عرض مشاركة واحدة
  #138  
قديم 22-09-2008, 08:58 PM
الصورة الرمزية لنا الله
لنا الله لنا الله غير متصل
عضو متميز
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Cairo
الجنس :
المشاركات: 398
الدولة : Egypt
افتراضي

أحكام استثنائية رُخِّص بها لرفع الحرج



قال الله تعالى: {..يريدُ الله بكمُ اليُسْرَ ولا يريدُ بكمُ العُسْرَ.. (185)}سورة البقرة(2)

وقال أيضاً: {يُريدُ الله أَن يُخفِّفَ عنكم وخُلِقَ الإنسانُ ضَعيفاً(28)}سورة النساء(4)

وقال أيضاً: {..وما جعلَ عليكم في الدِّينِ من حرجٍ.. (78)}سورة الحج(22)



ومضات:

ـ اليُسْرُ وعدم الحرج سِمَة بارزة في الأحكام الَّتي كَلَّف الله بها عباده، وتتمثَّل في الإقرار بوجود الدوافع الفطريَّة وتنظيم الاستجابة لها، ليكون التوازن قائماً ومنسجماً، بين التكليف وبين متطلَّبات الحياة، على صعيد الفرد والجماعة.

ـ ليست غاية الإسلام تعذيب النفس وإرهاقها بالمبالغة في التكاليف والأعباء الدِّينية، فقد رحمها الله تعالى لضعفها وعجزها، حيث أن قدراتها محدودة واستعداداتها الطبيعية متفاوتة.


في رحاب الآيات:

من كمال حكمة الله التخفيف على عباده فيما شرع لهم من الحدود والأحكام، وذلك رحمة منه بهم، ومراعاة لضعفهم، ورفعاً للحرج ودفعاً للمشقَّة عنهم، فلا ضرر ولا ضرار. وتأكيداً على هذه المبادئ الَّتي تُبرز يُسر الإسلام وسماحته؛ شُرع كثير من أحكام الرُّخَص الَّتي تتعلَّق بالعبادات والمعاملات والعقوبات، والأمثلة عليها كثيرة وعديدة، سنأتي على ذكر بعضها، فيما يتعلَّق بالعبادات من صلاة وصيام وحج.

فعلى سبيل المثال فرض الله تعالى عدداً من ركعات الصَّلاة يومياً، لكنَّه رخَّص بجواز قَصْرِها في ظروف معيَّنة، كما ورد في قوله تعالى: {وإذا ضرَبْتُم في الأرضِ فليس عليكم جُنَاحٌ أن تَقْصُرُوا من الصَّلاة..} (4 النساء آية 101)

أي إذا سافرتم أيُّها المؤمنون في الأرض للجهاد ـ وقياساً لأي داعٍ من دواعي السفر ـ فلا إثم عليكم في أن تَقصُروا الصَّلاة المفروضة، فَتُصَلُّوا الرباعيَّة ركعتين، لأن في السفر من المشقَّة والتعب ما لا يخفى على أحد، والإسلام دين اليُسر الملائم لكلِّ الظروف، وكذلك أبيح الجمع بين فرضين بسبب وجود حرج على المكلَّف، أو دون سبب لما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه : «صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولاسفر»، وهذا استثناء وليس قاعدة عامَّة.

كما أنه يجوز لمن جهل جهة القبلة، وتعسَّر عليه تحديد جهتها في سفر أو غيره؛ أن يتوجَّه في صلاته إلى أي جهة يغلب على ظنِّه أنها جهة القبلة.

كما يجوز للمصلِّي أن يصلِّي صلاة النافلة على المركوب الَّذي يمكن توقيفه والنزول عنه كالدابَّة والسيارة، أمَّا صلاة الفريضة في القطار والباخرة والطائرة، فيمكنه أداءها قاعدا، فيما إذا تعذَّر عليه الصَّلاة واقفا. وتكون قبلته حيث تتجه مركوبته، لما أخرجه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي وهو مُقبل من مكَّة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه، قال: وفيه نزلت الآية: {ولله المَشرقُ والمَغربُ فأينما تُوَلُّوا فَثَمَّ وجهُ الله..}» (2 البقرة آية 115). فالحكمة من الاتجاه للقبلة هي توحيد وجهة المصلِّين، ولكنَّ يُسر الإسلام يحكم بجواز الاتجاه لغير جهتها، فيما إذا كان المصلِّي يخضع لظرف يمنعه من استقبالها.


