
24-07-2009, 12:08 PM
|
 |
مراقبة الملتقيات
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2009
مكان الإقامة: أبو ظبي
الجنس :
المشاركات: 13,882
الدولة :
|
|
رد: كتاب سيماهم في وجوهم د. عائض بن عبد الله القرني
أما آخر الأصحاب ، فهو : عكرمة بن أبي جهل
فسبحان الذي يخرج الحي من الميت ، والميت من الحي ، لقد كان أبوه فرعون هذه الأمة .
تأخر إسلامه حتى يوم الفتح .
كان مشركا آنذاك ، وقاوم مقاومة عنيفة ، لكن انهارت مقاومته أمام خالد .
فركب إلى البحر يريد أن يرمي نفسه في البحر ، ويخرج إلى إحدى الجزر ، أو أن يضيع في العالم ؛ لأنه ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يذبحه .
فأتت امرأته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقالت : زوجي فر منك .
قال : (( خذي له الأمان )).
قيل : أعطاها صلى الله عليه وسلم كساء ، وقيل : عمامة ، وقيل : أعطاها قلنسوة ، فقال : (( خذيها وأخبريه )).
فأتت وإذا هو يتهيأ على البحر يريد أن يركب سفينة ، فأشارت إليه قائلة : الأمان ، الأمان.
قال : لا أمان ، لا أمان .
قالت : هذه عمامة محمد صلى الله عليه وسلم وقلنسوته .
فلما عاد ، ورآه صلى الله عليه وسلم مقبلا مع زوجته تبسم صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه ليس من الحكمة أن يقول : أين أنت يا فار أو يا كافر .
ولكنه صلى الله عليه وسلم قال : (( مرحبا بالراكب المهاجر )) (18)، أنت هاجرت إلى الله ورسوله .
فقال : اشهد أن لا إله إلا الله واشهد انك رسول الله ، والله يا رسول الله ، لا اترك موقفا حاربت الإسلام فيه إلا حاربت مع الإسلام فيه ، ولا نفقة أنفقتها في حرب الإسلام ، إلا أنفقت ضعفها في نصرة الإسلام .
حضر اليرموك ، رضي الله عنه و أرضاه ، فانهزم المسلمون في أول معركة .
فلما رأى الهزيمة لبس أكفانه ، واغتسل وتطيب ،وسل سيفه وكسر غمده على ركبته ، وقال : يا مسلمون ، من يبايعني على الموت؟ من يشتري الموت اليوم ؟
فبايعه أربعمائة مقاتل ، فشق بهم صفوف الروم كالسيل ، حتى وصل إلى وسط الروم ، فقاتل حتى صلاة الظهر ، ثم تناوشته الرماح والسيوف من كل جانب فوقع صريعا على الأرض .
فحملوه على الأكتاف حتى وصل إلى القائد خالد بن الوليد .
فرآه خالد فاحتضنه ؛ لأنه كان صديقا له في الجاهلية وقال : ماذا تريد يا عكرمة ؟
فأشار بلسانه يريد الماء ، لأنه لا يستطيع أن يتكلم ، فهو في آخر رمق الحياة .
فأتى خالد بماء بارد من خيمته ، فاندفع نحو عكرمة ليسقيه ، وما هي إلا لحظات حتى جيء بالحارث بن هشام ، عم عكرمة ،أخو أبي جهل ، وهو في آخر رمق ، فوضع على رجلي خالد ،فأتى بابن عكرمة ، وهو شهيد فوضع بجانبه وجي برابع .
فأتى خالد بالماء ليعطي عكرمة فأشار إلى عمه ، يقول : اسقه قبلي { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (الحشر: من الآية 9) .
فأعطى عمه ، فرفض أن يشرب قبل ابن عكرمة .
فدفعوا الماء للشاب الصغير ، فرفض أن يشرب قبل الرجل الرابع .
فحولوه إلى الرابع ، فقال : لا حتى يشرب عكرمة .
فعاد إلى عكرمة فوجده قد مات .
فدفعه إلى الحارث بن هشام ، فوجده قد مات .
فأعاده إلى الثالث ، فوجده قد مات
فأعاده إلى الرابع ، فوجده قد مات .
قال أهل العلم : فانتحب خالد من البكاء ، وقال : اللهم اسقهم من جنتك زعم فلان ( يعني : أحد الكفار ) أنا لا نموت إلا حبطا ( يعني : لا نموت إلا على الفرش ) لا والله ، بل نموت تحت قصف السيوف وضرب الرماح .
