طلائع الدجال وطلائع الطائفة المنصورة:
أعود لما ذكرته من أن بعض أخبار الغيب ليست قدراً ينتظر بقدر ما هي شرع يُمتثل ويُستحضر، لأُذكِّر أيضاً بأن الأحاديث الدالة على بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق، والمستوجبة لفرضية السعي لتكوينها أو تطـويـرها أو الالتحاق بها ـ هي نفسها الأحاديث التي يدل بعضها على أن وجود هذه الطائفة سيتركز ـ كلما تقارب الزمان ـ في بيت المقدس وما حوله، كما أخبر النبي في إحدى روايات ذلك الحديث؛ حيث سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مكان وجود هذه الطائفة فقال: «هم ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس»(22).
إن هناك دلائل وقرائن كثيرة تدل على أن الفصائل المجاهدة في فلسطين اليوم وما حولها هي طلائع ومقدمات هـذه الطائفة المنصورة المذكورة في الأحاديث، كما أن هناك دلائل وقرائن على أن عصابات اليهود الموجودة الآن في فلسـطين ومـا حولها هي طلائع دولة الدجال العالمية التـي لا يعلـم إلا الله متـى ستـقع فتنتـها، والتي لن تعـمر كثـيراً ـ بإذن الله ـ كما دلت الأحاديث. لكن مقصودنا في هذا المقال ليس في الجدال حول تفاصيل هذا النزال المستقبلي والحتمي، ولكن النقاش في مقدماته وإرهاصاته التي يأتي على رأسها: الجواب على سؤال: كيف يستجمع المجاهدون في بيت المقدس وما حوله أوصاف تلك الطائفة المنصورة؟
لتلك الطائفة خصائص وصفات لا بد أن يتمثلها اليومَ كل المجاهدين، وبخاصة في فلسطين التي تأخر النصر فيـها كثيـراً بسـبب اخـتلاف الرايـات والزعـامات والمناهج. ومع أن كثيراً من صفات وخصائص الطائفة المنصورة بدأ يتجمع ويتوزع على فصائل المجاهدين بمجموعها، غير أننا نرى أن من المهم تكرار استحضار هذه الصفات؛ ليتعلم متعلم، ويتذكر متذكر، ويعود عائد، علماً بأن تلك الخصائص قابلة للتحقق في أي طائفة تقوى على استجماعها في نفسها؛ لأنها في الأصل تكاليف شرعية موجهة إلى عموم الأمة الخيرية في صورة فروض تُؤدى، وواجبات تُقام، وأخلاق تُلتزم، يفوز بفضلها من استقام عليها. وأهم هذه الخصائص والصفات:
1 ـ الاستمساك بالحق: لوصف النبي أهل هذه الطائفة بأنهم «على الحق ظاهرين»، أو «ظاهرين على الحق». ومعنى ظهورهم على الحق: التزامهم الظاهر بالدين كتاباً وسنة، على أُسس النهج القويم المبني على الدليل الشرعي الصحيح، والتوجه القلبي السليم؛ إخلاصاً لله، واتباعاً لرسول الله؛ فالاتباع والإخلاص هما ركنا قبول الأعمال، كما قال الله ـ عزَّ وجلّ ـ: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِـحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
وهنا لا يمكن أن نتصور أن يتنزَّل النصر والتمكين على غير المنتسبين للحق من أصحاب الرايات الضالة؛ قوميةً كانت أو بعثيةً أو يساريةً أو ليبرالية، أو على أي صيغـة علمانـية لا دينية، وكذلك لن ينتصر الدين القويـم أو يتمكن بطائفة ضالة خارجة في مُعتقدها عن منهاج الفرقة الناجية المتبِّعة لمنهاج الصحابة؛ إذ إن الوصف الرئيس لطائفة الحق المنصورة هو ما أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «ما أنا عليه وأصحابي»، أما الذين يُكفرون الصحابة بدلاً من تعظيمهم والتزام هديهم، مع الادعاء بتحريفهـم للوحـي كِتـابـاً وسنة؛ فإنهم ـ وإن أحرزوا الغلبة في بعض الجولات ـ فإن هذا لا يُعدُّ نصراً للدين، وإن ادعى أصحابه أنهم (حزبُ الله)، أو تلقب زعيمهم بـ (نصر الله).
