ظل الرحمن :
ظل الرحمن جل وعلا ليس كظل الدنيا ، فهو سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فالله عز وجل يوم القيامة ينشىء لأناس معينين ظلاً يستظلون به من شدة حر الشمس ، ووهج ضوئها ولأوائها يوم القيامة ، وهذا الظل ليس ظل الله عز وجل ، لأن من قال ذلك ، فلازم كلامه أن الشمس فوق الله تعالى ، والله تعالى فوق كل شيء ، بائن عن خلقه ، كما قال سبحانه : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الحديد3 ] .
هو الأول الذي ليس قبله شيء , والآخر الذي ليس بعده شيء , والظاهر الذي ليس فوقه شيء , والباطن الذي ليس دونه شيء , ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء , وهو بكل شيء عليم .
فالظل الذي يكون يوم القيامة ، لمن وعدهم الله به ، يكون ظلاً يُنشئه الله عز وجل لبعض خلقه ، بسبب أعمال صالحة عملوها ، وسيأتي بيان هذه الأعمال بإذن الله تعالى ، وهو مقصود حديثنا في هذه الرسالة المباركة .
إن ظل يوم القيامة وعوازله الذي أخبر به رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ، ليس من البرولايت ولا من الفلين ولا من غيرها ؛ وإنما هي أعمال صالحة يجب أن نتحلى بها ، ونتخلق بها ، حتى نحوز الظل ، ونكون أهلاً له يوم القيامة ، ونستظل بسببها تحت ظل الرحمن في ذلك اليوم العصيب ؛ ومن استظل تحت ذلك الظل ، سيمر عليه يوم القيامة كمقدر الانتظار ما بين الظهر والعصر ، فقد أخرج الحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً قال : " يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر " [ وصححه الألباني رحمه الله في الصحيحة 5/584 ، وفي صحيح الجامع برقم : 8193 ] .
وقال رحمه الله : " وهذا يدل على خفة يوم القيامة على المؤمنين " .
الظل من الشمس :
ونأتي الآن إلى لُبِّ الرسالة ومقصودها ، وهي الأعمال التي يستظل بها أصحابها يوم القيامة من شدة الشمس وحرها ولهيبها ، فهناك مظلات يستظل بها أصحابها يوم القيامة ينشئها الله عز وجل لعدد من عباده بسبب أعمالهم في هذه الحياة الدنيا ، وإليكم هذه المظلات أو الظلال التي يستظل بها العبد من شمس يوم القيامة ومنها :
الظل الأول / انظار المعسر :
يقول الله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة280 ] .
فعلى المسلم أن ينظر أخاه إذا تأخر عن السداد ، وكان له في ذلك العذر ، حتى يسدد دينه أو يخفف الدين عنه ؛ ويأخذ ما تيسر ، ويعفو عن الباقي ، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً ، أَوْ وَضَعَ لَهُ _ عنه _ أَظَلَّهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ " [ رواه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ ، ورواه أحمد ] .
وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول من يستظل في ظل الله يوم القيامة ، لرجل أنظر معسراً أو تصدق عنه " [ رواه الطبراني بإسناد حسن ] ، وعَنْ أَبِى قَتَادَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " مَنْ نَفَّسَ عَنْ غَرِيمِهِ ، أَوْ مَحَا عَنْهُ ، كَانَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " [ رواه مسلم وأحمد والدارمي وغيرهم ] .
وقد وجد من الناس من جهل هذه النصوص الشرعية ، أو ربما عرفها وتعداها عناداً وكبراً ، فشكا غريمه للمحاكم ، وألقاه في غياهب السجون ، ومع ذلك فلن يحصل له من السداد ولو درهماً واحداً ، فما الفائدة المرجوة من ذلك ؟
لو ترك ذلك المسكين لأهله ولأولاده ، يرعاهم ويهتم بهم ، ويسعى لسد جوعهم وعوزهم ، ويكف أيديهم عن السؤال ، لكان له من الأجر ما لا يُحصيه إلا الله ، ولكنها الغفلة والبعد عن دين الله عز وجل ، وفقدان الرحمة والرأفة والعطف .
