(2/ 1)
سحر البيان وعشق الآذان:
يروي البُخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((إنَّ من البيان لسِحْرًا)).
فهل تستطيع الزَّوجة أن تتعلم أبواب هذا السِّحْر وفضائله؟!
لو حاولت ذلك واجتهدتْ فيه، لملكت على زوجِها لبَّه وفؤاده.
أيَّتها الزَّوجة الطيِّبة! أعرف أنَّك لا تحبين الخضوع بالقول، وخاصَّة أنَّك أحيانًا تتعاملين مع أُناس من خارج المنزل، في السُّوق، في العمل، في الهاتف ... إلخ، فأنتِ تَحرصين على ألاَّ يكون بصوْتِك تكلُّف ولا خضوع؛ فيطْمع الذي في قلبِه مرض.
لكنِ اسمحي لي بهذا السُّؤال:
هل من المسْتساغ في الحياة الزَّوجيَّة أن يسمع زوجُك منك - دائمًا أو غالبًا - صوتًا مثل هذا الذي تتعاملين به مع غيره من النَّاس؟!
قد تقولين: هذه طبيعتي، وقد تعوَّدت على ذلك، ولا أستطيع أن أغيِّر منها، إنَّ هذا صعب جدًّا.
وقد تكونين معذورة قليلاً؛ لكن ما ذنبُ هذا الرَّجُل الذي تتسلَّل إليه بين حين وآخر أصوات ناعمة ورقيقة من بنات جنسِك؟!
نعم، أنت لستِ مثلَهنَّ، لكنَّك - لا شكَّ - أفضل منهن.
أتعرفين الحكمة التي تقول: لكل مقام مقال، ولكل أرض غرس، ولكل بناء أُس، ولكل ثوب لابس، ولكل علم قابس؟ فهل نَهى الله - تعالى - عن الخضوع بالقول مع الغُرباء ومع الأزواج سواء بسواء؟! إنَّ أحدًا لم يقل بهذا أبدًا.
ربما تسألين:
وكيف أستطيع ذلك، بعدما تعوَّدت على طريقة واحدة في الكلام؟
وهنا أقول: العلم بالتعلُّم، وبدون تكلُّف حاولي مرَّة بعد مرَّة؛ ابتغاء مرضات الله، وتحصينًا لأُذُن زوجِك وقلبِه من الغوائل والذنوب، حتَّى وإن كان هو لا يُفْصِح لك بذلك.
يَروي أبو الفرج الأصبهاني
[5] عن الأصمعي قال: كان لبشَّار بن برد - الشَّاعر الضرير - مجلس يجلس فيه يقال له "البردان"، وكان النِّساء يحضرْنَه فيه، فبيْنما هو ذات يوم في مجلسه إذ سمع كلامَ امرأة في المجلس فعشِقَها، فدعا غلامه فقال: إذا تكلَّمت المرأةُ عرَّفتُك إيَّاها فاعرِفْها، فإذا انصرفتْ من المجلس، فاتْبعْها وكلِّمْها وأعلِمْها أنِّي لها محبٌّ، وقال فيها:
يَا قَوْمِ أُذْنِي لِبَعْضِ الحَيِّ عَاشِقَةٌ وَالأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ العَيْنِ أَحْيَانَا
قَالُوا: بِمَنْ لا تَرَى تَهْذِي! فَقُلْتُ لَهُمْ الأُذْنُ كَالعَيْنِ تُوفِي القَلْبَ مَا كَانَا
هَلْ مِنْ دَوَاءٍ لِمَشْغُوفٍ بِجَارِيَةٍ يَلْقَى بِلُقْيَانِهَا رَوْحًا وَرَيْحَانَا
(انتهى).
وبعيدًا عن بشَّار وما قيل فيه وعنْه، فإنَّ الَّذي يَعْنينا هنا هو المعنى المأْخوذ من ذكر هذه الواقِعة. فإذا كانت الأذُن تعْشَق كما العين، فلِماذا لا تتفكَّر الزَّوجة في بعض النبرات الصوتيَّة التي تلفت بها انتباه زوجِها وتستميله إليْها، سواء أكان ذلك في سياقات الكلام الطبيعيِّ بينهما، أم في سياقات غنائيَّة عارضة، أم في غيرِها، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجب.
ليْس من الطيِّب أن يجلس الزَّوجان دون كلام، إمَّا أنَّ أحدَهما - أو كليْهما - مشغول بشيء: تلفاز، جريدة، كتاب، مجلَّة ... إلخ، والآخَر يظلُّ فترة طويلة ينتظِر كلِمة أو بعض كلمة!
إنَّ الوحشة لا تعني الجلوس وحيدًا، أو بعيدًا عن النَّاس فحسب، وإنَّما قد يُصاب إنسان بوحشةٍ كبيرةٍ وهو يعيش بين النَّاس؛ لأنَّه لا يجد أحدًا من النَّاس يؤْنِسُه بالكلام، ويتجاذَب معه أطْراف الحديث، وفي ذلك يقول الشَّاعر رفعت الصليبي[6]:
إِنِّي غَرِيبُ الدَّارِ فِي وَطَنِي رَغْمَ الصِّحَابِ وَكَثْرَةِ الأَهْلِ