فالله موجود في كلِّ مكان، لا تقيِّده الحدود، ولا تحدُّه الجهات، بل هو الواسع العليم، الَّذي يتقبَّل العبادة من المكلَّف على الشكل الَّذي يمكنه أن يقوم بأدائها عليه، وهو الرحيم الرؤوف الَّذي يتجاوز عن الضعفاء من عباده، ولا يكلِّفهم ما لا يطيقون، فيرخِّص لهم في الأحكام في ظروف الجهل والمرض والسفر والخطأ والنسيان وغيرها من الأسباب الاضطرارية، لأنه يريد بهم اليُسر ولا يريد بهم العُسر.

ومن الرُّخَص الَّتي شُرعت فيما يتعلَّق بالصَّلاة، التخفيف عن المؤمنين بمقدار صلاة قيام الليل، ونَسْخُ حُكمها من الوجوب إلى التطوُّع، لأنه عندما نزل قول الله تعالى: {ياأيُّها المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيلَ إلاَّ قليلاً * نِصفَهُ أو انقُصْ منه قليلاً * أو زدْ عليه ورتِّلِ القرآنَ ترتيلاً} (73 المزمل آية 1ـ4) سارع الرسول صلى الله عليه وسلم مع طائفة من أصحابه إلى امتثال أمر الله في المداومة على قيام الليل. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك عليهم فكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتَّى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وامتقعت ألوانهم، فرحمهم الله تعالى وخفَّف عنهم، بعد أن أثنى عليهم في محكم تنزيله فقال جلَّ من قائل: {إنَّ ربَّكَ يعلمُ أنَّك تقومُ أدْنى من ثُلُثَي اللَّيلِ ونصفَهُ وثُلُثَهُ وطائفةٌ من الَّذين معك والله يُقَدِّرُ اللَّيلَ والنَّهارَ عَلِمَ أن لن تُحصوهُ فتابَ عليكم فاقرؤوا ما تيسَّرَ من القرآن عَلِمَ أنْ سيكونُ منكم مرضى وآخرونَ يَضْربونَ في الأرضِ يبْتغونَ من فَضْلِ الله وآخرونَ يُقاتِلونَ في سبيلِ الله فاقرؤوا ما تيسَّرَ منه..} (73 المزمل آية 20).

ففي هذا منتهى الرأفة بهم من الله تعالى، وغاية العناية الربَّانية الَّتي شاءت أن تخفِّف عنهم وتيسِّر أمورهم، ليبقى التوازن قائماً بين متطلَّبات الروح وحاجات الجسد، فقد يكون الإنسان مريضاً أو مسافراً لأجل كسبه ومعاشه، وقد يكون مجاهداً في سبيل الله لإعلاء كلمته ونشر دينه، وكلٌّ من هؤلاء الثلاثة قد يشقُّ عليه قيام الليل، فخفَّف الله عنهم وعن أمثالهم، وأسقط عن عموم المسلمين وجوب قيام الليل، وتركه نافلة للمتطوِّعين الراغبين في ذلك. ويؤكِّد ذلك الحديث الصحيح عند مسلم والنسائي والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه الَّذي قال فيه: «قال السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل عليَّ غيرها؟ يعني الصَّلوات الخمس، فقال: لا، إلا أن تَطَّوَّع»؛ فهو يدلُّ على عدم وجوب غير الصلوات الخمس المفروضة، ومن تطوَّع خيراً فهو خير.

أمَّا عن الأحكام المتعلِّقة بالصَّوم، فقد فرض الله على عباده المسلمين صيام شهر رمضان، ولكنَّه رخَّص لهم بالإفطار لأسباب مانعة أو مرهقة كالمرض أو السفر، قال تعالى: {..فمن شَهِدَ منكمُ الشَّهرَ فلْيَصُمهُ ومن كان مريضاً أو على سفرٍ فعِدَّةٌ من أيامٍ أُخَرَ يُريدُ الله بكمُ اليُسرَ ولا يُريدُ بكمُ العسرَ..} (2 البقرة آية 185) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إن الله تعالى وضع شطر الصَّلاة عن المسافر، وأرخص له في الإفطار، وأرخص فيه للمرضع والحبلى إذا خافتا على ولديهما» (أخرجه أصحاب السنن عن أنس بن مالك رضي الله عنه ). وقد كان الصحابة الكرام تجاه مثل هذه الأحكام على فريقين، فبعضهم يأخذ بالعزيمة ـ في حال السـفر أو المرض ـ إذا وجد في نفسه القدرة فيصوم، وبعضهم الآخر يأخذ بالرخصة إذا وجد في الصَّوم مشقَّة وحرجاً فيفطر، إلا أنه لم يكن صائمهم ليَعيب على مفطرهم، ولا مفطرهم على صائمهم.