تذكر يا صاحب الدين ، يا من داينت الناس ، وقضيت همومهم ، ونفست كربهم ، أنك على خير عظيم من الله ، فلا تفقد هذا الخير والنعيم بالمنة أو سجن المعسرين ، الذين لا يملكون ما يطعمون به أهليهم وذرياتهم ، فلا تزج بهم إلى طرق الحرام ، أو حرمانهم من أسرهم وأهليهم ، بل احتسب أجر ذلك عند الله عز وجل ، القائل سبحانه : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } [ البقرة272 ] .
ويقول عز وجل : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [ سبأ39 ] .
وليكن لك في هذا الرجل مثلاً حسناً تقتدي به :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ _ رضي الله عنه _ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ : إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً فَتَجَاوَزْ عَنْهُ ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا ، فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ " [ رواه البخاري ومسلم ] .
فتجاوز عن المعسرين لعل الله أن يتجاوز عنك ويعفو عن ذنوبك يوم أن تكون أحوج ما تكون إلى التجاوز ، يوم الحساب والعتاب ، يوم القيامة .
وروى مسلم وغيره ، وروى الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح قال صلى الله عليه وسلم : " من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة ، وأن يظله تحت عرشه ، فلينظر معسراً " .
الظل الثاني / إعانة المجاهد في سبيل الله :
عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ أَعَانَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ غَارِماً فِي عُسْرَتِهِ ، أَوْ مُكَاتَباً فِي رَقَبَتِهِ ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ " [ رواه أحمد والحاكم ، وقال الألباني رحمه الله : ضعيف ، انظر حديث رقم : 5447 في ضعيف الجامع ] .
عن زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ جَهَّزَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ غَازِياً فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا " [ رواه البخاري ومسلم ] .
فانظر إلى عظيم رحمة الله وفضله العميم ، من خلف مجاهداً في سبيل الله في أهله وماله وولده ، ورعاهم حق الرعاية ، واهتم بشؤونهم ، وقام بما يجب لهم ، حصل له من الأجر كما يحصل للمجاهد في سبيل الله تعالى .
وإننا اليوم وجدنا أناساً لا يخافون الله عز وجل ، يخونون المجاهد في أهله وولده وماله ، فهؤلاء جاء في حقهم الوعيد الشديد يوم القيامة ، من الناس من يظن أنه لن يعود إلى ربه كما خلقه أول مرة ، وربما ظن أنه يعيش ثم يموت ولا حساب وعتاب ولا نعيم ولا عذاب ، فهذا جاهل بل كافر والعياذ بالله ، لأنه لم يؤمن بالجزاء والحساب ، وأنه سوف يُبعث يوم القيامة لذلك ، فتراه يعصي ويذنب ويغفل عن الوقوف ين يدي جبار السموات والأرض ، يرضي شهوته ، ويرضي شيطانه ، ويعصي الرحمن جل جلاله ، ويخون أخوه المجاهد في سبيل الله عز وجل ، فهذا جاء فيه :
عَنِ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " فَضْلُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ فِي الْحُرْمَةِ ، كَفَضْلِ أُمَّهَاتِهِمْ ، وَمَا مِنْ قَاعِدٍ يَخْلُفُ مُجَاهِداً فِي أَهْلِهِ ، فَيُخَبِّبُ فِي أَهْلِهِ ، إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، قِيلَ لَهُ : إِنَّ هَذَا خَانَكَ فِي أَهْلِكَ ، فَخُذْ مِنْ عَمَلِهِ مَا شِئْتَ قَالَ : فَمَا ظَنُّكُمْ ؟ " [ رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني ] .