2 ـ القيام بالحق : فالطائفة المنصورة لا تلتزم بالحق فقط اعتقاداً أو تصديقاً، بل تقوم به تنفيذاً وتطبيقاً، ولهذا جاء وصفُ هذه الطائفة بأنها «قائمة على الحق، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»(23). ومعنى ذلك أنهم أهل استقامة ظاهرة كما أنهم أهل سلامة باطنة، وأن دينهم دعوة يحملونها ويدعون الناس إليها؛ أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، لا يخشون في الله لومةَ لائم، وهم على هذا يجتمعون، وحوله يتحزبون.
{أَلا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]. فالقـيام بـأمـر الـديـن، هـو المـهـمــة العـظـمــى للرسل وأتباع الرسل، قـال ـ تعالى ـ: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْـكَ وَمَا وَصَّيْـنَا بِهِ إبْرَاهِيـمَ وَمُوسَـى وَعِيسَـى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
3 ـ الدفاع عن الحق : فالطائفة المنصورة لا تعتقد الحق نظرياً فقط ولا تمتثل له عملياً فحسب، وإنما تُدافع عنه وتبذل دونهُ المُهَج والنفس والنفيس؛ فمن أبرز خصائص أهلها المذكورة في الحديث أنهم: «يُقاتلون على الحق»(24)، وفي رواية: «يُقاتلون على أمر الله»(25). وهو قتال في الميادين، وليس فقط على صفحات الكتب والدواوين: «يُقاتلون على أبـواب دمـشق ومـا حـولـه وعلى أبـواب بـيـت المـقـدس وما حولها»(26) فهي طائفة علم وعمل، جدالاً بالحق وقتالاً على الحق، وسيظل هذا شأنهم حتى تضع الحرب أوزارها في آخر الزمان، كما دل على ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : «حتى يُقاتل آخرهم المسيح الدجال»(27).
4 ـ الظهور بالحق: فوصفُ النبي لهم بأنهم «على الحق ظاهرين»، يفيد معاني زائدة عن معنى الاستمساك بالحق، وهذه الصفة تحتمل ثلاثة معانٍ:
أولها: أنهم بارزون للناس، معروفون بهويتهم المنهجية الثـابــتة على الحـق والمقـاتلة علـيه، دون مهادنة عاجـزة أو مداهنة فاجرة.
وثانيها: ظهور حجتهم على الناس؛ فهم منصورون بالحجة والبيان، قبل نصرهم بالسيف والسنان.
وثالثها: أنهم في موقع الغلبة والعلو والتمكين بهذا الحق ومن أجله.
والواضح أن الظهور بالمعنى الثالث هو ثمرة الظهور في المعنيين الأولين. والثابت في ذلك أن الطائفة المنصورة، وإن اختلفت درجات ظهورها من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، غير أنها تستعصي على القهر والزوال والاختفاء علمياً وعملياً.
5 ـ المصابرة على الحق: فالصفات السابق ذكرها تُبيِّن كلها أن أهل الطائفة المنصورة يأخذون أنفسهم بالعزيمـة ويـتـواصـون فيـما بيـنـهـم بالثـبـات، وهـذا ما لا يستطـيعه المخـذولون المُخـذِّلون، الذين لا يلقى المجاهدون منهم إلا التحبيـط والتثـبيط، بـل الوشـاية والتــشـويــه، أمـا شـأن المنـصـوريـن حـيال ذلك فإنـهـم ـ كما أخبـر النـبي صلى الله عليه وسلم ـ «ولا يُبالون من يخالفهم»(28)، «ولا يضرهم من خذلهـم»(29)، ويستمرون على نهج المصابرة والمرابـطـة، امــتثــالاً لقـول الله ـ تـعـالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200].
6 ـ البقاء على الحق : فالطائفة المنصورة قديمة الوجود، لم ينقطع وجودها عبر مراحل رسالات السماء، ولن ينقطع حتى تقوم الساعة؛ ففي كل الأجيال والقرون الإنسانية كانت هناك دائماً بقية تمثلها هذه الطائفة النقية، {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } [هود: 116]، وهي امتداد للفرقة الناجية في كل ملة، كما دل على ذلك حديث افتراق الأمم الثلاث إلى أكثر من سبعين فرقة من كل ملة، ليس في كل منها إلا فرقة واحدة ناجية. وأول أجيال الفرقة الناجية في هذه الأمة هم أصحاب النبي الذين يُمثلون ذروة الخيرية في الأمة الخيرية، والمخبرون بأنهم خير القرون.
