تتمة المعلومة الاولى
ثمرات التدبر.
1- حصول اليقين في القلب، كما قال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ} [سورة الجاثية 20]، فمن قرأ القرآن بتدبر وتأمل حصل له اليقين التام؛ لأن القرآن كالماء العذب، والقلب كالشجرة التي لا تستطيع أن تعيش وتنمو إلا بهذا الماء، فالقلب كلما تفكر في معاني كلام الله حصل له الري والشبع، والنمو والاستقرار، والثبات والعلو، ولَمَّا علم الله حاجة القلب إلى مثل ذلك كرر هذه المعاني الشريفة في كتابه، ونوع في بيانها، وضرب لها الأمثال، وصرف فيها من أنواع القول ما يحصل به للقلوب المتدبرة حياة لا تموت معه أبدًا.
2- زيادة الإيمان، قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)} [سورة التوبة 9/124]، وإنما ازداد المؤمنون إيمانًا بسبب فهمها، واعتقاد ما فيها، والعمل بها، والرغبة في فعل الخير، ثم مع ذلك مستبشرون، يبشر بعضهم بعضًا بهذه المنة العظيمة، من إنزال الآيات وفهمها، والعمل بها، مما يدل على أن صدورهم منشرحة، وقلوبهم مطمئنة، فيبادرون إلى العمل مع فرح واستبشار.
أما المنافقون، ومن في قلوبهم مرض؛ فبسبب إعراضهم عن الفهم والتدبر يسأل بعضهم بعضًا أيكم زادته هذه إيمانًا؟! فلا يرون في هذه الآية زيادة إيمان، بل ربما زادتهم شكًا إلى شكهم، ومرضًا إلى مرضهم، بسبب إعراضهم عن فهمها وتدبر معانيها.
3- حصول العلم الصحيح، ودفع الشبه عن القلب، قال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ (44)} [سورة فصلت 41/44]، أي هذا القرآن يهدي المؤمنين إلى العلم الصحيح، الذي يثمر لهم العلم النافع، ويدفع عنهم أمراض القلوب والأبدان، فلا يكون في قلوبهم شك ولا ريب؛ لأنهم فهموا مراد الله، وعرفوا مقصوده؛ فاندفعت عنهم الأخلاق السيئة، والأعمال القبيحة.
4- الإعراض عن الدنيا، والتعلق بالآخرة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)} [سورة التوبة 9/38]، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} [سورة طـه 20/131]، قال الحسن : "يا ابن آدم: والله إن قرأت القرآن ثم آمنت به ليطولن في الدنيا حُزْنُك، وليشتدَّنَّ في الدنيا خوفُك، وليكثُرَنَّ في الدنيا بكاؤك".
5- معرفة حقيقة الدنيا، وأنها ظل زائل، ما جمعت إلا لتفرق، وما أضحكت إلا لتبكي، وما أعطت إلا لتسلُب، كثيرها قليل، قال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [سورة يونس 10/24]
6- الاعتصام والاجتماع في مقابل الفرقة والتشرذم، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)} [سورة آل عمران 3/103].
7- الشعور بالأمن من المخاوف والعذاب والشقاء، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)} [سورة الأنعام 6/82].
8- حصول الرهبة والخوف، ثم الرجاء والطمأنينة، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [سورة الزمر 39/23]، فحين نسمع آيات الوعيد والتهديد، يحصل للقلوب قشعريرة وخوف، تخشى أن يقع بها هذا الوعيد؛ فإذا سَمِعتْ آيات الوعد والترغيب حصل لها اللين والاطمئنان، وهذا من هُدى الله الذي يهدي به من يشاء.
صوارف التدبر.
1- القلوب اللاهية، فالقلب اللاهي هو الغافل، المنشغل بدنياه، الغارق في مطالبه الدنيوية، وهمومه المعيشية، فهؤلاء يستمعون القرآن بآذانهم، ولكنه لا يصل إلى قلوبهم؛ لانشغالها بأمور أخرى، قال تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3)} [سورة الأنبياء 21/2-3].
