معاني .. وأماني
ولو تأمل المسلم الذي يريد أن يستشعر الروحانيات ـ بسرعة ـ هذه الصفات وتأمل فيها ، لكان لذلك أثره الكبير على نفسه وعلى صعودها الإيماني ، فكل واحدة منها كافية أن يتأملها المسلم بعمق ويستشعر معانيها ، وتترك أثرها الكبير في نفسه ، وتقوي إرادته وعزمه .
فهو في ساحة تدريب على الإخلاص ؛ ذلك السر الذي به قوام الأعمال كلها على مدار حياة الإنسان ، وهو مستشعر للأجر الكبير غير المحدود ؛ ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرهمْ بِغَيْرِ حِسَاب ) ، والمؤمن في رمضان في أفضل العبادات ، وهو ينتسب إلى الله بهذا الصوم تشريفا ورفعة له ، وفيه تشبه بالملائكة الكرام الأطهار ، وأن الصائم لا حظ له في نفسه إنما كله لله ، والمسلم يتقرب بصومه بعبادة يفرد الله بها عن سائر ما عبد من دون الله ..
ألا تكفي هذه المعاني كي تزرع في النفس أرقى قيم الارتقاء الإيماني ؟
وليس المراد بالجانب الإيماني أن يجد المرء حلاوته في نفسه فقط ، وإن لم يجدها يكون ذلك خللا في نفسه ، كلا ، فالجهاد قمة العمل الإيماني ، وهو مكروه للنفس ؛
( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )
( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ )
ومع ذلك وصفهم القرآن بالمؤمنين ، وما يلبث المجاهد أن يرى بركات الجهاد في نفسه وماله ووقته وفي كل سكنه من نبضات روحه العطرة ، لو ثبت واستمر !
ومن هنا جاء التعبير في الأحاديث الصحيحة " من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا .. من صام رمضان إيمانا واحتسابا .. ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا ،، غفر له ما تقدم من ذنبه" .
لما في الاحتساب من أجر وصبر وتعب ، تأتي بعده البركات والأماني الجميلة في النفس والروح معا ، ولكنه فقه الصيام وصبره .. فلنتأمل !
قال بن رجب " والصبر ثلاثة أنواع : صبرٌ على طاعة الله ، وصبرٌ عن محارم الله ، وصبرٌ على أقدار الله المؤلمة ، وتجتمع الثلاثة كلها في الصوم ؛ فإن فيه صبراً على طاعة الله ، وصبراً عمّا حرم الله على الصائم من الشهوات ، وصبراً على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش ، وضعف النفس والبدن "
انتصار بدر .. وتجريد النوايا
وذكرني ما نقله الحافظ بن حجر في مسألة أن ليس للعبد شي من الصيام وأنه كله لله ، ذكرني ذلك بما حدث للصحابة الكرام في غزوة بدر ـ في شهر رمضان ـ حين اختلفوا في النفل فجردهم الله تعالى من كل شي ، في أربعين آية في أول سورة الأنفال ، كأن النصر كله ، كله من الله ، ولم يفعل الصحابة أي شيء !
ففي أول السورة : " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ "
هذه الأنفال ليست لكم وإنما لله وللرسول !
ثم في الآية 17 : " فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "
حتى قتل الكفار ليس منكم ، بل لستم أنتم من رمى !
كله لله تعالى .
وفي موطن النصر هذا ذكرهم بقوله : " وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " .
كل ذلك لتجريد النصر لله وحده ، برغم ما لاقاه الصحابة في بدر ، لكنها التربية على التجرد لله تعالى وحده ، وكذا الحال في الصوم ، فالصوم جهاد ، والقتال جهاد ، ويراد منهما تنمية الإرادة النفسية ، والإرادة العملية .
ومن هنا إخواني أخواتي علينا أن نعي فقه الصوم وحكمه وبركاته ، وأن نجدد النوايا ونمحصها ، و ندرك مراد الشارع من ذلك ، ولا يكن همنا فقط سرعة طلب الروحانيات ، فإنها آتية بحول الله ، لا نستعجل بل نعي الأمور بعمق ، وندرك أننا في عبادة عظيمة وجهاد وتربية للنفس ، وما أصعبها من تربية .
ولا يعني هذا التجريد وهذا الفقه أن نترك الأعمال المباركة ، كلا ، ولكن هذه هي الأرضية الفقهية والنفسية التي يجب أن ندخل بها هذا الشهر العظيم المبارك..
ونختم بقول الإمام الرافعي رحمه الله:
بني الإسلام هذا خير ضيف ** إذ غشي الكريم ذرا الكرام
يلمكم على خير السجايا ** ويجمعكم على الهمم العظام
فشدوا فيه بأيدكم بعزم ** كما شد الكمي على الحسام