قوله فما ظنكم : أي هل سيترك من حسناته شيئاً ؟
وقد وجد من الناس اليوم من يخون المجاهدين في أهليهم ، فبدل أن يعولهم ويقوم على شؤونهم ، ويقضي لهم حوائجهم وطلباتهم ، حتى يعود وليهم ، تراه على النقيض من ذلك ، يعاكسهم ، ويراودهم عن أنفسهم ، يحاول فعل كل قبيح بهم ، فهذا على خطر عظيم ، وهذا داخل في هذا الحديث ، بل من الناس من يفعل الفاحشة بأهل المجاهد ، ذاك يجاهد في سبيل الله ، وهذا يجاهد في سبيل الشيطان ، وشتان ما بين الفريقين .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِياً أَوْ يَخْلُفْ غَازِياً فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ ، أَصَابَهُ اللَّهُ بِقَارِعَةٍ " [ رواه أبو داود ، وحسنه الألباني 3/10 ، وقال النووي في رياض الصالحين إسناده صحيح 470 ] .
وهذا وعيد آخر لمن خان المجاهد في سبيل الله في أهله ، بأنه متوعد بالمصيبة تصيبه ، بسبب جرمه وخيانته .
ذاك يناظل ويدافع عن حرمات المسلمين ، وعن ذلك الخائن وأهله وولده وماله ، ويدافع عن دينه ، ويقاتل لتكون كلمة الله هي العليا .
والآخر يسعى بالفساد والإجرام في الأرض ، وفي بيت المجاهد في سبيل الله ، قال تعالى : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [ المائدة64 ] .
الظل الثالث / الحب في الله عزَّ وجلَّ :
هذه الخصلة من أعظم الخصال التي فقدها الناس اليوم ، فقلما تجد اثنين أو أكثر يحب بعضهم بعضاً محبة لله وفي الله ، خالصة من شوائب الأنانية أو المحسوبية ، أو القبلية ، أو المصلحة .
مع أن الأدلة الشرعية تحث على ذلك ، قال تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الحجرات10 ] .
وقال تعالى : { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [ الزخرف67 ] .
الأصدقاء على معاصي الله في الدنيا يتبرأ بعضهم من بعض يوم القيامة , لكن الذين تصادقوا على تقوى الله , والحب في الله ، فإن صداقتهم دائمة في الدنيا والآخرة .
وانظر إلى هذا التشبيه العظيم الذي شبه به النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين ، لأنهم أخوة ، فأخوة الدين أعظم وأقوى من أخوة النسب ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :" مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ، مَثَلُ الْجَسَدِ ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى " [ رواه مسلم ] .
معانٍ سامية ، وأخلاق عالية ، يجب على المسلم أن يتصف بها ، فيتألم لألم أخيه المسلم في أي بقعة من بقاع الأرض ، ويحزن لحزنه ، ويفرح لفرحه ، هذا في حق كل مسلم فما بالك بأخيك من أمك وأبيك ، وجارك ، وقريبك ، ورحمك ، وصديقك ، كل هؤلاء لهم عليك حق الأخوة والمحبة في الله عز وجل .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلاَ تَحَسَّسُوا ، وَلاَ تَجَسَّسُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَاناً " [ رواه البخاري ومسلم ] .
فلماذا لا نمتثل هذه الوصية من نبي الهدى والرحمة ، ونكون كما قال أخوة في الله ، لا نتباغض ، ولا نتحاسد ، ولا نتهاجر ، ولا نتدابر ، بل نكون عباد الله إخواناً ، لا شيء يمنعنا من امتثال هذه الوصية العظيمة ، إلا فساد القلوب وأمراضها ، والركون إلى الدنيا ، وحب الذات والمناصب والكراسي ، فلا نرى للإيثار اليوم مكاناً ، بل لسان الحال يقول : نفسي ، نفسي .
فمن أراد أن يستظل في ظل الله يوم القيامة لينجو من عذاب خمسين ألف سنة ، فليحب إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، وليكن حبه نابعاً من بذرة الخير التي أوجدها الله فيه ، لا يرجو رفعة بهذا الحب في الدنيا ، أو نعمة تحصل له من أجلها ، أو أي مطمع من مطامع الدنيا ، بل ليكن الحب لله وفي الله .