هذا عكرمة بن أبي جهل وهو مثل للشباب المسلم .
قيل للإمام أحمد : هل يقبل المصحف ؟
قال : كان عكرمة يقرأ القرآن ، ويبكي ، ويقبل المصحف ، ويقول : كلام ربي ، كلام ربي .
هؤلاء هم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم ، وأملنا في الله أن يجمعنا بهم في الجنة ؛ لنرى فيها : عمير بن وهب ، والطفيل بن عمرو ، وعمرو بن العاص ، وثمامة بن أثال ، وضمام بن ثعلبة ، وعبد الله بن سلام ، وابن سعنة ، وعكرمة بن أبي جهل .
ومن أراد أن يجتمع بهم فليفعل كفعلهم .
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا *** أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا ولا يستطيع الفاعلون كفعلهـم *** وإن حاولوا في النازلات وأجملـوا
أولئك آبائي
إنها أخبار عجيبة وجميلة ، يطرب لها القلب ، وتتشنف لها الآذان ،وتثلج بها الصدور .
أخبار علمائنا الذين جعلهم الله عز وجل كأنبياء بني إسرائيل ، ووف أقص عليكم قصصا عجيبا من أخبارهم .
الأول : تحملهم المشاق في طلب العلم.
الثاني : زهدهم في الدنيا وإعراضهم عنها .
الثالث : قولهم كلمة الحق فلا يخافون في الله لومة لائم.
الرابع : بذلهم العلم لطالبيه ونشرهم المعرفة.
الخامس : خشيتهم لله تعالى .
السادس : تواضعهم لربهم تبارك وتعالى .
إن العلم اشرف مطلوب ، وهو يوصل صاحبه إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، أو يوصله إلى نار تلظى.
فمن الناس من طلب العلم فكان حجة عليه ، وخيبة وندامة ، فكان الحمار يحمل أسفارا ، كما قال الله عز وجل في علماء بني إسرائيل { كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} (الجمعة: من الآية 5) وقال عالمهم الضال المجرم : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } (لأعراف: من الآية 176).
قال عبد العزيز الجرجاني ، وهو أديب عجيب ، وقصيدته من أحسن القصائد ، وقد قال الناس : ما لك تعتزلنا ولا تخالطنا ولا تذهب آل السلاطين ؟ فرد عليهم بقصيدة ، قال في بعض أبياتها :
يقولون لي فيك انقباض وإنما *** رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما أأشقى به غرسا وأجنيه ذلـة *** إذا فاتباع الجهل قد كان أحزمـا ولم ابتذل في مطلب العلم مهجتي *** لأخدم من لاقيت لكن لأخدمــا
آل أن يقول :
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم *** ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهانوا ودنســوا *** محياه بالأطماع حتى تجهمـا قال أهل السير : كان أحد العلماء المسلمين طلب العلم ، وحفظ القرآن والحديث ، ثم أدركه الخذلان ، والعياذ بالله .
خرج يوما يصلي ، فنظر إلى بيت من البيوت في دمشق ، أو في حمص ، فرأى امرأة أطلت عليه من البيت كشمس الضحى ، وكانت نصرانية كافرة ، فوقع عشقها في قلبه ، فترك المسجد ، وعاد آل البيت ، فرالها ، فاشترطت عليه أن لا يتزوجها ، إلا إذا ارتد عن الإسلام.
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (آل عمران:8)
حاول فيها ، فقالت : المهر : أن تترك الإسلام ، والمسجد ، والقران .
فتزوجها ، وارتد عن الإسلام ، فذهبت به إلى ارض النصارى.
فمر به أحد زملائه ، فوجده يرعى الخنازير !
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} (المائدة: من الآية 13) .
قال : يا فلان ، أين القرآن ؟ أين الحديث ؟
قال : والله ، ما أصبحت أحفظ من القرآن إلا آية واحدة .
قال : ما هي ؟
قال : قوله سبحانه وتعالى :{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ}(الحجر:2) (19)
هذا في العلماء المخذولين ، أما علماؤنا فإليكم طرفا من أخبارهم .
أما تحملهم للمشاق : فأمر عجيب . والله سبحانه وتعالى ذكر موسى ، عليه السلام ، في القرآن ، واخبر انه ركب البحر في طلب العلم .
وبوب البخاري في كتاب العلم ( باب ) ركوب البحر في طلب العلم ، وذكر قصته ، عليه السلام ، عندما وقف خطيبا في بني إسرائيل فقالوا له : أتعلم أحداً أعلم منك في الأرض؟
قال : ما اعلم أحداً اعلم مني .
