وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وجزاك الله خيرا ، وبارك الله فيك .
1 – يجوز تكفير مُسلم بِعينه أوْ وَليّ أمْر أو عَالِم إن جاء بأمْر مُكفِّر ، إلاّ أن هذا يجب أن يُضبط بضوابط ، منها :
أن تُقام عليه الحجة ، وتنتفي عنه الموانع .
أن لا يكون ذلك الْحُكم بالتكفير لِكلّ أحد ، بل هو لأهل العِلْم ؛ لأن فتح هذا الباب يؤدِّي إلى مفاسد ، ولو كان ذلك في حقّ عامة الناس .
أن يُفرَّق بين إطلاق الْحُكم العام ،كقولهم : من فعل ذلك فهو كافر ، وبين تَنْزِيل الْحُكم على شخص مُعيّن . فالأول أهون من الثاني .
أن يتورّع العالِم ويتوقّف حتى لا يبوء بإثم تكفير مسلم ، حتى يكون التكفير على بيّـنَة .
وأما عامة الناس فالسلامة في حقِّهم أن لا يخوضوا في مثل هذه المسائل ، بل ويحمدوا الله أن الأمر لم يُجعل إليهم .
ولأن الإنسان يوم القيامة لن يُسأل : لِمَ لَمْ تُكفِّر فلانا . وإنما سوف يُسأل : لِمَ كفَّرْت فلانا ، إن لم يكن أهلاً للتكفير .
فالسلامة لا يعدلها شيء .
2 - الكفر البواح الذي جاء في الحديث ، هو الكُفْر الصريح الواضح .
ولذلك جاء في الحديث : " إِلاّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَان" . أي : بيّنة ، ودليل واضح .
قال الإمام النووي : وَفِي مُعْظَم النُّسَخ ( بَوَاحًا ) بِالْوَاوِ ، وَفِي بَعْضهَا ( بَرَاحًا ) وَالْبَاء مَفْتُوحَة فِيهِمَا ، وَمَعْنَاهُمَا : كُفْرًا ظَاهِرًا ، وَالْمُرَاد بِالْكُفْرِ هُنَا الْمَعَاصِي ، وَمَعْنَى عِنْدكُمْ مِنْ اللَّه فِيهِ بُرْهَان : أَيْ : تَعْلَمُونَهُ مِنْ دِين اللَّه تَعَالَى .
قال : وَمَعْنَى الْحَدِيث : لا تُنَازِعُوا وُلاة الأُمُور فِي وِلايَتهمْ ، وَلا تَعْتَرِضُوا عَلَيْهِمْ إِلاّ أَنْ تَرَوْا مِنْهُمْ مُنْكَرًا مُحَقَّقًا تَعْلَمُونَهُ مِنْ قَوَاعِد الإِسْلام ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْكِرُوهُ عَلَيْهِمْ ، وَقُولُوا بِالْحَقِّ حَيْثُ مَا كُنْتُمْ ، وَأَمَّا الْخُرُوج عَلَيْهِمْ وَقِتَالهمْ فَحَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانُوا فَسَقَة ظَالِمِينَ .
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الأَحَادِيث بِمَعْنَى مَا ذَكَرْته ، وَأَجْمَعَ أَهْل السُّنَّة أَنَّهُ لا يَنْعَزِل السُّلْطَان بِالْفِسْقِ ، وَأَمَّا الْوَجْه الْمَذْكُور فِي كُتُب الْفِقْه لِبَعْضِ أَصْحَابنَا أَنَّهُ يَنْعَزِل ، وَحُكِيَ عَنْ الْمُعْتَزِلَة أَيْضًا ، فَغَلَط مِنْ قَائِله ، مُخَالِف لِلإِجْمَاعِ .
قَالَ الْعُلَمَاء : وَسَبَب عَدَم اِنْعِزَاله وَتَحْرِيم الْخُرُوج عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّب عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْفِتَن ، وَإِرَاقَة الدِّمَاء ، وَفَسَاد ذَات الْبَيْن ، فَتَكُون الْمَفْسَدَة فِي عَزْله أَكْثَر مِنْهَا فِي بَقَائِهِ . اهـ .
والكُفر قد يكون بالقول ، وهو أظهر ، وقد يكون بالعَمَل ، كالذي يستبدل دِين الله عزَّ وَجَلّ بالدساتير الوضعية ، ويُحكِّم غير شريعة الله في أغلب الأحكام ، فهذا كُفر واضح .
ومثله مُوالاة أعداء الله موالاة تامة .
3 – وأما التجريح في العلماء فهذه ليست سبيل المؤمنين ، ولا طريق أهل الوَرَع ، بل إن فاعل ذلك عاصٍ للنبي صلى الله عليه وسلم ، مُخالف لِهديه وطريقته ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : ليس مِن أمتي مَن لم يُجِلّ كبيرنا ، ويَرْحم صَغيرنا ، ويَعْرِف لِعَالِمِنا حَقَّه . رواه الإمام أحمد .
