مدخل
الظلم خصلة ذميمة، وعادة قبيحة، ذمها الله عز وجل في كتابه الكريم وعلى لسان سيد المرسلين، وقد حرم الله عز وجل الظلم على نفسه فقال تعالى: }إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا{ [النساء: 40] وقال في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا" [رواه مسلم].
وقد حرم عز وجل الظلم بين العباد تحريما شديدا، وتوعد الظالمين بعذاب أليم قال تعالى: }مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ{ [غافر: 18] وقال جلا وعلا: }وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ{ [البقرة: 270].
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الوقوع في آفة الظلم فقال صلى الله عليه وسلم "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" [رواه مسلم]. والتعبير بالظلمات يدل على التكاثر عند الجزاء والحساب.
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الحقوق باقية إذا لم تستوف إلى يوم القيامة حيث موقف القصاص وإعطاء كل ذي حق حقه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" [رواه مسلم].
قال ابن الجوزي: الظلم يشتمل على معصيتين؛ أخذ مال الغير بغير حق؛ ومبارزة الرب بالمخالفة، والمعصية فيه أشد من غيرها، لأنه لا يقع غالبا إلا بالضعيف الذي لا يقدر على الانتصار، وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر.
والظلم داع إلى نزول العذاب قال تعالى: }فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ{ [الزخرف: 65].
ومن شؤم معصية الظلم أن أمده قريب وإن طال، وحسابه عسير وإن تأخر إلى حين.
عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ }وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ{ [هود 102]".
ولعظم أمر الحقوق، واستنجاد المظلوم بملك الملوك ومغيث المظلومين، فإن الله عز وجل يسمعها ويجيب دعوة المظلوم قال صلى الله عليه وسلم: "اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب" [رواه البخاري].
والظلم: هو وضع الشيء في غير موضعه، وأصله الجور، ومجاوزة الحد، وأشكاله متعددة، وصنوفه متنوعة؛ منها: ظلم الإنسان نفسه، وظلم الإنسان إنسانا آخر، سواء كان مؤمنا أم كافرا ويمتد الظلم ليصل إلى الحيوانات وغيرها.
هؤلاء هم خصماؤك
أخي المسلم:
وأنت تسير في هذه الدنيا وتسعد بالصحة والعافية ونعمة الأمن ورغد العيش، تأمل في حال أنت تؤمن به وسوف تلاقيه، ألا وهو البعث والجزاء، والحساب والعقاب.
والأمر كذلك، فإن ذلك اليوم يوم عظيم، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
وفي هذا اليوم يبلغ العرق من العباد مبلغا عظيما على حسب أعمالهم قال صلى الله عليه وسلم "تدني الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل ، فيكون الناس على قدر أعمالهم، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما" (وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه) [رواه مسلم].
اليوم أنت في صحة وعافية، والماء بجوارك ولا يزال عرق الحياة فيك ينبض تصور غدا موقف الحساب.
فمن يتقدم إليك ليحاجك عند الله عز وجل؟
من هم خصماؤك غدا؟ وأين أهل الحقوق في تلك الوقفة الحاسمة، سأقدم لك بعضا منهم على عجل وبدون تفاصيل أو ذكر لكثرة الحقوق أو قلتها؛ إنما هو استشراف سريع لأمر ستراه غدا، وإن غدا لناظره لقريب.
قال ابن تيمية رحمه الله: الحسنات كلها عدل، والسيئات كلها ظلم، وأن الله إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل ليقوم الناس بالقسط، والقسط والظلم نوعان: نوع في حق الله تعالى كالتوحيد، فإنه رأس العدل، والشرك رأس الظلم، ونوع في حق العباد، إما مع حق الله كقتل النفس أو مفردا كالدين الذي ثبت برضا صاحبه، ثم إن الظلم في حق العباد نوعان: وهو ظلم كمعاملة الربا والميسر [مجموع الفتاوى (20/ 79)].
أخي المسلم: إن موقف القيامة موقف عصيب ومشهد رهيب.
قال الحسن: إن الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول: بيني وبينك الله، فيقولك والله ما أعرفك.
فيقولك أنت أخذت طينة من حائطي، وآخر يقول: أنت أخذت خيطا من ثوبي.
وسوف يكون لأصحاب التفريط يوم ندامة وساعة تأوه }اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا{ [الإسراء: 14] لكن بعد فوات الأوان، وحلول العذاب.
قال بلال بن مسعود: ربَّ مسرور مغبون، يأكل ويشرب ويضحك، وقد حق في كتاب الله عز وجل أنه من وقود النار.
وقال الحسن رضي الله عنه: ما ظنك بيوم قاموا فيه على أقدامهم مقدار خمسين ألف سنة، لا يأكلون فيها أكلة، ولا يشربون فيها شربة، حتى إذا انقطعت أعناقهم عطشا، واحترقت أجوافهم جوعًا، انصرف يقصد العصاة والمجرمون إلى النار فسقوا من عين آنية قد آن حرها واشتد لفحها.
ولهذا الخوف ومن هذه الساعة العظيمة يراجع المسلم حسابه، ويدقق في ذمته، ويسارع إلى إعادة الحقوق أو استحلال أصحابها، فإن لم تكن في الدنيا فهي في الآخرة.
ورحم الله الحسن حيث يقول: المؤمن قوام على نفسه، يحاسبها لله، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما يشق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.
ورحم الله مالك بن دينار حيث قال: رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان قائدا لها.