تركها ، لمنافرة جبلتي إياها ، والحمد لله رب العالمين.
من عَيْبِ حبِ الذكر ، أنه يحبط الأعمال إذا أحب عاملها أن يذكر بها ، فكاد يكون شركاً ؛ لأنه يعمل لغير الله تعالى ، وهو يطمس الفضائل ؛ لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حباً للخير ، لكن ليذكر به.
أبلغ في ذمك من مدحك بما ليس فيك ؛ لأنه نبه على نقصك ،
وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك ؛ لأنه نبه على فضلك،
ولقد انتصر لك من نفسه بذلك ، وباستهدافه إلى الإنكار ، واللائمة .
لو علم الناقص نقصه لكان كاملاً.
لا يخلو مخلوق من عيب ، فالسعيد من قلت عيوبه ودقت.
الإخوان والنصيحة والصداقة
استبقاك من عاتبك ، وزهد فيك من استهان بسيئاتك.
العتاب للصديق كالسبك للسبيكة ؛ فإما تصفو ، وإما تطير.
من طوى من إخوانك سره الذي يعنيك دونك = أخون لك ممن أفشى سرك ؛ لأن من أفشى سرك فإنما خانك فقط ، ومن طوى سره دونك منهم ، فقد خانك واستخونك.
لا ترغب فيمن يزهد فيك ، فتحصل على الخيبة والخزي.
لا تزهد فيمن يرغب فيك ، فإنه باب من أبواب الظلم ، وترك مقارضة الإحسان ، وهذا قبيح.
أكتم سر كل من وثق بك ، ولا تفشي إلى أحد من إخوانك ولا من غيرهم مِن سرك ما يمكنك طيه بوجه ما من الوجوه ، وإن كان أخص الناس بك.
وابذل فضل مالك وجاهك لمن سألك أو لم يسألك ، ولكل من احتاج إليك وأمكنك نفعه ، وإن لم يعتمدك بالرغبة ، ولا تشعر نفسك انتظار مقارضة على ذلك من غير ربك عز وجل ، ولا تبن إلا على أن من أحسنت إليه أول مضر بك ، وساع عليك ، فإن ذوي التراكيب الخبيثة ، يبغضون لشدة الحسد كل من أحسن إليهم إذا رأوه في أعلى من أحوالهم.
لا تنصح على شرط القبول
ولا تشفع على شرط الإجابة
ولا تهب على شرط الإثابة
لكن على سبيل استعمال الفضل ، وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة ، وبذل المعروف.