2- الأقفال على القلوب، كما قال تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25)} [سورة الأنعام 6/25]، وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57)} [سورة الكهف 18/57]، وقال تعالى {أفلا يتدبرون القرآن، أم على قلوب أقفالها}.
وإنما عاقبهم الله بوضع الأغلال على قلوبهم لأنهم لم يقصدوا باستماعه طلب الحق ومعرفته، والعمل به، ولأنهم كفروا به أول مرة، ولِمَا وقع في قلوبهم من حب المعاصي والتعلق بها، والركون إلى الدنيا والرضى بها، والاطمئنان إليها.
إن من أخطر الأمور أن يتعلم المسلم العلم ثم لا يعمل به، أو يداهن في الدعوة إليه، أو يُعرِض عنه بعد ذوقه لحلاوة الإيمان، قال أبو العباس محمد بن السَّمَّاك: "كم من شيء إذا لم ينفع لم يضر، لكن العلم إذا لم ينفع يضر"(12).
إن كل من قرأ القرآن، ولم يتذوق حلاوته، ولم يجد في قلبه إقبالاً على الطاعة، وحبًا لها، ولم يفهم مراد الله حق الفهم، فليعلم أن على قلبه أقفالاً، وأنه قد حيل بينه وبين الخير، فليتفقد نفسه، وليراجع واقعه.
3- التنطع في إقامة الحروف، والوسوسة في إخراجها من مخارجها. قال ابن تيمية(13): "ولا يجعل همته فيما حُجِبَ به أكثرُ الناس من العلوم عن حقائق القرآن؛ إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها، والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك؛ فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شُغْلُ النطق بـ {أأنذرتهم} وضم الميم من (عليهم) ووصلها بالواو، وكسر الهاء، أو ضمها، ونحو ذلك، وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت، وكذلك تتبع وجوه الإعراب واستخراج التأويلات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالبيان".
فكل هذه الأمور مَنْ تجاوز فيها الحد فقد خرج عن المقصود منها؛ لأن المقصود هو فهم المعنى، وهي وسيلة إليه؛ فإذا انشغلنا به فقد اشغلنا عن المقصود بالوسيلة.
لكن من الناس من إذا سمع هذا الكلام ترك تعلم التجويد بالمرة، ولم يلتفت إلى الحِلَقِ التي تُعلِّم القراءة الصحيحة، وانشغل بأمور أخرى، وإذا قرأ لا يحسن القراءة، ويلحن لحنًا جليًا يحيل المعنى، ويحتج بمثل هذا الكلام، وهذا خطأ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذرنا من الغلو والجفاء، فالغلو هو المبالغة في تعلم المخارج وضبطها، والجفاء هو الإعراض مطلقًا عن تعلم ذلك، والتوسط والاعتدال هو تعلمها بما يعين على إقامة اللسان، وعدم الوقوع في الخطأ، ثم يجعل همته في تفهم معانيه.
4- جعل القرآن للأحزان والمآتم، فيقرأ القارئ، والناس لاهون، وإذا أصغوا بآذانهم فإنما يدفعهم لذلك حسن الصوت، أما المعنى وتدبر ما يقرأ فلا يحصل منه شيء، ولهذا لما توفي ابن أحد العلماء سنة عشر وخمسمئة، وعمر هذا الابن سبعٌ وعشرون سنة، وكان قد تفقه وناظر في الأصول والفروع وظهر منه أشياء تدل على دينه وخيره حزِن عليه أبوه، وصبر صبرًا جميلًا، فلما دُفِن جعل يتشكر للناس، فقرأ قارئ: {يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين} فبكى هذا العالِم، وبكى الناس، وضج الموضع بالبكاء؛ فقال العالم للقارئ يا هذا: إن كان يهيج الحزن فهو نياحة, والقرآن لم ينزل للنوح بل لتسكين الأحزان(14).