عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 24-07-2009, 12:09 PM
الصورة الرمزية أم عبد الله
أم عبد الله أم عبد الله غير متصل
مراقبة الملتقيات
 
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,882
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني

بطل المحنة

سير الصالحين مدرسة، أسسها القرآن ،ووعتها السنة ، ومعنا في هذه الأوراق : صالح من الصالحين ، بل أمام الدنيا ، وحافظ العصر ، وأحفظ أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحديث .
وعت الدنيا اسمه ، وحفظت القلوب رسمه ، فما هنالك فيما أظن مسلم يصلي خمس صلوات في اليوم والليلة ، إلا ويعرف هذا الإمام حتى من أعدائه من الكفار ، والمنافقين فأنهم يعرفونه إلى قيام الساعة .
هو الإمام ( أحمد بن حنبل ) أمام أهل السنة ، الواقف يوم المحنة ، الزاهد فيما سوى الله ، المتقن للحديث .
فمن هو الإمام أحمد ؟ علنا نقتدي بشيء من سيرته ، فإن لم نستطع ، فلنحبه في الله ، فإن المؤمن يحشر مع من أحب ، والمؤمن والخليل على دين خليله ، والله عز وجل يقرن الأصناف مع أصنافهم ، والأنواع مع أنواعهم والأشباه مع أشباههم.
أحب الصالحين ولست منهم *** لعلي أن أنال بهم شفاعة
واره من تجارته المعاصي *** ولو كنا سواء في البضاعة
ولد الإمام أحمد في آخر القرآن الثاني ، وعاش في بيت فقير .
مات أبوه ، وهو طفل ، فكفلته أمه الزاهدة العابدة الصائمة القائمة .
قال أحمد ، رحمه الله : فحفظتني أمي القرآن ، وعمري عشر سنوات ، فحفظ كتاب الله ، واستوعباه في صدره ، ففرت الوساوس والشياطين من صدره ، فأصبح عابدا لله .
وقال أحمد ، رحمه الله : كانت أمي تلبسني اللباس ، وتوقظني وتحمي لي الماء قبل صلاة الفجر ، وأنا ابن عشر سنوات ، ثم كانت تتخمر وتتغطى بحجابها ،وتذهب معه إلى المسجد ؛ لأن المسجد بعيد ، ولأن الطريق مظلمة .
فانظر إلى هذه المرأة الصالحة !
عاش في هذا الجو ، وعاش في هذا البيت ،وكل همه : أن يعبد الله بكلام الله ، وان يكون عبدا خالصا لله .
قال : فأعطتني متاع السفر .
أتدرون ماذا أعطته من الزاد وكم أعطته من الألوف ؟ وكم أعطته من الدراهم والدنانير ؟
لقد صنعت له ما يقارب عشرة من الأرغفة من الشعير ، ووضعتها في حقيبة من قماش معه ، ووضعت معها صرة ملح!!
وقالت : يا بني ، إن الله إذا استودع شيئا لا يضيعه أبدا ، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه .
فذهب من عندها من بغداد ، من عاصمة الدنيا ، من دار السلام .
ل ماذا ذهب ؟ اذهب للسياحة كما يفعل اللاهون اللاغون اللعابون ؟
أم ذهب إلى التسكع كما يذهب السادرون المخمورون المسكورون ؟
أم ذهب إلى ضياع الأوقات والتدحرج على الثلج كما يذهب الذين رفعت عنهم أقلام التكليف ؟
لا ، بل ذهب ليبحث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ذهب إلى مكة والمدينة .
من زار بابك لم تبرح جوارحه *** تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة *** والقلب عن جابر والسمع عن حسن

فذهب ، رحمه الله ، وقال مضيت من بغداد على رجلي إلى مكة ، فضعت في الطريق ثلاث مرات ، فكنت كلما ضعت استغفرت الله ، ودعوت الله .
قال : فوالله ما انتهيت من كلامي ، إلا وبدلني الله تعالى على الطريق .
من هو ملجأ الخائفين ؟ انه الله .
من هو منقذ العارفين ؟ انه الله .
فكان كلما ضاع في الصحراء ، التجأ إلى الله فليس عنده علامات ، ولا بوصلات ولا خطوط صحراء ، بل هي ارض مقفرة يضيع فيها الذكي والبليد.