فلامه الله ، وعاتبه الله على انه ما رد العلم إلى الله .
فقال الله له :بل عبدنا بمجمع البحرين ، الخضر اعلم منك.
فسافر إليه ،وطلب منه الخير ، كما قرأتم في القرآن .
وكان صلى الله عليه وسلم يتابع قصة موسى والخضر في القرآن باشتياق ، فلما انتهت القصة ، وقال الخضر : { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } (الكهف: من الآية 78) قال صلى الله عليه وسلم : (( رحم الله موسى وددت انه صبر حتى يقص الله علينا من نبئهما ))(20).
وقال البخاري : وسافر جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، شهرا كاملا في طلب حديث واحد .
سافر من المدينة إلى الصحابي الجليل عبد الله بن أنيس ، رضي الله عنه ، في مصر .
فلما لقيه في مصر عانقه عبدالله ، وقال له : ادخل اجلس ، حيهلا بك وسهلا .
قال : لا ، أنا خرجت لوجه الله ، ولا أفسد هجرتي ، أريد الحديث الذي سمعته من الرسول صلى الله عليه وسلم .
فأخذ الحديث ، وهو واقف ، ثم ركب ناقته وعاد !
أما سعيد بن المسيب ، فيقول عن نفسه : والله الذي لا إله إلا هو ، لقد كنت أسافر ثلاثة أيام بلياليهن في طلب حديث واحد .
ولذلك بارك الله في علمهم، وبارك في جهدهم .
كانوا يسهرون الليالي ، ولم يكن عندهم مما عندنا من الوسائل الحديثة.
فعندنا كهرباء ، وعندنا وسائل اتصال ، ومطاعم شهية ، ومراكب وطية ، وملابس حسنة .
ولكن قل التحصيل ، ونشكو حالنا آل الله الواحد الأحد .
ويذكرون عن القفال أحد علماء الشافعية انه سافر لطلب العلم ، وكان عمره أربعين سنة ، فلما مشى في الطريق ، قال له الشيطان : كيف تطلب العلم في الأربعين ؟
فرجع من الطريق ، فوجد رجلا يعمل في سانية ، وقد أثر الحبل في الصخر.
فقال القفال :
اطلب ولا تضجر من مطلب *** فآفة الطالب أن يضجرا أما ترى الحبل بطول المدى *** على صليب الصخر قد أثرا
وقيل لعامر الشعبي :بم طلبت العلم ؟
قال : بصبر كصبر الجمال ، وببكور كبكور الغراب .
أي : بعد صلاة الفجر مباشرة.
ودخل الإمام أحمد أكثر من ثلاثين إقليما في طلب الحديث على رجله ، ليس معه إلا بقشته ، فيها الشعير والملح.
دخل خراسان بمدنها ، وسمرقند ، وبخارى ، وتركستان ، وطشقند ، والسند ، وأطراف الهند ، وأطراف أفغانستان ، على ما ينقل في سيرته ، ودخل مصر بأكثر مدنها ، والعراق ، والحجاز ، وذهب إلى الشام ، ثم دخل اليمن ، وطاف الاقاليم .
حتى قال بعضهم : لو حسبت المسافات التي سارها لكانت طوفت الدنيا .
سافر لعبد الرزاق في اليمن ، ولكنه لقيه في مكة يعتمر .
فقال صاحبه يحيى بن معين : هيا بنا ، هذا عبد الرزاق قد حضر ، نأخذ العلم منه ونعود .
قال أحمد : أنا خرجت لله ، و أريد أن يعود عبد الرازق إلى صنعاء ؛ لأذهب إليه ، ولتكون سفرتي في سبيل الله .
فلما عاد عبد الرزاق إلى صنعاء سافر إليه الإمام أحمد .
فترك ، رحمه الله ، لنا ( المسند ) الذي لو تب بالدموع ما أنصفناه .
أما الشافعي ، فقالوا : انفق ثلاثين ألف دينار في طلب العلم ، وهي ميزانية هائلة .
سكن في بداية عهده مع أمه ، وكانت أمه فقيرة ،فدخلت به في بيت ضيق ، فكان يذهب يطلب العلم ، ولا يجد أوراقا ؛ لأنها غالية الثمن ، ولم تكن متوفرة ، فكان يأخذ الجلود والرقاع ، ويأخذ العظام ، ويأخذ الصخور الملساء ، فيكتب فيها العلم ، حتى ضيق على أمه السكن فقالت: يا بني أنخرج ونترك البيت لكتبك !
