الترقيم وعلاماته في اللغة العربية
تمهيد
دلت المشاهدة وعززها الاختبار على أن السامع والقارئ يكونان على الدوام في
أشد الاحتياج إلى نبرات خاصة في الصوت أو رموز مرقومة في الكتابة ، يحصل
بها تسهيل الفهم والإدراك، عند سماع الكلام أو قراءة المكتوب.
ولقد شعرت الأمم التي سبقت في م يادين الحضارة بهذه الحاجة الماسة ، فتواضع
علماؤها على علامات مخصوصة لفصل الجمل وتقسيمها، حتى يستعين القارئ
بها –عند النظر – على تنويع الصوت بما يناسب كل مقام من مقامات الفصل
والوصل أو الابتداء ، إلى ما هنالك من المواضع الأخرى التي يجب فيها تمييز
القول بما ين اسبه من تعجب أو استفهام ، أو نحو ذلك من الأساليب التي تقتضيها
طبيعة المقال.
وأول من اهتدى لذلك رجل من علماء النحو ، من روم القسطنطينية ، اسمه
أرسطوفان، من أهل القرن الثاني قبل الميلاد . وكان شأنه في هذا السبيل شأن كل
من يتنبه لأمر من الأمور في مبدئه . ثم توفرت أمم الإفرنج من بعده على تحسين
هذا الا صطلاح وإتقانه إلى الغاية التي وصلوا إليها في عهدنا الحاضر، مما يكاد
يكون نهاية الكمال في هذا الباب.
فلقد أصبح الطفل، إذا قرأ في أحد الكتب الإفرنجية ، لا يتلعثم ولا يتردد في
التلاوة؛ بل يكون مما ث ً لا للشيخ العالم، سواء بس واء. وإنما يقاس الاختلاف بين
المبتدئ والمنتهي بدرجة المحصول من العلم الذي يب نى عليه مقدار الفهم . والفضل
في ذلك راجح إلى تلك العلامات التي تواضعوا عليه ا، لتسهيل القراءة على كل
إنسان توصل إلى بسيط المعرفة بأشكال الحروف وتركيبها، بعضها مع بعض،
وإلى طريقة النطق بالكلمات التي تتألف منها.
أما القارئ باللسان العربي فلا يزال مضط رًا، رغم أنفه ، إلى التعثر والتسكع على
الدوام، وإلى مراجعة نفسه بنفسه ، إن كان قد أو تي شي ئًا من العرفان . وعلى كل
حالٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ، نرى أنه مهما بلغت درجته من العلم ، لا يتسنى له في أكثر الأحيان أن
يتعرف مواقع فصل الجمل وتقسيم العبارات، أو الوقوف على المواضع التي يجب
السكوت عنده ا. فهو يصل في الغالب رأس الجملة اللاحقة بذيل الجملة السابقة ،
ونحو ذلك مما يشهد به الحس ويؤيده العيان.
فكانت النتيجة عندنا إخلال القارئين –ولو كانوا في طليعة المتعلمين – بتلاوة
عبارة، قد تكون سهلة في ذاته ا( 1)؛ بل كثي رًا ما تراهم عاجزين عن إعطاء الكلام
1) مثال ذلك:
حقه من النبرات التي يقتضيها كل مقام ؛ بل إننا لو اختبرنا ط ف ً لا عربيً ا لوجدناه
يحسن القراءة بلغة أجنبية ، أكثر مما يتوصل إليه ، مع الكد والجد، فيما يحاوله من
قراءة العبارات المكتوبة بلغة أمه وأبيه . ولقد طالما فكر الغيورون على اللغة
العربية، العاملون على تسهيل تناولها، في تلافي هذا الخلل الفاضح، وتدارك هذا
النقض الواضح، خصو صًا بعد امتزاج الأمم بعضها ببعض، وشيوع اللغات
الأجنبية في بلادنا؛ فرأوا أن الوقت قد حان لإدخال نظام جديد في كتابتنا الحالية،
-مطبوعة أو مخطوطة -تسهي ً لا لتناول العلوم، وض ًنا بالوقت الثمين أن يضيع
هدرًا بين تردد النظر وبين اشتغال الذهن في تفهم عبارات كان من أيسر الأمور
إدراك معانيها، لو كانت تقاسيمها وأجزاؤ ها مفصولة أو موصولة بعلامات تبين
أغراضها وتوضح مراميها.
فشرعوا يستعملون في مطبوعاتهم ومخطوطاتهم الرموز الخاصة بالإفرنج، ولكن
على غير أصول مقررة أو قواعد ثابتة ، فنشأ عن ذلك كثير من الخلط والارتباك ؛
لأنهم لم يتمشوا في هذا العمل على وتيرة واحدة معروفة عند جم يع القارئ ين على
السواء. ولذلك لم يأت مسعاهم بالفائدة التامة التي توخوه ا، وإن كان لهم فضل
أو ً لا – البيت المشهور الذي يحفظه على وجهه الصحيح كل من له أدنى حظ من علوم البلاغة وهو:
ولا يقيم على ضيم يراد به
∗ إلا الأذلان عير الحي والوتد
فقد رواه صاحب الجوانب العلامة أحمد فارس (وهو هو) ع ل ى الوجه الآتي:
ولا يقيم على ضرير أدبه
∗ إلا الأذلان عير الحي والوتد
ثانيًا – عند ما تكلم صاحب المغ ني على لفظة ((أجل)) بمعن ى نعم، قال : ((إنها تصديق للخبر ووعد للطلب ))،
ثم قال : ((وقيد المالقي الخبر الخ )) . فجاء الإمام ملا ع لي القاري في شرحه للمغني وضبط العبارة الثانية
هكذا: ((وقيدًا لما لقي الخبر)).
ثالًثا – للفرزدق بيت معروف وهو:
وكل رفيقي كل رحل وإن هما
∗ تعاطى القن ا قوما هما أخوان
فجاء الإمام ابن هشام وروى الشطرة الثانية في المغني بهذه الكيفية وهي:
تعاطى القنا قومًا هما أخوان
فلو لاحظنا علامات الترقيم في هذا البيت لما وقع هذا الخط أ الجسيم أقل صبيان المكاتب فض ً لا عن مثل الإمام
الذي هو حجة النحاة.
وها نحن نكتبه على الطريقة المذكورة ليظهر الفرق.
وكل رفيقي كل رحل، وإن هما
∗ تعاطى القنا قوماه ما، أخوان
ومعناه: أن كل رجلين يترافقان في أية دار كانت فهما أخوا ن، ولو أن قوميهما يتعاطيان القنا ويشتجران في
الخصام.
والشواهد على هذا الباب أكثر من أن تحصى. وفي الذي اقتصرنا على ذكره كفاية.