عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 30-05-2009, 09:30 PM
الصورة الرمزية وليد نوح
وليد نوح وليد نوح غير متصل
مشرف ملتقى اللغة العربية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2007
مكان الإقامة: الرياض
الجنس :
المشاركات: 1,482
الدولة : Syria
افتراضي رد: المقالات المشاركة في مسابقة الكتابة الذاتية ( الحلقة الثالثة )

[CENTER]




الاستعداد للرحيل


كعادته قلبي... يسرف في النبض كلما اقتربت من منزلي الصغير.... يا له من ولهان، لا تعذلوه، فقد تعود أن يجد قلباً آخر ينتظره خلف الباب الموصد، يؤنسه، و يسري عنه... ينفض عنه غبار الجري وراء أسباب الدنيا، بابتسامة رائعة يرسمها ببراعة على وجه صاحبته، فيتذكر القلبان أن للدنيا وجه آخر.
كل شيء في مكانه، مقعدي.. أريكتي... و بخار يتعالى فوق فنجان قهوتي، معلناً بداية ألطف ساعات اليوم كلها.
نظرتُ في ساعتي، و استأذنت زوجتي أن تسمح لي بموجز من الأخبار، فأذِنت على مضض كما هي كل النساء....و ما إن انتهى الموجز حتى تنفستِ الصعداء و قالت: غيّر هذه القناة المقيتة إلى أي قناة..ففعلت، فإذا بسافرة تغني العشقَ و الهيام....أسرعتُ في تغييرها، لكن زوجتي قالت: رويدك دعني أسمع هذه الأغنية فهي تذكرني كذا و كذا،

قلت: يا صغيرتي... ألا تحبين أن أقص عليك قصة جميلة أسلي سهرك بها؟
قالت بخجل : أبَعْدَ الأغنية؟
قلت: بل دونها.
قالت: هواي في هواك، هات ما عندك.
انطلقتْ ذاكرتي تطوي المسافات و السنين الطويلة لتعود بي إلى ذاك المسجد الكبير بدمشق، حيث كنا نجلس إلى شيخ جليل ينير طريقنا بما فتح الله عليه، ليخرجنا من الظلمات إلى النور بإذن الله.
بدأتُ من جديد أسمع القصة التي رواها لنا الشيخ ذات يوم، أسمعها من قلبي الذي وعاها فلا ينساها، و شرعت أحدثها بما أسمع.....
خرج رجل يدعى زيدٌ في سفر، و كان قد أعد لعناء السفر عدته، و كان يسير ليلاً يهتدي بالنجوم، و يستظل نهاراً يتقي الرمضاء، ولكن شاء الله أن تتلبد السماء بالغيوم، فضل الطريق، و سار طويلاً كيفما اتفق، حتى كاد يهلك، و لكن.... يا بشرى كأنه رأى جمعاً من الناس في الأفق، و كأن رؤيته لهم قد بعثت فيه العزم من جديد فأغذ َّالسيرَ حتى وصل إليهم.... و لكنه رأى عجباً... فمنهم المسرور المبتهج و منهم الحزين البائس، وكلهم يتطلعون إلى شرفة يطل منها بضعة رجال يبدو للناظر أنهم وجهاء البلدة أو قادتها، و بيد كبيرهم طائر ضخم يمسكه أن يقع!
سأل رجلاً كان بجواره: ما الذي يحدث؟ ولم الناس في حيص بيص؟
أجاب الرجل: اليوم يتم تعيين ملكٍ للبلاد، فدستورنا يقضي بأن يجتمع أهل البلدة كلهم في هذا الصعيد، و يرمي كبير المستشارين هذا الطائر الثقيل من عل، و من يقع عليه الطائر يتم تتويجه ملكاً!
زيد: ولم الناس بين مستبشر وخائف؟
الرجل: يبدو أنك غريب فعلاً، المستبشر يطمع أن يقع الطائر عليه فيتوج ملكاً، و الخائف ...
قاطعه زيد: و الخائف مم يخاف؟!
الرجل: الخائف ينظر إلى ما بعد المُلك، فالدستور يقضي بأن يبقى الملك آمراً ناهياً متصرفاً بكل شيء لأربع سنوات فقط، ثم يأخذه الجنود فيرموا به في مهلكة من مهالك الغابة الموحشة التي تراها على طرف البلدة، حيث تنهشه السباع الجائعة.
زيد: بئس المُلك الذي ينتهي بين أنياب الوحوش.
الرجل: لا خيار لأحد، فمن وقع الطائر عليه لا يستطيع الرفض.
و لم يكمل زيدٌ تعبيره عن دهشته من هذا النظام حتى أحس بشيء يثقل كاهله.... و صراخ يتعالى من حوله.... يالله... قد ترك الطائر كل هذه الجموع ليقع على منكبي زيد... و تحلق الناس حوله بين مباركٍ و معزٍ ، و هو يصيح بهم: يا قوم أنا غريب، لست من بلدتكم !! ولكن ما من مجيب.