فضاع الإمام أحمد ، ولكن رد اتجاهه إلى الله (( أحفظ الله يحفظ )) فلما حفظ الله حفظه الله في سمعه وجوارحه ودينه ومستقبله وسمعته إلى يوم القيامة .
وحفظ الله اسمه للملايين ؛ عند مسلمي الصين واليابان والملايو والعراق والجزيرة وسوريا والجزائر ، ومسلمي أمريكا ، فلهم يسمعون بأحمد بن حنبل ؛ لأنه حفظ الله .
ثم وصل إلى مكة ، وأخذ حديث مكة ، وبعدها سافر إلى اليمن إلى صنعاء اليمن ، إلى عبد الرزاق بن همام الصنعاني يطلب الحديث ، وبينما هو في طريقه ضاع مرة رابعة ، قال : وانتهت نفقتي من الخبز إما الدراهم فما كان عندي دراهم ، فماذا افعل ؟
قال : نلت إلى قوم أهل مزارع ، يحصدون ويصرمون ، فأجرت منهم نفسي ثلاثة أيام ، يا سبحان الله ! أمام الأئمة الذي يحفظ ألف ألف حديث ، كما يقول الذهبي وابن كثير ( أي : مليون حديث ) ويؤجر نفسه من الحصادين فيحصد لهم .
ووصل بحفظ الله إلى صنعاء ، واخذ الأحاديث النبوية وكتبها .
كان يسهر الليل حتى الفجر ،ويصوم النهار حتى الغروب .
يقول ابنه عبد الله : كان أبي يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة.
وانظروا (( تذكرة الحفاظ )) للذهبي ، و(( سير أعلام النبلاء )) له و((البداية والنهاية)) لابن كثير ، و(( تاريخ بغداد )) ، و (( تاريخ دمشق )) فكلها متواترة على انه كان يصلي من غير الفرائض في اليوم والليلة ثلاثمائة ركعة ، وكان يسرد الصوم إلا في بعض الأيام .
ووصل إلى صنعاء ، فقدم له جوائز من السلطان ،ومن الأغنياء ، فرفض وأبى وقال : اعمل بيدي ، فاشتغل في بعض الصناعات ، فرفض وأبى وقال : اعمل بيدي ، فاشتغل في بعض الصناعات بيده حتى أعطاه الله بعض النقود ، ثم عاد إلى بغداد .
أما علمه ، رحمه الله ، فهو البحر ، وحدث عن البحر ولا حرج ، (( واتقوا الله ويعلمكم الله )) فالعلم لي بالمؤسسات ، ولا بالشهادات ، ولا بالجامعات ، العلم :تقوى الله ، العلم :طلب العلم من الحي القيوم الذي يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم:{ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طـه: من الآية 114) ويقول لسليمان {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} (الأنبياء: من الآية 79).
فالفهم من عند الله ، والعلم من عند الله ، والفقه من عند الله ، والذكاء من عند الله ، فيا من اغتر بشهادته ، أو بمستواه ، أو بمنصبه ، والله ، لن تنفعك عند الله جناح بعوضة ، العلم : أن تتعلم وتعمل ، وتعلم الناس لي إلا ، سواء عندك شهادة ، أو لم يكن هناك شهادة ، سواء تعلمت في مدرسة أو لم تتعلم .
{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } (البقرة: من الآية 282) ، فعلم الله الإمام أحمد ، فحفظ ألف ألف حديث ، يستحضرها كما يستحضر الفاتحة حتى كتب (( المسند)) من حفظه في أربعين ألف حديث ، فهو اكبر مسند في الدنيا ، وفي المعمورة ، وعلى البسيطة ، وبين أيدينا ، ولكن من يقرأ (( المسند ))؟ ومن يطالع (( المسند ))؟ ومن يتفقه في (( المسند))؟ أأهل الصحف اليومية والخزعبلات وأهل الملاهي والملاغي ؟ إلا من رحم الله .
وأصبح مطبوعا لنا طبعة فاخرة ، وأصبح معروضا لنا عرضا جيدا ، وأصبح محققا في الدواليب عندنا ، فوضعناه ديكورا وزينة .
فيا أمة محمد ، من يقرأ (( مسند )) أحمد ؟ إن من يقرأه سوف يجد التقوى والزهد ، والرفعة ، والخوف من الله خشية الله عز وجل .
