التَّخلُّف عن الجهاد
{يا أيُّها الَّذين آمَنوا مالكم إذا قيل لكُم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتُم إلى الأرضِ أَرَضِيتم بالحياة الدُّنيا من الآخرة فما متاعُ الحياةِ الدُّنيا في الآخرة إلا قَليلٌ (38) إلا تنفِروا يُعذِّبكم عذاباً أَليماً وَيَستبدِلْ قوماً غيركُم ولا تضرُّوه شيئاً والله على كِلِّ شيءٍ قديرٌ (39)}
{فَرحَ المُخلَّفون ِبمقْعدهِمْ خِلاف رسولِ الله وكَرِهوا أَن يُجاهِدوا بأموالهِم وأَنفُسِهمْ في سبيلِ الله وقالوا لا تَنفِروا في الحرِّ قُلْ نارُ جهنَّمَ أَشدُّ حرّاً لو كانوا يَفْقَهونَ(81)}
{ما كانَ لأَهلِ المدينة ومن حَولَهُم من الأَعْرابِ أن يَتخلَّفوا عن رسولِ الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بِأنَّهم لا يُصِيبُهُم ظمأٌ ولا نَصَبٌ ولا مَخْمصةٌ في سبيلِ الله ولا يَطَؤُون مَوطئاً يَغيظُ الكُفَّارَ ولا ينَالُون من عَدُوٍّ نيلاً إلا كُتبَ لَهُم به عملٌ صالحٌ إنَّ الله لا يُضيعُ أَجْرَ المُحسِنين (120)}
{لقد تَابَ الله على النبيِّ والمهاجِرِينَ والأَنصارِ الَّذين اتَّبَعوهُ في ساعةِ العُسرَةِ مِن بعدِ ما كادَ يَزيغُ قلوبُ فريقٍ منهمْ ثمَّ تابَ عليهِم إنَّه بِهِم رؤوفٌ رَّحِيمٌ (117)وعلى الثَّلاثة الَّذين خُلِّفوا حتَّى إذا ضاقَتْ عليهِمُ الأرضُ بما رَحُبَتْ وضاقَتْ عليهِمْ أَنْفُسُهُمْ وظنُّوا أن لا مَلْجأَ مِنَ الله إلا إليه ثمَّ تاب عليهِم لِيتُوبوا إن الله هو التَّوَّابُ الرحيمُ(118)}
{وَما كانَ المؤمِنونَ لِيَنفِروا كافَّةً فلولا نفرَ من كلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طائفةٌ ليتفقَّهوا في الدِّين وَلِيُنذِروا قومَهُمْ إذا رَجَعوا إِليهم لعلَّهم يَحْذَرون (122)}
{إِنَّما السَّبيلُ على الَّذين يَسْتَئذنِونَكَ وهمْ أغنياءُ رَضُوا بِأَن يكونُوا مع الخَوالِفِ وَطَبَعَ الله على قُلوبِهِمْ فَهمْ لا يَعْلمُونَ(93)}
ومضات:
ـ ما كان للذين آمنوا أن يتخلَّفوا عن المساهمة في الجهاد الكبير، والجهاد الأكبر، والجهاد الأصغر؛ في سبيل تحويل مجتمعهم من مجتمع الذلِّ والجهل والتخلُّف، إلى مجتمع القوَّة والكرامة والعلم والتقدُّم، وأن تكون لهم الريادة على سائر أمم الأرض، في نشر الأخلاق الفاضلة، واستنفاد طاقاتهم العقلية كافَّة في تقصِّي جميع العلوم الكونية، للاستفادة ممَّا خلقه الله لنا في إعمار القلب والعقل والجسد، بشكل متوازن سليم، وهذا هو سبيل الله.
ـ إن مغريات الجسد من التراخي والكسل، والاستمتاع باللذائذ وترف العيش، عوامل مثبِّطة للهمم، تثقل المؤمن عن الانطلاق البنَّاء، وتحجبه عن المتع الروحية وعن منابع السعادة الحقيقية، الَّتي هي زاده الوفير في الرحلة المتكاملة في الحياة الدنيا ومنها إلى الدار الآخرة.
