لِبغداد العراقِ دموعُ صَبٍّ======على عَرَصاتها دنـيا غَرامَا
تُذكِّــركَ الرُّبوع حياةَ قـومٍ======هُمُ كانــوا لدنيــانا قَـــوامــا
اجتمع أربعة أدباء , نجباء , خطباء , فتعاهدوا , و تعاقدوا , و تواعدوا , على أن يصفوا بغداد
دار الأمجاد , و بيت الأجواد , و كوكبة البلاد .
فالأول: وصف علماءها , و فقهاءها .
و الثاني : وصف خلفاءها , و أمراءها .
و الثالث : وصف شعراءها , و أدباءها .
و الرابع : وصف أرضها , و سماءها , و ماءها , و هواءها , و بهاءها .
فبدأ الأول و يدعى أبا قتادة , و هو صاحب ذكاء و إجادة , و علم و إفادة .
فقال : والله لو كتبت بدمع العيون , على صفحات الجفون , ما أنصفت بغداد على امتداد القرون ,
لكن سأصف ما كان فيها من علم و علماء , بلغ مجدهم الجوزاء :
ما الـدَّارُ بـعـدك يا بغدادُ بالــــــدَّار ****** تفـنى عليك صَبَاباتي و أشعاري
أنت المُنَى و حديثُ الشوق يقتلني ****** من أين أبدأ يا بغداد أخبـــــــاري
و لكن أقول , بعد الصلاة و السلام على الرسول : اعلم أن من بغداد أشرقت شمس الرواية , و بزغ فجر الدراية ,
كانت في العلوم آية , و في الفنون غاية , فكان بها أهل الحديث , و لم يكن بها أي خبيث .
و لك أن تتخيل مجلس أحمد بن حنبل , عمائم بيضاء ,و همة قعساء , و سكينة و حياء.
إذا قال أحمد : حدثنا أو أخبرنا , أطرقت الرؤوس , و خشعت النفوس , و تفتحت أبواب السماوات , و تنزلت الرحمات .
سَقَوني و قَالُوا لا تُغنِّ و لو سَقَوا ****** جبــالَ سُلَيمَى مــا سُقِيتُ لَغَنَّــتِ
ثم تذهب إلى مجلس فيه طائفة من الخاشعين , فتجد وسطهم يحيى بن معين ,يحدث عن رسول رب العالمين ,
يجرح و يعدل , و يجمل و يفصل , كأنه ميزان منزل .
لَوْ حَلَّ خَاطِرُهُ في مُقْعَدٍ لَمَشَى ****** أو مَيِّتٍ لصَحَا أو أخرَسٍ خَطَبَا
و لله كم من ذكريات تشجيني , إذا ذكرت علي بن المديني , ذاك البطل , إمام العلل , السليم من الزلل , فتراه يفتش
الأسانيد , وينخل المسانيد , بفهم دقيق , وعلم و تحقيق , يعرف العلة في المسند المستقيم , كما يعرف الطبيب السقيم .
بِرَأي مثل ضوءِ الفجرِ ضَاف ****** كأنَّ بريـــقَهُ حَـدُّ الحُــسَـــــامِ
و لا تنس البخاري , الضياء الساري , و النهر الجاري , قيَّد الألفاظ , و أفحم الحُفَّاظ , إن شك في حديث علقه , و إن
طال متنه فرقه , و إن لقي كاذبا مزقه , هو السيف الحاسم , لسنة أبي القاسم , اقرأ تبويبه , و افهم ترتيبه , لترى كل عجيبة.
من كالبخاري إذا قال حــــــدَّثنا ****** أو بَوَّب البابَ أو شدَّ الأســـانيـدا
كأنــــما هـــو إلـــهــامٌ يُعَــلَّـــمُهُ ****** أو أنه قــبسٌ يُـعــطــَاهُ تأيـــيـــدا
بغداد تشرّفت بالسّفيانين الثوري و ابن عيينة , و أصبحت بالعلماء أجمل مدينة , و هي مدينة الكرخي معروف ,
و الإمام الشافعي المعروف .
من بغداد أصحاب الصحاح و السنن , و أهل الذكاء و الفطن , و هي للحديث دار الضرب و الصلب , بها تضرب
الموضوعات للوضاعين , و لكن تصلُب الكذابين على خشب السلطان المتين , قال بعضهم : من لم يدخل بغداد لم
يدخل الحياة الدنيا , و من لم يشاهد حسنها ما شاهد النجوم العليا .
فقام الثاني يصف الخلفاء و الأمراء , الذين ملؤوا الدنيا بالعطاء و السخاء . فقال : هذه مدينة السفاح , الذي خضب
السيوف و الرماح , و كان لكل مجرم بطاح , و لكل عدو نطاح .