أفت الإمام أحمد في ستين ألف مسالة ، يقال الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذم المنطق وذم الرأي ، وذم الفلسفة والجدل .
أما تواضعه : فمنقطع النظير ، وطالب العلم ، والمسلم ، والعالم والمسؤول ، إذا لم يكن متواضعا لله ، فلا تنظر إليه ؛ فإن الله قد مقته من فوق سبع سماوات ، وقد باء بخزي من الله ، إن لم يتب .
كان ، رحمه الله ، متواضعا جد التواضع.
قال الحفاظ : رأينا الإمام أحمد نزل إلى سوق بغداد ، فاشترى حزمة من الحطب ، وجعلها على كتفه ، فلما عرفه الناس ، ترك أهل المتاجر متاجرهم ، وأهل الدكاكين دكاكينهم ، وتوقف المارة في طرقهم ، يسلمون عليه ، ويقولون : نحمل عنك الحطب ، فهز يده ،واحمر وجهه ،ودمعت عيناه وقال : نحن قوم مساكين ، لولا ستر الله لافتضحنا ، نحن قوم مساكين لولا ستر الله لافتضحنا .
والعجيب في الإسلام: أن العبد كلما ازداد تواضعا لله ، كلما زاده الله رفعة، وكلما ارتفع كلما زاده الله حقارة ومهانة ، ومذلة جزاء وفاقا .
أتى رجل ليمدح الإمام أحمد ، فقال له الإمام أحمد : أشهد الله إني أمقتك في هذا الكلام ،والله ، لو علمت ما عندي من الذنوب والخطايا لحثوت على رأسي بالتراب ، انظر إلى الإمام ! انظر إلى العابد !
جاءه قوم فقالوا : يا أحمد ، يا ابن حنبل ،إن الله قد نشر لك الثناء الحسن ، والله أنا لنسمع الثناء عليك في كل مكان ،حتى في الثغور مع الجيش ،وهم يقاتلون العدو ، ويدعون لك وقت ما يرمون بالمنجنيق ، فدمعت عيناه ، وقال : أظن انه استدراج من الله عز وجل ، فقيل له : بل هي عاجل بشرى المؤمن .
أما زهده في الدنيا ، فقد رفعه عن كثير ممن عاش معه ، وأتته الدنيا راغمة إلى باب بيته فأباها .
طلب من أن يتولى القضاء فامتنع وقال : إن تركتموني ، وإلا فوالله لأهاجر إلى مكان لا تجدوني فيه أبدا .
كان دخله في الشهر سبعة عشر درهما فيقول : هذه تكفينا .
يقول أبناؤه : يا أبتاه، هذه لا تكفينا .
فيقول : إنما هي أيام قلائل ، وطعام دون طعام ، ولبا دون لبا حتى نلقى الله الواحد الأحد .
يقول ابنه عبد الله : بقيت حذاء أبي في رجله ثمانية عشر سنة ، كلما خرمت خصفها بيده ،وهو إمام الدنيا .
أرسل لها المتوكل ثمانية أحمال من الذهب والفضة ، حملها الوزراء على أكتافهم مع سرية من الجيش بعد المحنة ، فردها ، وقال : والله ، لا يدخل بيتي منها درهما ولا دينارا .
وأما خلقه ، فأحسن الناس خلقا ؛ لأن من يتعلم صباح مساء من القرآن ، ومن يجلس مع القرآن ، فسوف يؤثر فيه ، ولو طالت السنوات والأعوام.
والذي لا يأخذ أخلاقه من القران والسنة ، فمن أين يأخذ الأخلاق ؟ ومن أين يتعلم الآداب ؟ أمن ديكارت ، وكانت ، وغيرهم من الكفرة الذين نقلوا ثقافتهم إلينا لنتعلم منهم ؟ متى كانوا أساتذة ؟ ومتى كانوا معلمين ؟ بل هم أحقر الناس وأخبث الناس مع الناس .
إنما يتعلم من وحي السماء ؛ الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم .
يقول الإمام أحمد : رحم الله أم صالح ( يعني : زوجته وقد توفيت ) صاحبتني ثلاثين سنة،والله ما اختلفت أنا وهي في كلمة واحدة .