ـ عذاب الله وفق نواميسه هو ذلٌّ وهوان، وسيطرة العدو على عقولنا وتخديرها، وتسلُّطه على منابع ثرواتنا، وما كانت لأمَّة متخاذلة أن يكون لها الخلافة الربَّانية على هذه الأرض، وما كان بمعجز لله أن يستبدلها بأمَّة بنَّاءة متطوِّرة مضحِّية، فهمت عن الله مراده وسعت في تحقيق هذا المراد.
ـ إن في الجهاد إحساناً للمؤمنين أنفسهم حيث يصونون مجتمعهم مهاباً عزيزاً، وإحسان لأعداء الإسلام بحيث تتاح فرصة عرض مبادئ هذا الدِّين عليهم في محاولة لنقلهم من أخلاق الجهل المدمِّر إلى آفاق العلم المثمر، ومن فقر الروح إلى غنى النفس، ومن الضعف البهيمي إلى قوَّة الإيمان، ومن التشتت العاطفي إلى التماسك العائلي والاجتماعي. أمَّا في حال إِعراضهم وتعدِّيهم فإنَّ علينا أن نشتِّت شملهم ونأخذ منهم كلَّ مأخذ، حتَّى يرتدعوا ويؤوبوا إلى جادَّة الحقِّ والصواب.
ـ ما كان للمؤمنين أن يتخلُّوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع المهام الَّتي يباشرها بنفسه، ولا أن يحبُّوا أنفسهم أكثر من حبِّهم لرسول الله. وإن لهم في أنواع الآلام الَّتي يعانونها نتيجة العطش والتعب والجوع وفي اقتحامهم لأوكار العدو، والنيل من هيبته والإغاظة له في أسره أو قتله، لهم في كلِّ ذلك رفيع المقام، والعزَّة والكرامة، والثواب من الربِّ الكريم، حيث تصان لهم أعمالهم مجداً في هذه الحياة، ومقاماً محموداً في الدار الآخرة.
ـ كانت عقوبة الصحابة الثلاثة الَّذين تخلَّفوا عن رسول الله ـ دون عذر أو نفاق ـ مقاطعة المجتمع لهم، فلا كلام معهم ولا تعامل، ومُنعت نساؤهم عنهم، وحبسوا في دائرة أنفسهم، وهذا هو العزل المدني والاجتماعي الَّذي طُبِّق عليهم بطريقة احترقت بها قلوبهم لوعة وأسى على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابتعاد المؤمنين عنهم، حتَّى أَرمدت عيونهم من كثرة البكاء وهول المصاب النفسي الَّذي ألمَّ بهم.
ـ النفير المستمرُّ لطوائف من المسلمين في طلب العلم بمختلف صنوفه، وتعليمهم لباقي أفراد الأمَّة واجب حتمي، وعلى الأغنياء بشكل خاص أن يدعموا هذا السبيل تحت طائلة تغليف قلوبهم بالقسوة والنفاق، وإغراقهم في مستنقعات الجهل والتخلُّف.
في رحاب الآيات:
نزلت هذه الآيات الكريمة بمناسبة غزوة تبوك، حين تجمَّعت قوى الروم متحالفة مع بعض القبائل من العرب المتنصرة، بغية الهجوم على المدينة المنوَّرة لاستئصال جذور الإسلام والقضاء عليه. وحين بلغ الخبر رسول اللهصلى الله عليه وسلم لم يتوانَ لحظة واحدة عن الدعوة للنفير العام، قال تعالى: {انفِروا خِفافاً وثِقالاً وجاهِدوا بِأَموالِكُم وأَنفُسِكم في سبيل الله ذلِكُم خيٌر لكُم إن كُنتُم تَعلَمون} (9 سورة التوبة آية 41).