هذه مدينة المنصور , صاحب الدور و القصور , الداهية الجسور , و الأسد الهصور.
هذه مدينة الرشيد , صاحب القصر المشيد , و المجد الفريد , و الصيت البعيد .
هذه مدينة المأمون , صاحب الفنون , و جامع المتون , و لكنه بالفلسفة مفتون .
هذه مدينة المعتصم المغوار , الذي أوطأ الخيل أرض الكفار , و أورد نحورهم كل بتار .
بغدادُ أنت حديثُ الدهر و الأممِ ****** إذا مَدحْتُكِ سال السحرُ من قلمـي
أنت المنى أنت للتاريخ مـلحـمـةٌ ****** كم من رشيدٍ و مأمونٍ و معتصمِ
ثم قام الثالث يصف الأدباء , و يثني على الخطباء .
فقال : في بغداد أكبرناد , للشعراء الأجواد , إذا شرب الشاعر من ماء الفرات , أتى بالمعجزات ,
و خلب الألباب بالأبيات , سمّ لي شاعرا ما دخل بغداد , اذكر لي أديبا ما تشرف بتلك البلاد .
بغداد يا فتنة الشــرق التي خلبت ****** بسحرها العقل و الأقلام و الأدبا
مــاذا أردد يا بغداد من حزنــــي ****** إذا ذكرتك بــعــت الهم و الـنصـبا
من بغداد أبو تمام , و البحتري الهمام , و ترنح بها المتنبي بعض عام .
سجل بها ابن الرومي رواياته , و أبدع إلياذاته , و أروع أبياته .
و في بغداد أبو العتاهية , الشاعر الداهية , منذر القلوب اللاهية , و صاحب الرسائل الباهية , الآمرة الناهية ,
و هي أرض بشار , ناسج أجمل الأشعار , و المفتون بعبادة النار .
من بغداد انطلقت في البحار و البراري , رائعة ابن الأنباري : علو في الحياة و في الممات . من بغداد
استمع الدهر في عجب , لدويّ : السيف أصدق أنباء من الكتب .
بغداد مهرجان أدبي كبير , لكل أديب نحرير , فيها شعر و نثر , و حصباء و در , و صديق و زنديق , و حر و رقيق ,
و موحد و ملحد , و حانوت و مسجد , وبارة و معبد , و مقبرة و مشهد , جد و هزل و حب و غزل , كأن التاريخ كله
في بغداد اجتمع , و كأن الدهر لصوتها استمع , و كأن ضوء الشمس من بغداد يرتفع .
فقام الرابع فقال : كأن الأرض أخذت من بغداد جمالها , أفدي بنفسي سهلها و جبالها , دجلة له خرير , و الفرات له هدير , و النسيم فيها له زئير , كأن الهواء
سرق من المسك أريجه , و كان الماء أخذ من العاشق نشيجه .
تغار من زهر بغداد الزهراء , و تحمر خجلا من حسن بغداد وجنتي الحمراء .
كأن السحاب في سماء بغداد مع الشفق خضاب , و كأن بريق الفجر في مشارف بغداد ذهب مذاب , كان وجه
بغداد مشرقا , فلما دخلها الرفاق , كتب على بغداد الشقاء و الإخفاق .
لله يا بغــداد أنـــت نــشـــــيــــــدة ****** غنت بك الأعصار و الأمصـــار
من لم يــشـــاهــد ذا الجمــال فإنه ****** ضاعت عليه مع المدى الأشــعار
أظن بغداد أصابها عين أو دخلها لعين , ما لها قتلت المبدعين , و طردت اللامعين ؟
من ذا أصابك يا بغداد بالعين ****** ألم تكـــوني زمــاناً قرَّةَ العينِ ؟
و أنا عاتب على بغداد , و العتاب لا يغير الوداد ,لأنه جلد بها أحمد , و قتل بها أحمد , و أكرم بها أحمد .
فجلد بها أحمد بن حنبل , الإمام المبجل , و قتل بها أحمد بن نصر الخزاعي , الإمام الواعي ,
و هو إلى الحق داعٍ , و إلى البر ساعٍ ,و أكرم بها أحمد بن أبي دؤاد , داعية البدعة و العناد , و الفتنة و الفساد .
لكن بغداد لها حسنات يذهبن السيئات , و نهر الفرات و دجلة يطِّران من الحدث ,
و إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
منقول من كتاب مقامات عائض القرني
للدكتور الأديب عائض القرني...مع رجائي بأن تعجبكم.