وهي قصة كل جريمة من جرائم الأخلاق..
قصة الكذب والخداع والنفاق والغش والتدليس.
قصة الغيبة والنميمة ونهش الأعراض وكشف العورات.
قصة الرشوة والظلم والفساد.
قصة القعود عن نصرة الحق والجهاد في سبيله.
قصة الترف والسرف والفجور والمجون.
وهي على الأخص قصة " التقاليد فيما يختص بالرجل والمرأة والاختلاط والجريمة...
يبدأ المجتمع " نظيفاً " متحفظاً لا يسمح بالاختلاط ولا يتهاون في الجريمة.
ولا نقصد " بالنظافة " أنه مجتمع من الملائكة الأطهار قد خلا من الجريمة. فهذا شيء لم يحدث في التاريخ!
ولكنا نقصدها بمثل المعنى الذي يستخدم في الشئون الصحية. فحين تقول الهيئات الطبية إن المدينة " نظيفة " تقصد أنها نظيفة من الأوبئة الخطرة، ولا تقصد أنها خالية من حالات فردية من هذه الأمراض.
في هذا المجتمع النظيف توجد حالات فردية غير نظيفة. ولكنها قليلة ومستترة وعدواها محدودة. وذلك نتيجة الحرص الدائم الذي يبذله المجتمع في عملية التنظيف.
ولكنه في وقت من الأوقات يتراخى...
عندئذ يأخذ الوباء في الانتشار التدريجي البطيء.
وفي حالة الأوبئة الجسمية ينتشر المرض بسرعة وبطريقة ملموسة مميتة.
ومن هنا يهب الناس للوقاية والكفاح في أسرع وقت ويتساندون ويتكاتفون لوقف الوباء.
ولكن الأوبئة النفسية ذات طبيعة أخرى.
فالنفس بطبيعتها استجابة من الجسم. والمناعة النفسية اللاشعورية - حين توجد - تستطيع أن تقاوم المرض أو على الأقل تخفف حدته القاتلة مدى أجيال.
ولذلك فالفساد الخلقي بطيء المفعول جداً. وقد تمر أجيال كاملة على مجتمع منحل الأخلاق قبل أن ينهار. بل إن الانحلال قد يستشري في جيل من الأجيال الأخيرة إلى حد يعييك فيه البحث عن جماعة واحدة فاضلة. ومع ذلك فقد لا تقع الكارثة في هذا الجيل بالذات. ومن ثم يغرى الناس بالظن أن كل النذر خرافة، وأنهم مستمتعون بكل ما يشتهون، ثم ناجون مما كانوا يحذرون!
ولكن سنة الله في النهاية تتحقق! لم تتخلف مرة واحدة في التاريخ!
لم يحدث أن استمتع الناس بشهواتهم الزائدة إلى غير حد، ثم استمروا إلى الأبد أقوياء متماسكين قادرين على الحياة!
وهذه صفحة التاريخ مفتوحة لمن يريد.
صفحة اليونان القديمة وروما القديمة وفارس القديمة، والعالم الإسلامي حين غرق في الشهوات، ثم صفحة الغرب في جاهليته المعاصرة.
تبدأ الجريمة بسيطة خفيفة لطيفة..
اختلاط بريء تحت لإشراف الآباء أو غيرهم من المشرفين..
ونزهات لطيفة أو نواد ظريفة، ولا بأس فيها من إتاحة شيء من الخلوة " البريئة " بين شاب وفتاة.
وما الذي يمكن أن يحدث في خلوة كهذه بريئة وعين الرقيب على بعد خطوات.. أو حجرات؟!
ابتسامة من هنا وكلمة إعجاب من هناك؟
وضمة خاطفة في غفلة من الرقيب؟ وقبلة طائرة تطفئ الغلة أو تشعل اللهيب؟
" يا سيدي "!
ثم يحدث ما يحدث في الخمر..
الإدمان..