وقد استلزم هذا أن يكون شرط تعظيم الصحابة والاقتداء بهم أبرز شروط الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، التي سيظل أهلها يتعاقبون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «حتى يُقاتل آخرهم المسيح الدجال»(30) و«حتى تقوم الساعة وهم على ذلك».
إن المهام الجسام الملقاة على عاتق جيل النصر، القادم قريباً، ليست خاصةً بحماس وحدها أو غيرها من المنظمات الجهادية الفلسطينية، بل ليست خاصةً بالفلسطينيين وحدهم، ولا بالعرب دون غيرهم، بل إنها مهام كل إنسان رضي بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً وسولاً؛ فمجموع هؤلاء ـ وإن كانوا متفرقين في أنحاء العالم ـ هم الذين اليوم، وغداً، سيُمثلون تمكين تلك الطائفة واقعاً محسوساً، بعد أن كان أملاً .
ويظل البقاء القدري للطائفة المنصورة مُسهِّلاً عملية بعثها ولمَّ شعثها وتوحيد صفها.
ولهذا نقول: إن إعداد أو استعداد أي طائفة مسلمة في أي عصر من العصور، وفي أي مكان من الأمكنة، لأَنْ تكون مستوفية لخصائص الطائفة المنصورة ـ لَهو أمرٌ مقدور شرعاً ومشروع قدراً، كيف لا وكل خصائص الطائفة المنصورة ما هي إلا تكاليف شرعية وواجبات دينية، يُعرِض عنها الأكثـرون، ويَتَشبث بها الأقلون، الذين يتعوض ضعفهم العددي والعـتادي بقـوتهـم العملية والعلمية؛ كما حدثت بذلك السنة الإلهية التي جاء الإخبار عنها في قول الله ـ تعالى ـ: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]؟!
إن الطائفة الصابرة المنصورة التي سيُقاتل آخرها المسيح الدجال تواجه اليوم مسؤولية الوقوف أمام دجاجلة العصر الذين يمهدون الطريق للدجال الأكبر، وليست مواجهة الدجال على أبواب بيت المقدس غداً بأولى من مواجهة طلائعه من الكفار والمنافقين داخل بيت المقدس اليوم.
[] اختصار خطوات الانتصار:
لديَّ يقين يتأكد على مر الأيام والسنين، وهو أن الاستقامة على منهاج الله تختصر المسافات وتطوي المراحل وتوفر وقت التجارب أمام المؤمنين، في أي نوعٍ من أنواع المواجهات والصراعات التي يخوضونها؛ فالتخبط المنهجي، والدَّخَنُ العقدي، والاضطراب القيمي والسلوكي..، كل ذلك يُؤخر النصر ويُعقد القضايا ويُطيل من عمر الأزمات، ولنا في هذه القضية بالذات ـ قضية فلسطين ـ أعظم العظة والعبرة؛ فليس أكثر من الحق فيها وضوحاً، وليس أشد من الأعداء فيها ظهوراً، وليس أعظم من المتعـاطفين والأنصار لها حماساً وعدداً، ومع هذا وعبر أكثر من مائة عام ـ هي عُمر القضية ـ منذ وُضِع كتاب (الدولة اليهودية)(31).
فإن ما سُمي بـ (أزمة الشرق الأوسط)، كانت ولا تزال، أعقد وأطول وأكثر أزمات العصر استعصاءً على الحل والحسم، في حين أن أزمات احتلال غيرها بدأت وانتهت، وأخرى كادت تنتهي في سنوات معدودة وأزمنة محدودة، وآخر ذلك ما حدث في العراق، الذي لم يمر على احتلاله إلا أربع سنوات ونيف، ومع ذلك فإن الطريق إلى قهر العدو المحتل فيه قد اختصر اختصاراً؛ مع ضخامة العدو، وضآلة العون، وضحالة الإمكانات لدى المجاهدين، إلا من مدد النصر الإلهي المبين!
الأمة في حاجة إلى استحقاق العون الإلهي لطلائع الطـائفـة المنصـورة على أرض بيـت المقـدس، كما رأيـنـا ذلك العــون لطـلائـعـه عـلـى أرض الـعـراق: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَـن يَنصُـرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَـوِيٌّ عَـزِيــزٌ * الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْـمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْـمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 40 - 41].
|