رد القصة من حيث الرواية
من المعلوم أن الاحتكام في قبول الأحاديث أو ردها يجب أن يكون إلى القواعد والضوابط التي وضعها أهل هذا الفن لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه ، فليس كل ما يروى وينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- يلزم أن يكون من قوله ، ومن تلك القواعد النظر في الأسانيد والرواة ، ولو تتبعنا أسانيد هذه القصة فإننا سنجد أن الحديث الوارد فيها لم يرو موصولاً إلا عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وإن كان قد روي مرسلاً عن عدد من التابعين .
وجميع الطرق الموصولة إلى ابن عباس واهية شديدة الضعف لا يصح منها شيء ألبتة كما قال المحدثون .
وأما المرسلة فلا يصح منها إلا أربع روايات وهي رواية سعيد بن جبير و أبي العالية و أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث و قتادة .
وهذا الروايات وإن صحت إليهم فإن ذلك لا يعني قبولها ، والاعتماد عليها لأنها مراسيل ، والمرسل- كما هو معلوم عند جماهير المحدثين - في عداد الحديث الضعيف ، وذلك لجهالة الواسطة ، واحتمال أن يكون غير صحابي ، وحينئذ يحتمل أن يكون ثقة وغير ثقة ، فلا يؤمن أن يكون كذاباً .
قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه : " والمرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة " ، ومثله قال الإمام ابن الصلاح في مقدمته : " ...و ما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضَعفه ، هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفّاظ الحديث، و نقاد الأثر، و قد تداولوه في تصانيفهم ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية ( 7/435) : " وأما أحاديث سبب النزول فغالبها مرسل ليس بمسند ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل : " ثلاث علوم لا إسناد لها ، وفي لفظ ليس لها أصل : التفسير والمغازي والملاحم ويعني أن أحاديثها مرسلة " .
ولو نظرنا فيمن صحت عنه هذه المراسيل لوجدناهم من طبقة واحدة ، فوفاة سعيد بن جبير سنة (95) و أبي بكر بن عبد الرحمن سنة (94)، و أبي العالية سنة (90) ، و قتادة سنة بضع عشرة و مائة ، و الأول كوفي ، و الثاني مدني ، و الأخيران بصريان .
فجائز أن يكون مصدرهم الذي أخذوا عنه هذه القصة واحداً ، وجائز أن يكون جمعاً ولكنهم جميعاً ضعفاء ، ومع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقَبول حديثهم هذا ، لا سيّما في مثل هذا الأمر العظيم الذي يمسّ مقام النبوة ، فلا جرم حينئذ أن يتتابع العلماء على إنكار هذه الرواية والتنديد ببطلانها .
فقد سئل عنها الإمام بن خزيمة فقال : " هذه القصة من وضع الزنادقة " نقل ذلك الفخر الرازي في تفسيره (23/44) ، ونقل عن الإمام البيهقي قوله : " هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل " .
وقال ابن حزم في كتاب " الفصل في الأهواء والنحل " (2/311) : " وأما الحديث الذي فيه : ( وأنهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ) فكذب بحت موضوع ، لأنه لم يصح قط من طريق النقل ، ولا معنى للاشتغال به ، إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد " اهـ .
وقال القاضي عياض في الشفا (2/79) : " هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل....، ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ، ولا رفعها إلى صاحب ، وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية ، والمرفوع فيه حديث شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال فيما أحسب - الشك في الحديث - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان بمكة ....، وذكر القصة " ، ثم نقل كلام البزار وقال : " فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا ، وفيه من الضعف ما نبه عليه ، مع وقوع الشك فيه ، كما ذكرناه ، الذي لا يوثق به ، ولا حقيقة معه .
قال : وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الراوية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البراز رحمه الله ، والذي منه في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قرأ : (والنجم ) وهو بمكة فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس " اهـ .
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (3/239) : " قد ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم " . اهـ .
وقال الشوكاني :" ولم يصح شيء من هذا ، ولا يثبت بوجه من الوجوه " .
وهذا هو مذهب أكثر المفسرين والمحدثين ، وممن ذهب إليه الجصاص ، و ابن عطية و أبو حيان ،و السهيلي ،و الفخر الرازي ،و القرطبي ،و بن العربي ،و الآلوسي ، و أبو السعود ، و البيضاوي ، و القاسمي و الشنقيطي ، و المنذري ، و الطيبي ، و الكرماني و العيني وغيرهم .
ولولا الرغبة في الاختصار لاستعرضنا هذه الروايات وعللها ، وكلام أهل العلم عليها على وجه التفصيل ، ومن أراد الاستزادة حول الروايات والطرق فليرجع إلى كتاب الشيخ الألباني رحمه الله : " نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق " ، وكتاب " التحقيق في قصة الغرانيق " لأحمد بن عبد العزيز القصير .
يتبع...