وتظهر عظيمة الإسلام في الدعوة إلى الأخوة في هذا الدين ، في حثه على الأخوة بين العبد وسيده ، والرجل ومن تحت يده ممن يعملون لديه ، فهؤلاء الخدم والسائقين وغيرهم من العمال ، هم إخوان لنا في الله _ وأقصد بذلك المسلمين _ أما غير المسلم فليس بأخ لنا ، لكن علينا أن نعامله معاملة حسنة ، لعله يسلم ، والدين المعاملة ، وقد جاء الدليل على ذلك في كثير من الأحاديث ومنها :
عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ : مَرَرْنَا بِأَبِي ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ ، وَعَلَى غُلاَمِهِ مِثْلُهُ ، فَقُلْنَا : يَا أَبَا ذَرٍّ ! لَوْ جَمَعْتَ بَيْنَهُمَا كَانَتْ حُلَّةً ؟ فَقَالَ : إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ إِخْوَانِي كَلاَمٌ ، وَكَانَتْ أَمُّهُ أَعْجَمِيَّةً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فَشَكَانِي إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَقِيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ " ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَنْ سَبَّ الرِّجَالَ سَبُّوا أَبَاهُ وَأُمُّهُ ، قَالَ : " يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ " [ رواه البخاري ومسلم واللفظ له ] .
هكذا فلتكن الأخوة في الله ، لكن هل عمل الناس اليوم بمقتضى هذا الحديث ، أم أنهم كلفوا الخدم والعمال ما لا طاقة لهم به من الأعمال ؟
إن من الناس من يرى أن الخدم والعمال والأجراء والسائقين ، يراهم آلات لا تتوقف ليلاً أو نهاراً ، وهو ينام أكثر الليل والنهار ، فأين الأخوة في الله ؟
بل إننا نجد أكثر الناس اليوم على النقيض من ذلك .
قال صلى الله عليه وسلم : " أوثق عرى الإيمان ، الموالاة في الله ، والمعاداة في الله ، والحب في الله ، والبغض في الله " [ أورده الألباني رحمه الله في الصحيحة ، وقال : حسن بمجموع الطرق 2/698 ] .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى : " فالواجب أن يكون الحب في الله ولله ، وليس لأجل مصلحة دنيوية ؛ فإن الهوى داع إلى التحاب فِي غير الله ؛ لما فِي ذَلِكَ من طوع النفس أغراضها من الدنيا ، فالمتحابان فِي الله جاهدا أنفسهما فِي مخالفة الهوى ، حَتَّى صار تحابهما وتوادهما فِي الله من غير غرض دنيوي يشوبه ، وهذا عزيز جداً " .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : " أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخاً لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى ، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكاً ، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ : أُرِيدُ أَخاً لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ ، قَالَ : هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ : لاَ ، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ : فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ ، بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ " [ رواه مسلم ] .
فاجتمعا عَلَى التحاب فِي الله حَتَّى فرق بَيْنَهُمَا الموت فِي الدنيا ، أو غيبة أحدهما عَن الآخر ، ويحتمل أَنَّهُ أراد أنهما اجتمعا عَلَى التحاب فِي الله ، فإن تغير أحدهما عما كَانَ عَلِيهِ مِمَّا توجب محبته فِي الله فارقه الآخر بسبب ذَلِكَ ، فيدور تحاببهما عَلَى طاعة الله وجوداً وعدماً .
قَالَ بعض السلف : إذا كَانَ لَكَ أخ تحبه فِي الله ، فأحدث حدثاً فَلَمْ تبغضه فِي الله لَمْ تكن محبتك لله - أو هَذَا المعنى .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي ، الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي " [ رواه مسلم وأحمد ] .
وعن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رضي الله عنه قََالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَحْكِى عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : " حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ ، وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ ، وَالْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ، فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ " [ رواه أحمد والطبراني ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 4321 ] .
وعَنْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلاَلِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ " [ رواه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
وعلى كل مسلم أحب مسلماً لله وفي الله أن يخبره بذلك الحب ، وأنه لا يقصد به نعمة من الدنيا يرجوها ، وإنما حبه لأخيه ، أو حب المرأة لأختها ، كله في ذات الله عز وجل ، ليحصل لهم النور والظل يوم القيامة ، ويكونوا على منابر من نور على يمين الرحمن جل وعلا ، يغبطهم بذلك التعظيم والإكبار والإجلال ، الأنبياء والشهداء ، فيا لها من منزلة عظيمة ، ومكانة كبيرة ، يتسنمها العبد إذا أحب أخاه المسلم لله عز وجل .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ _ رضي الله عنه _ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : إِنِّي أُحِبُّ فُلاَناً ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " فَأَخْبَرْتَهُ ؟ " ، قَالَ : لاَ ، قَالَ : " فَأَخْبِرْهُ " ، قَالَ : فَلَقِيَهُ بَعْدُ فَقَالَ : وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ فِي اللَّهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ " [ رواه أبو داود وحسنه الألباني 4/333 ] .
وللحب في الله فضائل كثيرة منها ، أن الحب في الله دليل الإيمان وصحته ، ودليل ذلك :
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ " [ متفق عليه ] .
واليوم لا نرى حباً في الله بين الكثير من المسلمين ، بل نرى بغضاً وكرهاً وحسداً وحقداً وغيرةً وناراً تورث شحناء وإضاعة للحسنات ، وكسباً للسيئات ، ونزولاً في الدركات ، وبغضاً عند رب الأرض والسموات .
لاسيما من هيئتهم الصلاح ، ففر منهم فرارك من الأسد ، لأنك لا تجد اليوم منهم إلا ما يسوءك ، ولا تسمع منهم إلا ما ضرك ، فرق ومذاهب وتيارات ما سمعنا بها في السلف الأولين ، فنشكو أحوال الشباب _ المتمسك _ إلى الله تعالى ، حتى إنك ترى بعض الشباب يريد الهداية والعودة إلى دين الله تعالى ، فلا يجد إلا حرباً ضروساً ، وتكفيراً وتبديعاً وتفسيقاً ، فإلى الله الملتجى ، فكيف سيكون الحب في الله ونحن نعيش فترة عصيبة ، تعيشها الأمة ، أمة متفرقة ومتباعدة ، ومتناحرة ومتقاتلة ، كل فرقة تظن أنها على الحق ، وأنا أقول :
كل فرقة خرجت عن مذهب أهل السنة والجماعة فهي على ضلالة ، وعليها أن تعود إلى دين الله تعالى ، وتتمسك بسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم القائل : " أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ " [ رواه الترمذي وقَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ " ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَنْ هُمْ ؟ قَالَ : " الْجَمَاعَةُ " [ رواه ابن ماجة ] .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ، حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ، حَتَّى إِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً ، لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ ، وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً " ، قَالُوا : وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي " [ رواه الترمذي ] .
الظل الرابع / حفظ سورتي البقرة وآل عمران :
القرآن كله بركة ، وخبر وفضل وأجر عظيم ، بقراءته تحصل الرحمة والرأفة ، قال تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [ النحل89 ] .
وقد أحسن من قال : لا خير في يوم لا يُقرأ فيه شيء من كتاب الله عز وجل .
ومن عظيم بركة كتاب الله عز وجل ، أنه سبب لدخول الجنة ، فهو يُحاج عن صاحبه في القبر ، ويدافع عنه يوم القيامة ، ويظله في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة ، وبسببه يرقى أعلى درجات الجنة ، قال الله جل في علاه : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر29 ] .
إن الذين يقرؤون القرآن , ويعملون به , وداوموا على الصلاة في أوقاتها , وأنفقوا مما رزقناهم من أنواع النفقات الواجبة والمستحبة سرًّا وجهرًا , هؤلاء يرجون بذلك تجارة لن تكسد ولن تهلك , ألا وهي رضا ربهم , والفوز بجزيل ثوابه .
