الموضوع: فقليله حرام
عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 29-06-2008, 07:39 PM
قذائف الحق قذائف الحق غير متصل
عضو نشيط
 
تاريخ التسجيل: Apr 2008
مكان الإقامة: Saudi Arabia
الجنس :
المشاركات: 149
الدولة : Saudi Arabia
افتراضي

الإدمان أول شيء يخطر على البال حين تذكر الخمر، ويذكر القليل فيها والكثير
والإدمان - كما تثبت التجربة العلمية - خطر ماثل أمام البشرية حين تبيح لنفسها الخمر، وحين تبيح لنفسها أي أداء من أدواء المجتمع الكثيرة المتعددة.
وهو في الخمر يرتكز على أساس عصبي - جسماني - وعلى أساس نفسي كذلك .
كل شراب - بل كل دواء - ذي تأثير معين على الأعصاب، منبه أو مسكن أو مثير أو ملطف، يفقد أثره على الأعصاب بعد قليل، لأنها تتحصن ضده وتتبلد عليه. ويحتاج الإنسان - لا محالة - إلى زيادة الجرعة أو تغيير " الصنف " لكي يحس له بمفعول.
هذا من الوجهة العصبية. أما من الوجهة النفسية فهناك العادة. والنفس تستريح لما تتعود عليه - كذلك فطرها الله لحكمة هو عالمها - وتشتاق لما تعتاده من الحركات والأفعال والأفكار والمشاعر، فيلتقي تأثر الأعصاب ومتعة النفس على الأمر الواحد في اللحظة الواحدة، فيتجاوبان، ويدفع كل منهما الآخر ويقويه!
وهذا أمر ينطبق على كل شيء! حتى لقمة الخبز وجرعة الماء، وضجعة السرير وجلسة المقعد، وحديث الإنسان إلى نفسه أو حديثه إلى الناس، ورؤية فلان أو صحبة مكان أو ألف شيء من الأشياء!
ولكن بعض هذه الأمور تداوي نفسها بنفسها فتكون بمنجاة من الإدمان - بمعنى الإسراف المضر - كما أن بعضها لا يصل إلى حد الخطر ولو وصل إلى الإدمان!
الطعام والشراب عادة يتعودها الجسم وتتعودها النفس، من حيث الكم والأنواع والمواعيد. ولكنها - في الحالة السوية - تجد الفرامل الضابطة في إحساس الشبع وامتلاء الفراغ المحدود.
ومع ذلك فقد تنحرف إلى شَرَهٍ نَهِمٍ مسعور!
ولكنها ضرورة! لا تقوم الحياة إلا بها في حالتها المعقولة السوية.
ومن ثم أبيح القول المعقول، وحرم الزائد عن المعقول: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) ولم يجعل التحريم بتشريع لأن ذلك مستحيل. وإنما ترك أمره للتوجيه والتهذيب وخشية الله وتقواه.
والنوم والراحة عادة من حيث المواعيد والمقدار والطريقة والوسيلة - مترفة أو غير مترفة - ولكنها - في الحالة السوية - تجد فراملها الضابطة في النشاط الذي تحدثه، والرغبة الذاتية في تصريف هذا النشاط.
ومع ذلك فقد تنحرف إلى كسل وتراخ وفتور.
ومن ثم أبيح القدر المعقول - إن لبدنك عليك حقاً - وحرم الترف والتكاسل والقعود.
ورؤية الناس ومخالطتهم عادة. ولكن لها ضوابطها الذاتية التي تمنع الإسراف فيها - في الحالة السوية - وهي رغبة الإنسان في التقلب بين نزعته الفردية ونزعته الجماعية ليرضي هذه وتلك.
وإلف الأمكنة والأشياء عادة.. ولا ضرر في الإدمان عليها - ما دامت في ذاتها نظيفة - ومع ذلك فالملل، وهو عنصر بشري أصيل، يحد بطريقة طبيعية من الإدمان عليها والإسراف فيها..
ولكن الخمر وغيرها من الأدواء ليس كذلك!
حين يحدث الإدمان فليست له ضوابط. وكل شارب عرضة للإدمان. لأن الأعصاب ليست لها حصانة من تأثير السموم!
ومع ذلك فسنفترض أن أغلبية من الناس تستطيع أن تشرب دون أن تبلغ حد الإدمان - وهو قول غير صحيح في واقع الأمر - فمع ذلك ليس هذا بيت القصيد!
بيت القصيد هو الأجيال القادمة...
في مسألة الخمر بالذات، يقول الطب إن أبناء السكارى يولدون وفيهم استعداد موروث لشرب الخمر، ينتقل إليهم عن طريق النطفة قبل أن يملكوا لأنفسهم القياد! ومن ثم يصبحون في الكبر مدمنين!