الكأس الأولى تصبح بعد حين تافهة ضئيلة المفعول. لا بد من كأس ثانية.
والقبلة الأولى تغري دائماً بالمزيد، لا يمكن أن تتوقف، ليس ذلك من طبائع الأشياء.
ولكن الجيل الأول مع ذلك لا يسرف في الجريمة، ولا يصل إلى الإدمان المجنون.
هنالك الشخص الواقف في داخل النفس بالمرصاد، ومعه العصا ينذر ويحذر ويهدد بعظائم الأمور. وهنالك التقاليد التي تربط المجتمع ولا يسهل الخروج عليها دفعة واحدة. ومن ثم لا تحدث الجريمة كاملة في أول جيل، وإنما " يتبحبح " الناس قليلاً ويفكون القيود.
ويمضي المجتمع في طريقه منتشياً لا يحس بالخطر، ولا خطر - حتى الآن - هناك.
ويظن المجتمع - نظرياً - أنه قادر على ذلك إلى غير نهاية. قادر على أن يفك القيود ومع ذلك لا يقع في الجريمة أو لا يصل إلى الإسراف المعيب.
وهو مخلص في عقيدته تلك الضالة لأنه يقيس على نفسه ويغفل حقيقة الأمور.
يغفل الضوابط الخفية التي أنشأها في أعماق نفسه الجيل السابق المتحفظ. والتي لن يخلفها هو للجيل المقبل لأنه غير مؤمن بها، يظنها تشدداً بلا ضرورة ولا لزوم!
ينسى الرجل أنه قد رأى أمه متحفظة لا تختلط بالرجال، ورآها مكتسية لا يتعرى من جسمها شيء، ومن ثم تقاومه هذه الصورة على غير وعي منه وهو يدعو فتاة غريبة إلى الاختلاط به، ويدعوها إلى تعرية نفسها أو جسدها ليستمتع به.
نعم تقاومه حتى وهو مندفع الشهوة، فلا يسرف، ولا يتبجح بالإثم.
والفتاة التي رأت أمها متحشمة وزرعت في نفسها النفور من العري - النفسي والجسدي - تتحفظ كذلك - بوعي منها و بغير وعي - حتى وهي تهم بالانزلاق، فلا تسرف ولا تتبجح بالإثم.
ثم يتراجع هذا الجيل..
ويجيء جيل جديد تربية الأم التي ذاقت في شبابها " متعة " التحلل البسيط من القيود، والأب كذلك.
الأم والأب اللذان ذاقا شيئاً من المتعة ولم يسقطا السقوط الكامل - والأم خاصة - لن ينظرا إلى التقاليد " المتزمتة " بعين الاحترام.
علام التشدد؟ ألم ينفلتا هما من هذا التشدد ولم يحدث شيء؟ " فليتبحبح " الأولاد " قليلاً " ولا ضير!
ومن ثم ينشأ الجيل الجديد وقد ضعف الشخص الواقف في داخل النفس بالمرصاد، ولانت العصا فلم تعد تترك أثراً في الضمير، وتفككت التقاليد فلم تعد تمنع المحظور.
ويتراجع هذا الجيل..
ويأتي جيل يرى أمة قد تعرت، من شيء من الثياب وشيء مماثل من الفضيلة (والجسم والنفس صنوان في هذه الأمور!)
الولد الذي يرى أمه عارية لا تثور في نفسه نخوة الرجولة والحرص على الأعراض، فقد زالت في نفسه حرمة الجسد، وصار نهباً يباح للعيون، وبعد ذلك لما هو أكثر من العيون.
والبنت التي ترى أمها عارية لا تؤمن بالقيد.
ويلتقي هؤلاء الأولاد والبنات، يلتقون على شهوة الجسد الفائرة، ويلتقون بلا ضابط ولا حدود، وتتم الدورة المحتومة، والهاوية في آخر الطريق.
من كتاب قبسات من الرسول للشيخ محمد قطب رحمه الله
|