وبالقرآن يحفظ الإنسان نفسه من كل الشرور ، وجميع المخاطر بإذن الله تعالى ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء82 ] .
وهكذا كان دأب السلف الصالح ، يحفظون القرآن ويتعلمون ما فيه من أحكام ، حتى بلغوا الثريا ، وحققوا أعلى المنازل في الدنيا والآخرة ، وهابهم العدو وخافهم ، استحقوا ما نالوا بسبب كتاب الله عز وجل ، قال الله عز وجل : { إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [ الإسراء9 ] .
ولهذا أنزل القرآن العظيم لقراءته وتدبر آياته ، والاتعاظ بمواعظه ، والائتمار بأوامره ، والانتهاء عن نواهيه ، قال تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } [ ص29 ] .
لكن اليوم اختلف الوضع تماماً عما كان عليه سلف الأمة الأول ، إلا من رحم ربك وعصم ، وقليل ما هم .
انشغل أغلب الناس اليوم عن كتاب الله تعالى ، بقراءة قصص الحب والغزل ، والقصص الغرامية والتراجيدية ، ومشاهدة التافه من البرامج الساقطة من مسلسلات وأفلام ، تدعو إلى الانحطاط ، وقلة الحياء ، وسوء الأدب ، والانخلاع من قيود الشريعة ، حتى يصبح الإنسان وكأنه بهيمة ، برامج تقسي القلوب ، وتميت الضمائر ، وتقتل الغيرة ، وتائيد الفضيلة ، وتغتال الشرف ، في مسلسلات سافلة بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ .
بل إن الكثير من المسلمين رجالاً ونساءً ، صغاراً وكباراً ، يحفظون أسماء اللاعبين والفنانين والممثلين وغيرهم من الفساق ، ولا يحفظون أسماء العشرة المبشرين بالجنة ، بل لا يعرفون أسماء الخلفاء الراشدين الأربعة ، ولا يحفظون من كتاب الله حتى جزء عم ، ولا يحفظون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثاً أو جزءاً من حديث ، ولا يعرفون أبسط المسائل في الوضوء والصلاة وغيرها من أركان الإسلام الخمسة الواجب تعلمها .
يحفظون أرقام فانلات اللاعبين ، وأسماء مرتديها ، أما عن القرآن فلا تسأل ، وإن سألت أجابك قول الحبيب صلى الله عليه وسلم في سورة الفرقان في قوله تعالى : { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً } [ الفرقان30 ] .
وقال الرسول شاكيًا ما صنع قومه : يا ربِّ إن قومي تركوا هذا القرآن وهجروه، متمادين في إعراضهم عنه وتَرْكِ تدبُّره والعمل به وتبليغه ، وفي الآية تخويف عظيم لمن هجر القرآن فلم يعمل به .
ومن أعظم سور القرآن الكريم فضلاً وأجراً سورتي البقرة وآل عمران ، وقد ورد في فضلهما نصوص شرعية كثيرة إليك منها :
عَنْ أَبُي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ _ رضي الله عنه _ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لأَصْحَابِهِ ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا ، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ ، وَلاَ تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ " [ رواه مسلم ] .
الغيايتان : مثنى غياية ، وهي كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه ، كالسحابة والغاشية ونحوهما .
وفرقان : أي قطعتان .
قَالَ مُعَاوِيَةُ _ أحد رواة الحديث _ بَلَغَنِي أَنَّ الْبَطَلَةَ : السَّحَرَةُ .
وعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تعلموا البقرة وآل عمران ، فإنهما الزهراون ، يظلان صاحبهما يوم القيامة ، كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف " [ رواه الحاكم وقال : صحيح على شرط مسلم ، وقال الألباني رحمه الله : حديث حسن صحيح ] .
فاحفظ هاتين السورتين بدلاً من حفظ الأغاني التي لا تزيد القلب إلا نفاقاً وفسقاً وبعداً عن الله .
*************
نتابع ان شاء الله