زوجته في بيته ، صاحبته ثلاثين سنة، ما اختلف معها في كلمة واحدة .
أتاه رجل من اتباع السلطان المعتصم ، فسب الإمام أحمد أمام الناس ، وجدعه وشتمه ، وأخزاه بالكلام ، ولكن لي بمخز ، إن شاء الله .
فقال الناس : يا أبا عبد الله ، يا أحمد ، رد على هذا السفيه .
قال : لا والله ، فأين القرآن إذن ؟ يقول الله عز من قائل : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجاهلونَ قَالُوا سَلاماً} (الفرقان: من الآية 63) هذا هو القرآن الذي يمشي على الأرض .
كان يجلس للناس ،رحمه الله ، فيتعلمون منه وينظر إليهم ويباسطهم .
قال ابنه عبد الله : دخلت على أبي ، وهو جالس في البيت متربعا مستقبل القبلة، ودموعه تهمل على خديه ، فقالت : يا أبتاه، ما لك ؟
قال : تذكرت في هذه الغرفة موقفي في القبر وحدي لا أنيس إلا الله .
قال : فأراك متربعا لماذا لا تتكئ وتريح نفسك ؟ ( لأنه شيخ كبير ) ؟.
قال : استحي أن أجالس الله ،وأنا متكئ ، أما يقول الله : أنا جليس من ذكرني ،أنا جليس من ذكرني .
دخل عليه الأديب الكبير ثعلب فقال له الإمام أحمد : ماذا تحفظ من الأدب والشعر ؟
قال : أحفظ بيتين .
قال : ما هما ؟
قال : قول الأول .
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل طرفــه *** ولا أن ما يخفى عليه يغيب

فوضع الكتاب من يده ، وقام وأغلق على نفسه بابا ، وبقي في الغرفة .
قال تلاميذه: والله ، لقد سمعنا بكاءه من وراء الباب ،وهو يردد البيت :
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
كانت اكبر الأماني في حياته أن يحمل السيف مجاهدا في سبيل الله .
نظر إلى قدميه وقت الوفاة فبك ، وقال : يا ليتها جاهدت في سبيل الله .
لكن والله ، لقد جاهد جهادا من أعظم الجهاد ، وبذلك علمه ، وبذل خلقه ، وبذل جاهه ، وبذل ماله، وبذل كل ما يملك في رفع لا إله إلا الله فكان إمام الدنيا بحق .
قال يحيى بن معين : والله ما رأيت أحدا كأحمد من حنبل ، والله ما أستطيع أن أكون مثله ثلاثة أيام .
وقال الإمام الشافعي ، رحمه الله : خرجت من بغداد وسكانها ألف ألف ( يعني: مليون) فوالله ، ما خلفت رجلا أتقى لله ، وأعلم بالله ، وازهد لله وأورع عن حرمات الله ،ولا أحب من الإمام أحمد بن حنبل .
رحم الله الإمام أحمد بن حنبل وأسكنه فسيح جناته وحشرنا في زمرته .

* فتنة خلق القرآن :
يقول سبحانه وتعالى {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(العنكبوت:2 - 3) .
ويقول عز من قائل : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أخباركُمْ} (محمد:31)
لما قرأ الفضيل بن عياض ، رحمه الله ، هذه الآية بكى ،وقال اللهم لا تبلونا فتفضحنا ، فنحن في ستر الله ، نال الله أن لا يفضحنا ، وأن لا يفتنا ، وأن يجعلنا في عافية وستر حتى نلقاه .
لكن للفتنة نتائج طيبة ،يجعلها الله للصابرين ، قال سبحانه وتعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} (السجدة:24)
فالمحنة والفتنة التي ترعض لها الإمام أحمد رواها أهل التاريخ جميعا ، وسمعت بها الدنيا شرقا وغربا ، وشمالا وجنوبا ، إلى قيام الساعة ، هي : محنة خلق القرآن ، أو الفتنة التي أورثها المأمون في الأمة والقول بخلق القرآن ، واختصارا لتعريف هذه المحنة ، فهي :
أن المأمون كان مشوبا برأي منطقي معتزلي .
يقول ابن تيمية : رحمه الله : إن الله لا يغفل عن المأمون لما أدخله من علم المنطق عند المسلمين .
