رد: نـاس لا يـحـبـهـم الْقهَّـار من الكتاب والسنة والآثار
قال السعدي رحمه الله :
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول ، أي : يبغض ذلك ويمقته ، ويعاقب عليه . ويشمل ذلك جميع الأقوال السيئة ، التي تسوء وتحزن ، كالشتم ، والقذف ، والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله ، من المنهي عنه ، الذي يبغضه الله . ويدل مفهومها ، أنه يحب الحسن من القول ، كالذكر ، والكلام الطيب اللين . وقوله : ( إلا من ظلم ) أي : فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ، ويشتكي منه ، ويجهر بالسوء لمن جهر له به ، من غير أن يكذب عليه ، ولا يزيد على مظلمته ، ولا يتعدى بشتمه غيرَ ظالمه . ومع ذلك ، فعفوه ، وعدم مقابلته ، أولى كما قال تعالى َمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى : 40 )...وقوله تعالى: ( وكان الله سميعا عليما ). ولما كانت الآية ، قد اشتملت على الكلام السيء ، والحسن ، والمباح ، أخبر تعالى ، أنه سميع ، فيسمع أقوالكم ، فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم . وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن ؛ وأنه عليم بنياتكم ومصدر أقوالكم . ثم قال تعالى ( إن تبدوا خيرا أو تخفوه) وهذا يشمل كل خير ، قولي ، وفعلي ، ظاهر ، وباطن ، من واجب ، ومستحب . ( أو تعفوا عن سوء) أي : عمن أساء إليكم في أبدانكم ، وأموالكم ، وأعراضكم ، فتسمحوا عنه ، فإن الجزاء من جنس العمل . فمن عفا لله ، عفا الله عنه ، ومن أحسن ، أحسن الله إليه ، فلهذا قال : ( فإن الله كان عفوا قديرا ) أي : يعفو عن زلات عباده ، وذنوبهم العظيمة . فيسدل عليهم ستره ، ثم يعاملهم بعفوه التام ، الصادر عن قدرته . وفي هذه الآية ، إرشاد إلى التدبر في معاني أسماء الله وصفاته ، وأن الخلق والأمر ، صادر عنها ، وهي مقتضية له ، ولهذا يعلل الأحكام ، بالأسماء الحسنى ، كما في هذه الآية . لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء ، رتب على ذلك ، بأن أحالنا على معرفة أسمائه ، وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص...
قلت : ما دام الله عز وجل ( لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ ) فإنه تعالى يبغض من يجهر بالسوء ، فليحذر المرءُ خطرَ لسانه...وليذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما شيءٌ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن...فإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء) . رواه الترمذي
أما من ظُلم فقد أُبيح له الرد على من ظلمه ، بقوله تعالى :( إِلاَّ مَن ظُلِمَ ) ، وباعتبار الظلم اعتداء، جاز للمعتَدى عليه الرد ،بقوله تعالى :(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّاللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (البقرة : 194 )... وإنْ يتركِ المظلوم الرد بالمثل ويلجأْ إلى الله يشكو إليه ظالمه ويدعو، يكنْ له خيراًَ ..لأن الله تعالى ( يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ) (الحج : 38 ) ولأن النبيصلى الله عليه وسلم قال :
"ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٌ لا شكَّ فيهنَّ: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم". رواه أبو داود..
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل. والصائم حتى يفطر. ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول: بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين). رواه ابن ماجه
و عن ابن عباس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن،- فقال: ... واتق دعوة المظلوم، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب. رواه البخاري ومسلم...
قال ابن حجر في فتح الباري :
قوله واتق دعوة المظلوم أي تجنب الظلم لئلا يدعوَ عليك المظلومُ .. وفيه تنبيه علىالمنع من جميع أنواع الظلم والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم= فإياك وكرائم أموالهم=، الإشارة إلى أن أخذها ظلم.. وقال بعضهم عطف واتق على عامل إياك المحذوف وجوبا فالتقدير اتق نفسك أن تتعرض للكرائم وأشار بالعطف إلى أن أخذ الكرائم ظلم ولكنه عمم إشارة إلى التحرز عن الظلم مطلقا...وقوله ليس بينها وبين الله حجاب، أي ليس لها صارف يصرفها ولا مانع والمراد أنها مقبولة وإن كان عاصيا كما جاء في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا= دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه= وإسناده حسن.. وليس المراد أن لله تعالى حجابا يحجبه عن الناس وقال الطيبي قوله اتق دعوة المظلوم تذييل لاشتماله على الظلم الخاص من أخذ الكرائم وعلى غيره ...وقوله فإنه ليس بينها وبين الله حجاب تعليل للإتقاء وتمثيل للدعاء كمن يقصد دار السلطان متظلما فلا يحجب ... قال بن العربي إلا أنه وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب إما أن يعجل ما طلب وإما أن يدخر له أفضل منه وإما أن يدفع عنه من السوء مثله وهذا كما قيَّد مطلقَ قوله تعالى:(َمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ..) (النمل : 62 )) بقوله تعالى: ( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء ..) (الأنعام : 41 )
10-(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة : 64 )
قال ابن كثير رحمه الله :
يخبر تعالى عن اليهود ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ـ بأنهم وصفوا الله عز وجل وتعالى عن قولهم علواً كبيراً بأنه بخيل, كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا (يد الله مغلولة). قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عبد الله الطهراني, حدثنا حفص بن عمر العدني, حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس (مغلولة) أي بخيلة, وقال علي بن أبي طلحة ،عن ابن عباس في قوله تعالى : (وقالت اليهود يد الله مغلولة) قال: لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة, ولكن يقولون: بخيل يعني أمسك ما عنده.. تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً, وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك, وقرأ : (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً) (الإسراء : 29 )) يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير, وهو زيادة الإنفاق في غير محله, وعبر عن البخل بقوله (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله, وقد قال عكرمة: إنها نزلت في فنحاص اليهودي, عليه لعنة الله, وقد تقدم أنه الذي قال فيه الله الغني الكبير: (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (آل عمران : 181 ) فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه... وقال محمد بن إسحاق: حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة, عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق, فأنزل الله وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ) وقد ردّ الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه, فقال:( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ) وهكذا وقع لهم, فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم, كما قال تعالى: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً* أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً) (النساء : 53- 54 ), وقال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) (آل عمران : 112 )...
ثم قال تعالى:(بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)أي بل هو الواسع الفضل, الجزيل العطاء, الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه, وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له, الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه, في ليلنا ونهارنا, وحضرنا وسفرنا, وفي جميع أحوالنا, كما قال:(وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (إبراهيم : 34 ) والاَيات في هذا كثيرة,...
وقد قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار, أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض, فإنه لم يغض ما في يمينه ـ قالصلى الله عليه وسلم ـ: وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض. وقالصلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى: «أنفق, أنفق عليك» أخرجاه في الصحيحين, البخاري في التوحيد عن علي بن المديني, ومسلم فيه عن محمد بن رافع, كلاهما عن عبد الرزاق به.
وقوله تعالى:(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً)أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم, فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً, يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً, وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء, وكفراً أي تكذيباً, كما قال تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) (فصلت : 44 ) وقال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً) (الإسراء : 82 ),
وقوله تعالى:(وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً, لأنهم لا يجتمعون على حق, وقد خالفوك وكذبوك, وقال إبراهيم النخعي: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) قال: الخصومات والجدال في الدين, رواه ابن أبي حاتم.
وقوله كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ) أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها, وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها, أبطلها الله ورد كيدهم عليهم, وحاق مكرهم السيء بهم...(وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإفساد في الأرض, والله لا يحب من هذه صفته,...
|