قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : "إذا سمعت الله يقول : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] فأرعها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه"
___________________________________________
[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ] [البقرة : 104]
كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين : [ رَاعِنَا ] أي : راع أحوالنا، فيقصدون بها معنى صحيحا، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا، فانتهزوا الفرصة، فصاروا يخاطبون الرسول بذلك، ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة سدا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز، إذا كان وسيلة إلى محرَّم، وفيه الأدب، واستعمال الألفاظ، التي لا تحتمل إلا الحسن، وعدم الفحش، وترك الألفاظ القبيحة، أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لأمر غير لائق، فأمرهم بلفظة لا تحتمل إلا الحسن فقال : [ وَقُولُوا انْظُرْنَا ] فإنها كافية يحصل بها المقصود من غير محذور، [ وَاسْمَعُوا ] لم يذكر المسموع ليعم ما أمر باستماعه، فيدخل فيه سماع القرآن، وسماع السنة التي هي الحكمة، لفظا ومعنى واستجابة، وفيه الأدب والطاعة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله (1/148) : " نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص، عليهم لعائن الله، فإذا أرادوا أن يقولوا : اسمع لنا، قالوا : راعنا ، ويورون بالرعونة كما قال تعالى : [مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً] [النساء : 46] .
وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون : ( السام عليكم )، والسام هو الموت ولهذا أمرنا أن نرد عليهم ب ( وعليكم )، وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم علينا ، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا ".
وقال شيخ الإسلام عند هذه الآية ما مختصره (ص 22 ) : "قال قتادة وغيره : كانت اليهود تقوله استهزاء، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم ، وقال أيضا : كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه وسلم : راعنا سمعك، يستهزئون بذلك، وكانت في اليهود قبيحة" .
و هذه الآية من النهي : [لا تقولوا راعنا ]، يعني : لا تقولوا عند مخاطبة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : [راعنا] ، و [راعنا] من المراعاة ، و هي العناية بالشيء و المحافظة عليه .
و كان الصحابة إذا أرادوا أن يتكلموا مع الرسول -صلى الله عليه و على آله و سلم- قالوا : " يا رسول الله ، راعنا "، و كان اليهود يقولون : " يا محمد ، راعنا " ، لكن اليهود يريدون بها معنى سيئاً ، يريدون " راعنا " اسم فاعل من الرعونة ، يعني أن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله و سلم- راعن ، و معنى الرعونة : الحمق ، و الهرج .
لكن لما كان اللفظ واحداً و هو محتمل للمعنيين نهى الله عز و جل المؤمنين أن يقولوه تأدباً و ابتعاداً عن سوء الظن ، و لأن من الناس من يتظاهر بالإيمان -مثل المنافقين- فربما يقول : " راعنا " و هو يريد ما أرادت اليهود ، فلهذا نٌُهي المسلمون عن ذلك .
قوله تعالى : [و قولوا انظرنا ] يعني : إذا أردتم من الرسول أن ينتظركم فلا تقولوا [راعنا ] ولكن قولوا : [انظرنا ] : فعل طلب ، و " النظر " هنا بمعنى الانتظار ، كما في قوله تعالى : [هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ] [البقرة : 210]، أي ما ينتظر هؤلاء.
قوله تعالى : [واسمعوا ] فعل أمر من السمع بمعنى الاستجابة ، أي اسمعوا سماع استجابة و قبول ، كما قال تعالى : [وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ] [الأنفال : 21]، يعني اسمعوا ما تؤمرون به فافعلوه و ما تنهون عنه فاتركوه .
قوله تعالى : [وللكافرين عذابٌ أليم ] المراد بـ " الكافرين " هنا اليهود ، و "عذاب " بمعنى عقوبة و " أليم " بمعنى مؤلم.