الفصل الثاني
أحــكام يــوم الجمــعة
ولما كان يوم الجمعة بهذه المنزلة العظيمة كما تابعنا، فقد اختصه الله عز وجل بشعائر وعبادات وأحكام لم يجعلها لغيره من الأيام، كأن تشرع القراءة في صلاة الصبح منه بسورتي السجدة والإنسان، لما ورد في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعةألم تنزيل السجدة، وهل أتى على الإنسان حين من الدهر}1
ولعل الحكمة في ذلك الإشارة إلى ما فيهما من ذكر خلق آدم وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك كان ويقع يوم الجمعة، ذكره ابن دحية، وقال البعض: بل قصد السجود الزائد 2
لكن ينبغي للإمام ألا يداوم عليهما لئلا يظن البعض أن قراءة السجدة يوم الجمعة فرض، إذ قد يظن كثير ممن لا علم له أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ولذلك كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السور في فجر الجمعة دفعاً لتوهم الجاهلين 3.
أما في صلاة الجمعة، فتستحب قراءة الأعلى والغاشية كما ورد عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله 4 وقيل بل تستحب قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى، والمنافقون في الثانية 5
كما تستحب قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة وليلتها، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إن من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين} 6
وفي ناحية قراءة القرآن أيضاً، نجد أنه تستحب قراءة الدخان ويس ليلة الجمعة، لما أخرجه البيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قرأ ليلة الجمعة حم الدخان ويس أصبح مغفوراً له} 7
ومن الأحكام المتعلقة بهذا اليوم العظيم أنه يستحب الإكثار من الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وليلتها، لحديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي}
قالوا يا رسول الله، كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: {إن الله قد حرم على الأرض أن تأكل من أجساد الأنبياء} 8
وإذا ما أتينا إلى ناحية الصيام والقيام، نرى أنه يُكره إفراد يوم الجمعة بالصيام وليلته بالقيام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم } 9
وعن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة، فقال لها: {أصُمتِ أمس؟ قالت لا. قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا. قال: فأفطري} 10
وننتقل إلى مسألة السفر، فإنه يُحرم لمن دخل عليه وقتها وهي تجب عليه، ويُباح قبل الزوال وبعده 11
أما لدى المالكية، فيجوز السفر يوم الجمعة قبل الزوال، وقيل يُكره، أما بعد الزوال، فإنه يُمنع باتفاق أهل المذهب كلهم.
وعند الشافعية أن السفر يوم الجمعة لا يجوز إلا مع إمكان أدائها في طريقه.
وذهب الحنابلة إلى أن من وجبت عليه الجمعة، لا يجوز له السفر بعد دخول وقتها، وفي السفر قبل الوقت ثلاث روايات: المنع،
الجواز، المنع إلا للجهاد. 12
كذلك، يُحرم البيع والشراء يوم الجمعة إذا أذن المؤذن عند جلوس الإمام على المنبر، لقول الله عز وجل:
[يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون] 13
لكن، هل يُحرم غير البيع من العقود كالإجارة والصلح والنكاح ؟
ذهب الجمهور من الأحناف يوافقهم المالكية والشافعية والحنابلة في أحد قولين إلى أن غير البيع - من العقود التي يُتصور أن تشغل المصلي - في حكم البيع من حيث التحريم.
هذا ولا تقام صلاة الجمعة إلا في المصر 14، وإن كان الشافعي يرى وجوب إقامتها في القرية 15، أما مالك فلا يجيز إقامتها في القرية إلا بشرط أن تكون القرية كثيرة، فيها سوق وجامع وأزقة 16
وماذا عن المعذورين إن كانوا جماعة؟ هل يصليها كل واحد لوحده، أو أن عليهم كسب ثواب الجماعة؟؟
يرى الأحناف، ويوافقهم المالكية، أنه يُكره أن يصلي المعذورون الظهر يوم الجمعة في المصر، لئلا يُتهموا بالرغبة عنها 17،
فيما يخالفهم الشافعي في ذلك، إذ يرى من السنة أن يُقيموها في الجماعة، لكن إن خفي عذرهم وجب عليهم إخفاؤها 18
وبكل الأحوال، لا تُقام معها جمعة في المصر، أو في القرية إلا لعذر 19،
وما من خلاف في ذلك.
وما زلنا مع أحكام يوم الجمعة
1- الاستذكار5\86، 87
2- اللمعة في خصائص يوم الجمعة 1\15
3- زاد المعاد 1\375
4- مسند أبي حنيفة 1\53
5- تحفة الفقهاء 1\162
6- الحاكم - كتاب التفسير- تفسير سورة الكهف.
7- اللمعة في خصائص الجمعة 1\100
8- مسلم- كتاب الصيام- باب كراهة إفراد يوم الجمعة بصوم لا يوافق عادته.
9- المرجع نفسه.
10- البخاري- كتاب الصيام- باب صوم يوم الجمعة.
11- تحفة الملوك 1\100
12- المقدمة الحضرمية 1\103
13- سورة الجمعة، الآية رقم 9
14- فتاوى السغدي 1\90
15- المقدمة الحضرمية 1\104، 105
16- الكافي 1\69
17- المبسوط للشيباني 1\189
18- المقدمة الحضرمية 1\103
19- المبسوط للشيباني 1\345