ثم ذهب إلى البادية فحفظ أشعار ثلاثين شاعرا ، ثم عاد ، فقال له رجل من أهل مكنة : إني أراك نابها فصيحا ذكيا ، فاذهب إلى المدينة ، إلى عالمها ، إلى مالك بن انس فاطلب منه العلم .
فذهب فحفظ (( الموطأ )) في تسع ليالي .
الموطأ المجلد الكامل ، آثاره ، وأحاديثه ، ومرسلاته ، ومقطوعاته ، وموقوفاته حفظه في تسع ليالي .
فلما جلس عند الإمام مالك ؛ ليقرأ عليه ، قال له الإمام مالك : إني أرى عليك نورا ، فلا تفده بالمعصية .
أما عطاء بن أبي رباح فكان مولى عبد ،وكلنا عبيد الله ؛ لأن الإسلام لا يعترف بالدماء ، ولا بالأنساب ، ولا بالألقاب ، ولا بالأسر { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات: من الآية 13) .
كانت سيدته امرأة من مكة ، فأصيب بالشلل ، وأصيب بمرض في جسمه ، فتركته ، فمكث في الحرم ثلاثين سنة يطلب العلم ، حتى برز في العلوم .
ثلاثون نة يقول ما رفعت فراشي في الحرم .
ثلاثون سنة ليلا ونهارا يطلب العلم حتى اصبح عالم المسلمين .
أما ابن عبا ، فكان الأولى أن يقدم في هذا الباب ، ولكننا نقدمه مهما تأخر لفظا ، فإنه متقدم في الرتبة .
ابن عباس ، رضي الله عنهما ، كان يقول : ذللت طالبا فعززت مطلوبا.
العلم حرب للفت المتعالي *** كالسيل حرب للمكان العالي ما أحسن العلم إذا تواضع المرء في طلبه .
قالوا لابن عباس : كيف حصلت على العلم ؟
قال : كنت اخرج من الظهيرة في شدة الحر ، فاذهب إلى بيوت الأنصار ، فأجد الأنصاري نائما ، فلا اطرق عليه بابه من الهيرة ، فأتوسد بردتي عند بيته ، فتلفحني الريح بالتراب ، فيستيقظ الأنصاري ، فيقول : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أيقظتني أدخلك ؟
فيقول : أخاف أن أزعج.
قال : فطلبت العلم هكذا .
فأصبح عالم الأمة ، رضي الله عنه وأرضاه .
أما زهدهم في الدنيا وإعراضهم عنها :
فالدنيا لمن يعرفها ، ولمن يذوقها ، ولمن يستمرئها لا تساوي شيئا .
وأشرف ما تطلبه أنت في الحياة : أن تنقذ نفسك من النار{ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: من الآية 185) .
قيل لأحد العلماء : كيف عرفت الدنيا ؟
قال : دلني العلم على الزهد في الدنيا .
وفي حديث حسن: ((أزهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس))(21)
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الدنيا ملعونة ما فيها إلا كتاب الله وما والاه أو عالم أو متعلم ))(22).
وقال تعالى )مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أعمالهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (هود:15) )أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:16)
وقال )اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (الحديد:20)
وقال عمران بن حطان الخارجي في الدنيا ، وكان شاعرا مجيدا على بدعته :
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها *** على أنهم فيها عراة وجوع أراها وإن كانت تسر فإنـها *** سحابة صيف عن قليل تقشع لما انتصر قتيبة بن مسلم في المشرق أتي بغنائم كرؤوس الأبقار من الذهب والجواهر والدرر .
فالتفت إلى الغنائم وقال لأصحابه : ما رأيكم لو عرضت هذه الأموال على أحد الناس أيردها ؟
قالوا : ما ترى أحدا يردها.
من الذي يرد الذهب ؟
من الذي يرفض المال ؟
قال قتيبة : والله ، لأرينكم قوما من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، المال عندهم مثل التراب .
فأرسل بها إلى العالم الزاهد محمد بن واسع ، وكان معه في الجيش.
فقبلها محمد !
فلما علم قتيبة قال : اللهم لا تخيب ظني فيه .
فقال قتيبة لأحد الجنود : تابع ابن واع ، وانظر أين يذهب .
فتابعه ، وقد أخذ الذهب ، فمر به فقير من الجيش ، وهو يسأل الناس من مال الله ، أعطوني .