والمأمون الخليفة العباسي ابن هارون الرشيد ، قال : بان القرآن مخلوق ، وكذب على الله ، فالقران كلام الله عز وجل ، والله يتكلم بما شاء متى يشاء ، لم يزل متكلما سبحانه وتعالى ، يقول عز من قائل :{ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } (لأعراف: من الآية 54) فالأمر هنا القرآن .
فقال هذا الخليفة : بان القرآن مخلوق ، واستخدم السيف ليثبت هذه القضية في الأمة ، وقتل ما يقارب ألفا من العلماء الكبار من علماء الأمة . من زملاء الإمام أحمد ، وملأ السجون بكافة العلماء ، فبعضهم أجاب خوفا من السيف ، وبعضهم رفض وقال : لا أجيب فقتل في الحال ، ومنع التدريس في المساجد ، ومنعت الخطابة إلا للمعتزلة ، وانتشر الشر الكثير ، فنصر الله الإسلام بالإمام أحمد بن حنبل ،الذي وقف وحده ، وقال : لا والله ، القرآن كلام الله . فطلبه الخليفة .
قال الإمام أحمد : أخت من بيتي وسط الليل ، وأنا أصلي فوضع الحديد في يدي ، وفي رجلي ، حتى أن الحديد أثقل من جسمي ، ووضعت على فرس ، فكدت اسقط ثلاث مرات كل مرة أقول : اللهم أحفظني، فكان يردني الله حتى أتساوى على الفرص (( أحفظ الله يحفظك )) ، وكان الجندي الذي معه يضرب الفرس لعل الإمام أحمد يسقط على وجهه .
قال : فلما أدخلت السجن سحبت على وجهي ، فنزلت فكنت استغفر الله ، قال : فلا أدري أين القبلة ، ولا ادري أين أنا في ظلام ، وفي وحشة لا يعلمها إلا الله ، فكنت أقول : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .
قال : فمددت يدي ، فإذا بماء بارد ،فتوضأت منه ، وقمت أصلي إلى الفجر ، انظر إلى حفظ الله حتى في الساعات الحرجة ، لا ينسى ربه تبارك وتعالى لأنه العون .
فالزم يد بحبل الله معتصمـــــا *** فإنه الركن إن خانت أركان

قال : فلما أصبح الصباح حملت على الفرس ثانية ، وما طعمت طعاما ، وكدت اسقط من الجوع ، فأدخلت على المعتصم الخليفة الثاني ، الخليفة العكسري ، صاحب عمورية ، فلما دخلت عليه هز السيف في وجهي ، وقال: يا أحمد ، والله ،إني احبك كابني هارون فلا تعرض من دمك لنا .
فقال الإمام أحمد : ائتوني بكتاب الله ، أو بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فدعي بالجلادين ، ودعي بجبار من الجبابرة ، وقال له : اضرب هذا الرجل ، يعني : الإمام أحمد ، فجلده مائة وستين سوطا ،حتى غشي عليه ثم استفاق .
فكان يقول : لا إله إلا الله ، حسبي الله ونعم الوكيل لأنها أطول كلمات ، ولأنها قوة هائلة ، ولأنها قوة فتاكة {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: من الآية 173) .
يقول ابن عباس ، رضي الله عنهما : قالها إبراهيم فنجاه الله من النار ، وقالها محمد فنجاه الله من كيد الكفار صلى الله عليه وسلم .
ورفض أن يجيب حتى تمزق ظهره من كثرة الجلد ، فرفع على الفرس وأعيد .
وبقي في السجن ثمانية وعشرين شهرا سرد الصيام في هذه الفترة ، كما قال ابنه عبد الله فما افطر يوما واحدا .
ثم في الأخير عرض على السيف ، ورفض فلما أعجزهم ، وأكلهم وأملهم أعادوه إلى بيته ، فأنزلوه ، وهو جريح .
يقول ابنه عبد الله : دخل أبونا علينا في الليل بعد ما أطلق من السجن ، قال : فأنزلناه من على الفرس فوقع من التعب ،ومن الإعياء ، ومن الضعف والهزال ، والمرض على وجهه فبقي أياما ، ثم تولى الخلافة المتوكل ، فنصر السنة، وأتى بالمال والذهب إلى الإمام أحمد ، فبكى الإمام أحمد ، وقال : والله ، إني أخاف من فتنة النعمة أكثر من فتنة المصيبة والمحنة،فرفض ، وما أخذ شيئا وبقي على هذا الحال .