وإذا كان علماء الأمة – كما يزعمون – وُعّاظ سلاطين .. فأين هم العلماء ؟!
ولعل هذه دعوة لاتِّخاذ الجهال رؤوسا !
وإذا اعتبرنا علماء الأمة وعّاظ سلاطين ، فليَحِلُّوا محلّهم في تعليم الناس وإفتائهم والصبر على مخالطتهم ! فإن لم يكن ، فليلزموا السكوت ، فهو أسلم لأديانهم .
4 – استشهادهم بحديث عمر الذي جاء بما معناه أن المسلمين يجب أن يقوموه بالسيف .. هذا ضعيف ..
وروى ابن المبارك في " الزهد " من طريق سفيان بن عيينة ، عن موسى بن أبي عيسى قال : أتى عمر بن الخطاب ، مَشْرَبة بني حارثة ، فوجد محمد بن مسلمة ، فقال عمر : كيف تراني يا محمد ؟ فقال : أراك والله كما أحب ، وكما يحب من يحب لك الخير ، أراك قويا على جمع المال ، عفيفا عنه ، عادلاً في قَسمه ، ولو مِلْت عَدّلناك ، كما يُعَدّل السّهم في الثقاف . فقال عمر : هاه ؟! فقال : لو مِلْت عَدّلناك ، كما يُعدل السهم في الثقاف ، فقال عمر : الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا مِلْت عَدّلُوني .
وهذا أثر ضعيف منقطع ؛ لأن موسى بن أبي عيسى لم يُدرِك زمان عمر رضي الله عنه .
وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق محمد بن النعمان أن النعمان بن بشير أخبره أنّ عمر بن الخطاب قال في مجلس وحوله المهاجرون والأنصار : أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ، ما كنتم فاعلين ؟ قال : فسكتوا . قال : فقال ذلك مرتين أو ثلاثا : أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ، ماذا كنتم فاعلين ؟ فقال بَشير بن سعد : لو فَعلت ذلك قوّمناك تقويم القدح ! فقال عمر : أنتم إذًا أنتم !
وهذا ضعيف أيضا ؛ لأن بَشير بن سعد استُشهد بِعين التمر مع خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر سنة اثنتي عشرة . فهو لم يُدرك خلافة عمر رضي الله عنه .
ويُحتمل أن يكون هذا قبل خلافة عمر رضي الله عنه ، ويكون سؤال عمر عن حاله لو مَال إلى الدنيا ، أو ترخّص في بعض الأمور في خاصة نفسه ، ولا علاقة له الرعية .
وعلى كُلّ فليس في هذه الرايات عزم الصحابة رضي الله عنهم على تعديل الخليفة بالسيف !
وغاية ما فيه أنه لو مَال عدّلُوه . والتعديل أعمّ من أن يكون بالسيف ، بل يكون بالنصح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والأخذ على يَدِه .
وليس صحيحا ما يُنسب على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من أنه يرى الخروج على الحاكم الظالم .
فإن مما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية : لا يَجُوزُ إنْكَارُ الْمُنْكَرِ بِمَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا حُرِّمَ الْخُرُوجُ عَلَى وُلاةِ الأَمْرِ بِالسَّيْفِ ؛ لأَجْلِ الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ لأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ وَاجِبٍ أَعْظَمَ مِمَّا يَحْصُلُ بِفِعْلِهِمْ الْمُنْكَرَ وَالذُّنُوبَ . اهـ .
وقد يفهم بعضهم بعض كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بِما يوافق هواه !
قال الإمام النووي : وَأَجْمَعَ أَهْل السُّنَّة أَنَّهُ لا يَنْعَزِل السُّلْطَان بِالْفِسْقِ
5 – ما يتعلّق بِمن تولّى الأمر وهو مُرتد أو طرأت عليه الرِّدّة صحيح ؛ لأن الكافر أصلا لا تنعقد له بيعة .
وقد نَقَل الإمام النووي الْقَاضِي عِيَاض قوله : أَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ الإِمَامَة لا تَنْعَقِد لِكَافِرٍ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْكُفْر اِنْعَزَلَ ، قَالَ : وَكَذَا لَوْ تَرَكَ إِقَامَة الصَّلَوَات وَالدُّعَاء إِلَيْهَا .
قَالَ الْقَاضِي : فَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ كُفْر وَتَغْيِير لِلشَّرْعِ أَوْ بِدْعَة خَرَجَ عَنْ حُكْم الْوِلَايَة ، وَسَقَطَتْ طَاعَته ، وَوَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَام عَلَيْهِ ، وَخَلْعه وَنَصْب إِمَام عَادِل إِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَقَع ذَلِكَ إِلاَّ لِطَائِفَةٍ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِيَام بِخَلْعِ الْكَافِر . اهـ .
وأنا لا أُدافع عن الحكام الذين بدّلوا شرع الله وغيّروا دِينه ..
والله تعالى أعلم .
الشيخ :عبد الرحمن السحيم