قاطعتني زوجتي قائلة: مسكين زيدٌ هذا، لم تكتمل فرحته، فقد نجا من الموت جوعًا و عطشًا، ليموت نهشًا بين أنياب الأسود... يالتعاسته.
قلت: لكنه سيتوج ملكًا يأمر و ينهى، و يتمتع بكل ما تشتهي نفسه !
قالت: ثم إلى بطون الوحوش! أي نعيم هذا الذي حظي به! سينسى كل لذة مع أول خطوة يخطوها تجاه مصرعه ومصرع سابقيه في تلك الغابة الموحشة.
قلت مداعبًا: إذن نكمل القصة غدًا؟
قالت بلهفة: لن تذوق غمضًا حتى تكمل لي القصة، أبعدَ أن شوقتني؟
عدت أسرد القصة و كأني أسمعها من الشيخ الآن:
سيق زيدٌ إلى قصر المُلك، و استقبله كبير المستشارين مرحبًا بالملك الجديد، و هداه إلى عرشه ليجلسه عليه بعد أن وضع التاج الذهبي فوق رأسه، و كاد يسكر زيدٌ من هذا الموقف الذي لم يكن ليحلم بأن يكون فيه، و كاد يفرح لولا.....لولا صورة السباع التي قفزت إلى ذهنه تنغص عليه أي متعة.
جلس زيد على العرش و أطرق يفكر.... ما هذه المصيبة؟! و هل إلى نجاةٍ من سبيل ؟؟
بادره أحد الوزراء فقال: ألا نأتيك بالقينات و المعازف و الطعام و الشراب تمتع نفسك يا جلالة الملك؟
قال زيد بغضب: إليك عني، لا أبالك، انصرف أنت ومن معك حالاً.
و عاد زيد يتأمل في حاله و مآله، و يسأل الله أن يهديه إلى مخرج من أزمته، و فجأة صاح: إلي بكبير بالمستشارين، فجاءه المستشار الأكبر على عجل قائلاً: لبيك يا جلالة الملك.
قال زيد: ما الذي يقوله دستوركم عن نهايتي؟
المستشار: هي عبارة واحدة، إذا أتم الملك أربع سنوات على العرش، تسوقه الجنود إلى وسط الغابة و ترميه على التل الصغير الذي تعيش السباع حوله.
زيد: أو لو قتلتُ تلك السباع؟!
ضحك المستشار طويلاً... ثم أحس بالخجل من ضحكه فقال: أعذرني يا جلالة الملك، و لكن الجنود ذوي البأس المدججين بالسلاح، لا يستطيعون النجاة بأنفسهم إلا بجهد.
زيد: أو لو فعلتُ؟!
المستشار: يكون يوم سعدك فتنجو، و لكنها قرون مضت، و ما نجا من هذا المصير أحد.
تنهد زيد، و أطلق أنفاسًا كان حبسها الخوف، ثم ابتسم ابتسامة الواثق و نادى: يا وزير.
جاء الوزير يُهرع إليه: أمرُ مولاي.
زيد: ألستُ مليككم؟
الوزير: بلى.
زيد: ألستُ الآمر الناهي فيكم، و كل شيء تحت تصرفي.
الوزير: بلى.
زيد: إذن فأتني غدًا صباحًا، بأشد الجنود بأساً، و أمهر ذوي الصنعة، بعدتهم و عتادهم.
الوزير: أهي الحرب يا مولاي؟ نحن في غنى عن ويلاتها.
زيد بأعلى صوته: نفذ ما أمرتك به، لا أمَّ لك.
فزع الوزير من صراخ زيد، و لم يتوقع أن يملأ زيدٌ مقام المُلك بهذا الشكل و هذه السرعة، فكل من رآهم ممن سبقوا زيد كانوا لا يهتمون إلا بمتعهم العابرة.. فما بال الملك الجديد يجيش الجيوش من يومه الأول!!
لم يجد الوزير بدًا من الإسراع في تنفيذ أمر الملك، فأعلن النفير العام في الجيش، و أرسل المنادين يطلبون أمهر الحدادين و النجارين و البنائين للمثول بين يدي الملك صباح اليوم التالي، و كان للملك ما أراد، و هاهم خيرة الجنود في ساحة القصر، و خيرة أهل الصنعة من خلفهم، و كلهم قد حبس الأنفاس خوفـًا من المجهول...
خرج زيد على قومه من شرفة القصر مستبشرًا، و حياهم و لوح بيديه لهم، فانفرجت أساريرهم و علموا أن ما في الأمر من سوء، فبادلوه التحية، حتى إذا سكنوا جميعًا قال:
يا قوم... قد علمتم ما كان من أمر ملوككم السابقين مع تلك الغابة الموحشة، و قد علمتم كم تتسبب بالأذى لكل من يغفل عنها ويقع فيها، و لذلك رأيت أن أبسط الأمن هناك، و لنغتنم فراغنا قبل شَغلنا، و لنبدأ من الآن، فيذهب خيرة الجند تجاه الغابة ينفرون الوحوش بأسلحتهم، و يقتلون منها ما يقف في وجههم، و يكون أهل الصنعة من ورائهم، يرصفون الطريق و يسورونه عن يمين و شمال ......
و استمر زيد يوزع المهمات على الجنود و الصناع، و يرسم لهم خطة العمل أكثر من ساعة، ثم أمرهم أن يجتمعوا كل يوم بين يديه يعرضون عليه ما فعلوا، و يسمعون جديد أوامره، و استمر الأمر على هذا الحال عامًا كاملاً.
و كعادتهم اجتمعوا في ساحة القصر، و أطل الملك عليهم ليسمع من قائد المجموعة الذي أنشأ يقول:
مولاي الملك، أكملنا بناء القصر وسط الغابة بعد أن قطعنا جميع الأشجار المخيفة المتشابكة، و رفعنا سورًا عاليًا على جانبي الطريق بين مقامكم هنا و باب قصركم الجديد، لا تستطيع أن تظهَرَه الوحوش، و لا تستطيع نقبه هوام الأرض، و رفعنا أسوار القصر، ورصعنا بواطنه بالجواهر، وملأنا حدائقه من كل ذي ثمر و ريح طيب...
قاطع زيدٌ القائد قائلاً: حسبك حسبك، ما عدت أطيق الانتظار... يا كبير المستشارين..أيسمح لي الدستور بالانتقال إلى الغابة اليوم؟
و انبرت زوجتي لدهشتها تقول: سبحان الله، بات يتطلع إلى انتهاء ملكه و انتقاله إلى الغابة، و هذا هو الشيء نفسه الذي أرعب الكثيرين قبله و قضى عليهم، ما أذكاه من رجل!
قلت: أفلا نكون بمثل حصافته و بعد نظره؟
قالت: و متى كنا في مثل حاله، حتى نفعل فعله؟ و مالك تبَسَّم هكذا؟!
أطرقتُ وقلت: بل نحن في أشد مما كان فيه زيد!
هوني عليك... لن أدع حيرتك تطول...سأنبئك بتأويل قصتي:
أما زيدٌ و سابقيه فهم كل واحد من البشر،
و أما الطائر فهو الخلق و الإيجاد، لم نُخير به، بل وُجدنا بأمر الله.
قتلَ الفضول زوجتي فلم تصبر أن قالت: و الغابة... و الوحوش...
قلت: أناتـَكِ يا صغيرتي... أما الغابة فهي القبر و العاقبة، فمن الناس من يملأ دنياه بالطاعات و الجد في طلب مرضاة الله، فذاك هو الذي يجعل من قبره قصرًا فارهًا، و يرجو لقاء الله، و من الناس من يتزود من الشهوات و المعاصي، ويغفل عن الموتِ فيذر قبره حفرةً من حفر النار، و ذاك يكره لقاءَ الله و يكره الله لقاءَه.
أطرقت زوجتي لحظة، ثم نظرت إليّ، فنقلتُ بصري إلى ذلك الرف الذي يحمل طوق النجاة للبشرية كلها، ثم رددته إليها، فهزت رأسها، وقامت من فورها لتعود حاملة القرآن العظيم، و قالت: لعل القرآن خير ما ندفع به وحوش غابتنا، و أفضل ما نزين به قصرنا!
قلت: الحمد لله الذي هدانا لهذا.
قالت: فمن أين نبدأ؟
قلت: فلنتدبر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ...} (18) سورة الحشر




وليد نوح

السبت في 30-5-2009

كتابة ذاتية حصرية لملتقيات الشفاء الإسلامي

التعديل الأخير تم بواسطة فاديا ; 13-05-2010 الساعة 08:21 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.54 كيلو بايت... تم توفير 0.64 كيلو بايت...بمعدل (2.37%)]