عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( 1 ) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ( 2 ) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ( 3 ) كَلا سَيَعْلَمُونَ ( 4 ) ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ ( 5 ) أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا ( 6 ) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ( 7 ) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا( 8 ) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ( 9 ) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ( 10 ) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ( 11 ) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ( 12 ) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ( 13 ) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ( 14 ) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ( 15 ) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ( 16 )
يقول تعالى منكرًا على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكارًا لوقوعها: ( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ) أي: عن أي شيء يتساءلون؟ من أمر القيامة، وهو النبأ العظيم، يعني: الخبر الهائل المفظع الباهر.
قال قتادة، وابن زيد: النبأ العظيم: البعث بعد الموت. وقال مجاهد: هو القرآن. والأظهر الأول لقوله: ( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) يعني: الناس فيه على قولين: مؤمن به وكافر.
ثم قال تعالى متوعدًا لمنكري القيامة: ( كَلا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَيَعْلَمُونَ ) وهذا تهديدٌ شديد ووعيد أكيد.
ثم شرع تعالى يُبَيّن قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة، الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره، فقال: ( أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ مِهَادًا ) ؟ أي: ممهدة للخلائق ذَلُولا لهم، قارّةً ساكنة ثابتة ، ( وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ) أي: جعلها لها أوتادًا أرساها بها وثبتها وقرّرها حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها.
ثم قال: ( وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ) يعني: ذكرًا وأنثى، يستمتع كل منهما بالآخر، ويحصل التناسل بذلك، كقوله:
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً
[الروم : 21] .
وقوله: ( وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ) أي: قطعا للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد والسعي < 8-303 > في المعايش في عرض النهار. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة "الفرقان".
( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ) أي: يغشى الناس ظلامه وسواده، كما قال:
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا
[الشمس : 4] وقال الشاعر :
فَلَمَّـا لَبِسْـنَ اللَّيْـلَ , أو حِينَ نَصَّبتْ
لـه مِـن خَـذا آذانِهـا وَهْـوَ جَـانِحُ
وقال قتادة في قوله: ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ) أي: سكنًا.
وقوله: ( وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ) أي: جعلناه مشرقا مُنيرًا مضيئًا، ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات، وغير ذلك.
وقوله: ( وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ) يعني: السموات السبع، في اتساعها وارتفاعها وإحكامها وإتقانها، وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات؛ ولهذا قال: ( وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ) يعني: الشمس المنيرة على جميع العالم التي يتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلهم.
وقوله: ( وَأَنـزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا ) قال العوفي، عن ابن عباس: ( الْمُعْصِرَاتِ ) الريح.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد، حدثنا أبو داود الحَفَري عن سفيان، عن الأعمش، عن المِنْهَال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: ( وَأَنـزلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) قال: الرياح. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل، والكلبي، وزيد بن أسلم: وابنه عبد الرحمن: إنها الرياح. ومعنى هذا القول أنها تستدر المطر من السحاب.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) أي: من السحاب. وكذا قال عكرمة أيضا، وأبو العالية، والضحاك، والحسن، والربيع بن أنس، والثوري. واختاره ابن جرير.
وقال الفراء: هي السحاب التي تَتَحَلَّب بالمطر ولم تُمطر بعدُ، كما يقال امرأة معصر، إذا دنا حيضها ولم تحض.
وعن الحسن، وقتادة: ( مِنَ الْمُعْصِرَاتِ ) يعني: السموات. وهذا قول غريب.
الأظهر أن المراد بالمعصرات: السحاب، كما قال [الله] تعالى:
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ
[الروم : 48] أي: من بينه.
وقوله: ( مَاءً ثَجَّاجًا ) قال مجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس: ( ثَجَّاجًا ) منصبا. وقال الثوري: متتابعًا. وقال ابن زيد: كثيرا.
< 8-304 >
قال ابن جرير: ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج، وإنما الثج: الصب المتتابع. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الحجّ العجّ والثجّ". يعني: صَبّ دماء البُدْن . هكذا قال . قلت: وفي حديث المستحاضة حين قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنعت لك الكُرسُفَ" -يعني: أن تحتشي بالقطن-: قالت : يا رسول الله، هو أكثر من ذلك، إنما أثج ثجًا. وهذا فيه دَلالة على استعمال الثَّج في الصبّ المتتابع الكثير، والله أعلم.
وقوله: ( لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ) أي: لنخرجَ بهذا الماء الكثير الطيب النافع المُبَارَك ( حَبًّا ) يدخر للأناسي والأنعام، ( وَنَبَاتًا ) أي: خضرًا يؤكل رطبا، ( وَجَنَّاتٍ ) أي: بساتين وحدائقَ من ثمرات متنوعة، وألوان مختلفة، وطعوم وروائح متفاوتة، وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعًا؛ ولهذا قال: ( وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ) قال ابن عباس، وغيره: ( أَلْفَافًا ) مجتمعة. وهذه كقوله تعالى:
وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ
الآية [الرعد :4] .