وكان يقول : يا ليتني ما عرفت الشهرة، يا ليتني في شعب من شعاب مكة ما عرفني الناس .
فلما أراد الله أن يرفع ذكره قبضه إليه في يوم من اسعد الأيام مرض تسعة أيام ،ومحص الله ما بقي عليه من خطايا ومن ذنوب ومن سيئات ، لا يخلو عنها البشر في هذه التسعة الأيام ، وفي اليوم الأخير سمع الخليفة انه مريض ، فأمرر الناس بزيارته ،فانقلبت بغداد العاصمة؛ عاصمة الدنيا ، دار السلام ،ظهرا وبطن متجه طوابير ، وفي كتائب إلى بيت الإمام أحمد ؛ لتزوره في اليوم الأخير .
فقال أبناؤه : والله ، لقد أغلقت المتاجر حول بيوتنا ، ولقد وقف الباعة من كثرة الناس ، فرفض الإمام أحمد أن يدخل عليه إلا الصبيان ، والمساكين ، فأدخلوا الأطفال عليه ، فأخذ يبكي ويقبلهم ، ويمسح على رؤوسهم ، ويدعو لهم ، ثم ادخل عليه الفقراء، فأخذ ينظر إليهم ، ويقول : اصبروا فإنها أيام قلائل ، لباس دون لباس ، وطعام دون طعام حتى نلقى الله .
وفي سكرات الموت التفت إلى طرفه بيته ، والى طرف غرفته ، وقال : لا بعد ، لا بعد ، لا بعد .
فقالوا : ما لك ؟
قال : تصور لي الشيطان ، ورأيته يعض على إصبعه .
ويقول : فتني يا أحمد ، فتني يا أحمد ، يعني : هربت مني ، فقد فتنت الناس إلا أنت ، فيقول الإمام أحمد : لا بعد ، يعني : انتظر فإني أخاف على نفسي ، فقبضه الله عز وجل .
وكانت آخر كلماته : اللهم اعف عن من ظلمني ، اللهم اعف عن من شتمني ،اللهم سامح من ضربني ، اللهم سامح من سجنني ، إلا صاحب بدعة يكيد بها دينك ، فلا تسامحه ، وقبضت روحه ، رضي الله عنه وأرضاه .
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر *** فليس لعين لم يفض ماؤها عذر

فأمر المتوكل أن يشعوا الجنازة ، ففتحت الثكنات العسكرية لجيش الخليفة ، وبقي الناس يتوضؤون من الضحى إلى صلاة العصر ، وحملت الجنازة ، وارتفعت في الصباح من بيته ، ووصلت إلى مصلاها قريبا من ضاحية بغداد في العصر من كثرة الزحام .
شيعه كما يقول أهل العلم : مليون وثلاثمائة ألف كما أثبتت ذلك التواريخ ، وتوقف اليهود والنصارى من بيعهم ذاك اليوم ، وهبت ريح على بغداد ، حتى قال بعض الجهلة : قامت القيامة ، وخرج الجيش ، وقوامه : تسعون ألفا في مقدمة الناس ، يرتبون الصفوف ، وترددت بغداد بالبكاء من أولها لآخرها ، ووصلت جنازته حتى قال بعض أهل التاريخ : كانت تذهب الجنازة على رؤوس الناس تحمل بالأصابع ، وتعود إلى المؤخرة ، وتذهب وتأتي ، فملا وضعت ارتفع البكاء ، وقام الناس يصلون عليها {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (الفجر:27) {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (الفجر:28 - 29){وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:30) .
دفن ، لكن ما دفن علمه ، ولا تواضعه ، ولا زهده ، ولا ذكره الحسن ؛ فقد ابقى الله له ذكرا إلى قيام الساعة .
قال ابن كثير : رآه أحد الصالحين ، فقال : ما فعل الله بك ؟ قال : ناداني ، فقال : يا عبد الله ، الحق بابي عبد الله وأبى عبد الله وأبي عبد الله .
قلت : من هم ؟
قال : الشافعي ، وسفيان الثوري ، والإمام مال . {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الاحقاف:16)
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.59 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.56%)]