ويقول علم النفس إن أبناء السكير يصابون باضطرابات نفسية وعصبية عنيفة تؤثر في مستقبل حياتهم. فالولد ينظر إلى شخصية والده على أنه المثل الأعلى الكامل الذي يتلبس به ويحاول أن يحتذيه. فإذا رأى في سلوكه خللاً فإن ذلك يحدث في داخل نفسه انقساماً بين شخصين كانا من قبل مؤتلفين بل متلابسين، هما شخصيته وشخصية والده. ومن ثم يحدث نزاع داخلي عنيف، ينتهي إما بانطواء الولد على نفسه واعتزاله الحياة الحية المتحركة، إما ببروزه في هيئة مجرم صغير، يحطم كل مقدس، ويلوث كل نظيف.
أما الفتاة فيصيبها صراع من نوع آخر ينتهي بها إلى كراهية الرجال جميعاً، والنفور في المستقبل من الزواج، وما يصاحب ذلك من عقد جنسية مختلفة، أو ينتهي إلى انحرافها الخلقي ووقوعها في مهاوي الرذيلة.
وسنفترض مرة أخرى أن ذلك كله لن يقع - وهو أمر غير صحيح!
سنفترض أن النطفة لم تنقل إلى الجنين عدوى الخمر وهو واغل في الظلمات الثلاث . وسنفرض أن الوالد لم يطع أولاده على سوء منه، فلم يعلموا أنه يشرب الخمر ولم يحدث في نفسهم الاضطراب.
يبقى بعد ذلك كله شيء لم تستطع اتقاءه الأجيال!
ما موقف الأب الذي يعاقر الخمر حين يعلم أن أبناءه قد وقعوا فيما وقع هو فيه من قبل؟
أيزجرهم؟ أم يرخي لهم العنان؟
ولماذا يا ترى يزجرهم وهو - بينه وبين نفسه - لا يؤمن بأن هناك ضرراً في الأمر؟ بل إنه ليؤمن أن تجربته الشخصية خير شاهد على ما يقول! ها هو ذا يشرب. فماذا حدث له؟ لم يبلغ حد الإدمان. لم يفصل من عمله نتيجة التأخر في الصباح أو الإهمال وشرود البال. لم يؤثر الشرب في مركزه الاجتماعي. لم تتلف أعصابه ولم تفسد قدرته على التفكير. وإنها كلها كأس بين الحين والآخر.. في الحفلات وفي الأفراح!! فما الضير على الأولاد إذا ساروا في نفس الطريق، وعند كبرهم " يعقلون " وتسير الأمور...؟!
هنا موطن الخطر لا يدركه الشارب في أول جيل!
إنه ينسى! ينسى أنه هو شخصياً قد نشأ في بيئة محافظة تستنكر الخمر وتَنْفر منها وتنَفِّر منها، وأنه نشأ وفي عقله الباطن فرامل قوية - مستمدة من هذه البيئة المحافظة - هي التي حالت بينه - دون أن يشعر - وبين الإسراف والإدمان. في أعماق نفسه شخص معنوي أو شخص مجسم، يمسك له العصا ويحذره، وينهال عليه ضرباً إذا تجاوز الحدود - في صورة تقريع الضمير.
وصحيح أن هذا الشخص لم يبلغ من القوة في نفسه أن يمنعه البتة، ولم يستطع أن يقفل عليه الطريق ولكنه مع ذلك موجود لا شك في وجوده. وله الفضل كله في الوقوف به عند درجة معينة لا تصل إلى الإدمان البغيض.
أما الأبناء فأين هذا الشخص في نفوسهم؟ من غرسه في أخلادهم وهم صغار؟
أبوهم؟ أو المجتمع الذي يسرح فيه آباء كأبيهم؟
كلا! لقد وجدت القدوة السيئة وانتهى الأمر، ثم لم توجد الزواجر التي منعت الجيل الأول من الإسراف!
أو قد توجد، ولكنها أضعف من الزواجر في أول جيل..
ومن ثم يشرب الأبناء فيسرفون عن ذي قبل، لأن الشخص الذي في نفوسهم، والعصا التي في يده لينة لا تترك أثراً في الضمير.
وينشأ بعد ذلك جيل ثم أجيال.. ويختفي رويداً رويداً ذلك الشخص من الضمير. ويندفع الناس بلا حاجز، ويسرفون بلا حدود.
تلك قصة الخمر على مدار الأجيال..
جيل متقيظ في أول الأمر، عيونه على الجريمة.
ثم أفراد يتسللون خفية من وراء الستار...
فإذا ظلوا في استتارهم، لا يتبجحون بالإثم ولا يسمح لهم المجتمع بذلك، فثم أمل بقاء المجتمع - في عمومه - نظيفاً من الجريمة فترة طويلة من الزمان. أما إذا أَمِنوا زجر المجتمع، فخرجوا من خفيتهم، وقعدوا على قارعة الطريق، فهنا ينشأ أول جيل منحرف. وهو انحراف بسيط في أول الأمر لا ينذر بالخطر ولا يبدو فيه النكير. ولكن الانحراف البسيط يمتد، كما يمتد ذراعا الزاوية من نقطة الصفر - نقطة الابتداء - حتى تنفرج الشقة ويبعد الذراعان..
والهاوية المحتومة في نهاية الطريق!

من كتاب قبسات من الرسول للشيخ محمد قطب رحمه الله
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.14 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 19.53 كيلو بايت... تم توفير 0.61 كيلو بايت...بمعدل (3.03%)]