فأعطاه كل المال .
فذهب الجندي إلى قتيبة فأخبره .
فتبسم ، وقال : لقد قلت لكم: إن هناك أناسا من أمة محمد الذهب عندهم كالتراب .
وكان علي ، رضي الله عنه ، يقول : لقد ارتحلت الآخرة مقبلة وارتحلت الدنيا مدبرة فكونوا من أبناء الآخرة ،ولا تكونوا من أبناء الدنيا ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغدا حساب ولا عمل .
دخل قيس بن أبي حازم على سليمان بن عبد الملك ؛ الخليفة الأموي فقال : السلام عليك يا سليمان !
قال : الناس يقولون السلام عليك ، يا أمير المؤمنين ، وأنت تقول يا سليمان .
قال : لأني لم أبايعك بالخلافة ، فأنت بويعت بالخلافة على غير رضى مني ، فكيف اسميك أمير المؤمنين ؟
قال : ما لنا نحب الحياة ونكره الموت يا قيس ؟
قال : لأنكم عمرتم حياتكم ، وخربتم خرتكم ، فأنتم تكرهون الانتقال من العمار إلى الخراب .
قال : ما رأيك أن تصحبنا ، وأعطيك نصف ملكي ؟
قال : لا. إن الله قال {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود: من الآية 113) .
قال : ونصف الملك ؟
قال : كم تعطيني من جناح البعوضة ؟ أتعطيني نصف جناح بعوضة ؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ))(23) ثم خرج وتركه .
وكان سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، يطوف بالبيت فمر سليمان هذا بالموكب والوزراء والأمراء ، فلما رآه توقف فاقترب منه ، وقال : يا سالم ، ألك إلى حاجة ؟
قال : يا سليمان ، أما تستحي من الله ؟ تعرض علي المسائل في بيت الله .
فتره ، فلما خرج عرض عليه السؤال ، قال : ألك إلي حاجة؟
قال : من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة ؟
قال : بل من حوائج الدنيا ، أما الآخرة فلا يملكها إلا الله .
قال : والله ، الذي لا إله إلا هو ما سالت حوائج الدنيا من الذي يملكها ، وهو الله ،فكيف اسألها منك؟
وهذا درس لنا : بان نعلم أن ما عند الله هو الباقي { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (النحل: من الآية 96) ، وان افضل ما يمكن أن يكنزه العبد ، هو : العبادة، والصلاح، والعلم النافع {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (الرعد: من الآية 17) .
ودخل الوليد بن عبد الملك المدينة فأرسل أعطيات لبعض الناس ، ومنهم : سعيد بن المسيب .
فذهب الجندي إلى سعيد ، فوجده يصلي ركعتين ، فلما سلم، قال : خذ هذا العطاء .
قال : ممن هذا العطاء ؟
قال : من الوليد بن عبد الملك .
قال : يسرق أموال المسلمين ، ويعطيني العطاء ، ويحاسبني الله على عطائه ، ربما أراد غيري .
قال : لا ، أرادك أنت .
قال : اذهب إليه بالعطاء ، وله : هل يريدني أو يريد غيري ؟
فأخذ الكي ،وذهب به .
فأخذ سعيد بن المسيب حذاءه ، وخرج من طرف المسجد !!
وأما قولهم كلمة الحق : فانهم كانوا لا يخافون في الله لومة لائم.
يقول صلى الله عليه وسلم : (( افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )) (24).
لن هذه لا يستطيع لها إلا قلائل من أمثال سعيد بن جبير ، رحمه الله .
لقد كانت لهم ، رحمهم الله ، مواقف صلبة في قول الحق .
وكيف لا يكونون كذلك ، وسلفهم في ذلك عمر بن الخطاب الذي اقر هذا المبدأ ؟
يقف ، رضي الله عنه ، على المنبر فيقول : يا أيها الناس ، ما رأيكم لو حدت عن الطريق هكذا ؟
فقام أعرابي عنده سيف عند سارية في آخر المسجد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، والله الذي لا إله إلا هو ، لو قلت عن الطريق هذا ، لقلنا بالسيف هكذا .
قال عمر : الحمد لله الذي جعل من رعيتي من إذا قلت عن الطريق هكذا قال بسيفه هكذا .
دخل الزهري العلامة المحدث ، رواية (( الصحيحين )) العظيم مع كثير من العلماء على هشام بن عبد الملك وكان هشام ناصبيا يبغض عليا ، رضي الله عنه .
|