والأخذ بمثل هذه الرُّخص سنةٌ؛ ولا ينقص من الأجر شيئاً، كما أن عدم الأخذ بها يجعل المكلَّف آثماً إذا ترتَّب على عدوله عنها ضرر يؤذيه. ويؤكِّد ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فصام بعض وأفطر بعض، فتحزَّم المفطرون وعملوا، وضعُف الصُوَّام عن بعض العمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذهب المفطرون اليوم بالأجر» (رواه مسلم والنسائي).

وعن جابر رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكَّة في رمضان فصام حتَّى بلغ كُراع الغميم فصام النَّاس، ثمَّ دعا بقدح من ماء فرفعه حتَّى نظر النَّاس ثمَّ شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض النَّاس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة» (أخرجه مسلم والترمذي) ويؤيِّد هذا حديث آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم : «ليس من البرِّ الصيام في السفر» (رواه الخمسة عن جابر رضي الله عنه ).

أمَّا فيما يتعلق بفريضة الحج فقد رُخِّص في بعض أحكامها المتعلِّقة ببعض شعائره كَرَمي الجمار؛ فأصل الحكم في ذلك أنه لا يجوز لأحد أن يرمي قبل نصف الليل الأخير بالإجماع. إلا أنه يُرخَّص للنساء والصبيان، والضعفاء، وذوي الأعذار، ورعاة الإبل أن يرموا جمرة العقبة من نصف ليلة النحر (ليلة الإفاضة من عرفات)، فعن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت ثمَّ أفاضت» (رواه أبو داود والبيهقي).

والأمثلة على التخفيف في الإسلام كثيرة يضيق المجال عن إحصائهـا، وهي تصل إلى حدِّ إباحة بعض ما حرَّم الله في حال الضرورة القصوى، ومن ثمَّ فإن ميزة التيسير ميزة واضحة في التشريع الإسلامي، نلمس آثارها وملامحها في معظم سور القرآن الكريم، وفي كثير من الحوادث الَّتي جرت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي كثير من الأقوال الَّتي أُثِرت عنه في هذا الصدد،

كقوله عليه الصَّلاة والسلام فيما رواه أحمد عن جابر رضي الله عنه : «بُعثت بالحنيفية السمحة»، وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنه حين بعثهما إلى اليمن: «بشِّرا ولا تنفِّرا ويسِّرا ولا تعسِّرا» (رواه البخاري ومسلم). فاليسر في الدِّين هدية من الله لعباده، روي عن أنس رضي الله عنه قال: «جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أُخبروا كأنَّهم تقالُّوها (عدُّوها قليلة) فقالوا: وأين نحن من النبي وقد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؟ فقال أحدهم: أمَّا أنا فإني أصلِّي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الَّذين قلتم كذا وكذا؟ أمَّا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنِّي أصوم وأفطر، وأصلِّي وأرقُد، وأتزوَّج النساء، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني» (رواه البخاري ومسلم)

وبهذا فإنه صلى الله عليه وسلم عدَّ من يسعى إلى الغُلُو في تطبيق أحكامه، معادلاً للمقصِّر في دين الله، والراغب عن سنَّته صلى الله عليه وسلم ، وتبرَّأ منه.

وخَيْرُ منهجٍ في هذا السبيل منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث صحَّ عنه أنه صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين، إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.
__________________

قـَدْ كـَانَ آخِرَ مَا لـَمَحْتُ عـَلـَي الـْمَـدَي
وَالنبْضُ يخْبوُ .. صُورَة ُالجـَلادِ
قـَدْ كـَانَ يضْحَـكُ وَالعِصَابَة ُحَوْلـَــــــهُ
وَعَلي امْتِدَادِ النَّهْر يبْكِي الوَادِي
وَصَرَخْتُ ..وَالـْكـَلِمَاتُ تهْرَبُ مِنْ فـَمِي:
هَذِي بـِلادٌ .. لمْ تـَعُـــدْ كـَبـِلادِي
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.41 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.02%)]