وظائف العشر الأواخر من رمضان - الجزء الأول
أهمية أيام العشر الأواخر من رمضان.
وظائف العشر الأواخر:
التوبة والاستغفار وإصلاح الباطن.
الاعتكاف وإحياء الليل واعتزال النساء.
إيقاظ الأهل لتصيبهم نفحات الرب عز وجل.
الاجتهاد فيها ما لا يجتهد في غيرها.
تزيين الظاهر والباطن لله سبحانه وتعالى.
الوصال حتى السحر .
الاجتهاد الزائد في نهاية هذه الأيام .
الاهتمام بأن تقع أعمالهم في محلّ قبول الرب عزَّ وجلَّ.
----- أهمية أيام العشر الأواخر من رمضان وشعار المؤمنين فيها ------
دخلت أيام العشر من رمضان، وجاءت أعظم أيام المجاهدة؛ حيث ينتظر المتقون جائزة الرب، وجاء الاعتكاف، فاجتمع للمجاهدة فضل الوقت، وفضل العمل معاً, لذلك كانت لهذه الأيام وظائف مخصوصة ينبغي أن تجتمع مع تلك الوظائف التي بدأها المؤمنون من أول رمضان.
إن هذه الأيام العشر وهذه الليالي العشر هي بداية المجاهدة مرة أخرى، بداية العودة مرة أخرى إلى أن يتململ المرء بين يدي ربه، وأن يبذل له، وأن يري ربه منه ما يكون سبب رضا الله عنه، وسبب فتح الله عليه، وسبب جود الله تعالى عليه، وسبب محبة الله له، وسبب إقبال الله عليه، وسبب انتشال الله جل وعلا له مما هو فيه، سبب حفظ الله له، وسبب دفاع الله عنه، وسبب مدد الله جل وعلا له, هذه الأيام هي أيام ذلك، فإذا كانت قد فاتتك كل ما سبق من الأيام، ولم تشعر فيها بما ينبغي مما أشرنا إليه، فإن الله تبارك وتعالى بكرمه وجوده ومنه وفضله ما زال يفتح لهؤلاء المؤمنين، هذه الليالي وتلك الأيام، ليستعيدوا فيها قوتهم ويجددوا فيها نشاطهم ويقبلوا فيها على ربهم وينتظروا فيها جائزة الرب سبحانه وتعالى، فكلما دنت الأيام على الانتهاء، وكلما قرب ظهور النتيجة ازداد اجتهاد المرء وازداد قربه، يود أن تظهر نتيجته تبيض وجهه، يود أن تكون نتيجته حسنة وعاقبته الحسنى في هذه الأيام وألا يخيب ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، رَغِمَ أَنْفُ امْرِئٍ أَتَى عَلَيْهِ رَمَضَانُ، أَبْعَدَهُ اللَّهُ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ، قُلْ: آمِينَ، قُلْتُ: آمِينَ » ([1]).
وهذا الجد وهذا الاجتهاد مما ينبغي أن يكون شعار المتقينالذين يريدون ألا يمر عليهم رمضان إلا وقد أخذوا جائزتهم، ألا يمر عليهم رمضان مرغومو الأنف ينتظرون رمضان الآخر بهذه الوسيلة السيئة من وسائل الشيطان، وإنما تطول مواصلتهم على هذا الحال ؛ ليحققوا جائزة ربهم سبحانه وتعالى، وليفوزوا بمغفرته فإذا ما عيَّدوا كان حقا لهم أن يُعيدوا ساعتها، وإذا أفطر فرح كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : « لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى فَرِحَ بِصَوْمِهِ» ([2]) وجد هذا الصوم الذي كانت عاقبته المغفرة والعتق من النار وجده يشفع له يوم القيامة، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم يدخل الصائمون من باب الريان حتى لا يدخله غيرهم.
جاءت هذه الأيام ومازال الشعار الذي قد رفعناه - وهو التصميم على تحقيق أسباب المغفرة - مازال قائماً، وأن يبذل المرء فيه ما يُرِى اللهَ تبارك وتعالى منه حسن الأداء وحسن الإقبال، ويرى الله تبارك وتعالى فيه الصدق والعمل والإخلاص، ويُرِى اللهَ تبارك وتعالى كأنه حزين على ترك هذا الإقبال على ربه، وحزين على ترك هذا البذل، أو حزين على ضعف هذه الهمة، وفصم هذه العزيمة، والإرادة في الإقبال على الله تعالى، وأنه يود أن تتوجه هممه كلها، وأعماله كلها، وأقواله كلها في ظاهره وباطنه إلى رضا ربه ومحبته والتعلق به إلى أن يكون مستعدًّا لآخرته، مقبلا على ربه يحسن جهاده، وسيره له ويحاول البذل مما أعطاه الله تعالى من مال وجهد ووقت وصحة وفراغ وجاه وسلطان ؛ ليكون ذلك كله في عمله لله فيزداد منه في الأولى والآخرة: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم: 7], زاهدًا في الدنيا، راكنًا إلى الآخرة قد تجافى عن دار الغرور، وظهرت عليه تلك المحاب والرضا لله جل وعلا.
----- وظائف العشر الأواخر:-----
لذلك كان ينبغي لهذه الأيام أن تبدأ بالتوبة والاستغفار وإصلاح الباطن، وأن يستمر ذلك فيها، ليهيئ المرء نفسه وقلبه لجائزة الله تبارك وتعالى، وأن يصلح ما فاته من هذه الأيام التي تكاسل فيها، وتباطأ فيها، والتي انشغل فيها عن الله جل وعلا والتي شملت الغفلة فيها أحواله وأفعاله، والتي لم يحصل فيها من قرآنه وذكره ما يملأ قلبه نورا وإيمانا، وما يربطه على هذا القلب ويثبته، ويجد نفسه مقبلا على الآخرة لا تؤثر فيه الشهوات، ولا تؤثر فيه الشبهات، يجد نفسه ثابتًا قويًّا راسخًا في أقدامه في السير إلى الله تبارك وتعالى، لا يجد نفسه مطية للشيطان والهوى، وما زال مترددًا، و منفرط العقد والشمل، لا، وإنما ينبغي أن يرى نفسه على هذا الحال الذي يحبه ربه جل وعلا، لذلك كانت هذه العشر هي الفرصة الأخيرة التي ينبغي أن يتفكر الناس في أن الله تعالى فتحها لهم، ويوشك أن تنتهي كما انتهى رمضان من قبل.
----- الاعتكاف وإحياء الليل واعتزال النساء ------
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأيام أنه: «كَانَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ » ([3]) هذه مهماته ووظائفه في العشر صلى الله عليه وسلم، كان إذا دخل العشر جد صلى الله عليه وسلم وشد المئزر وأحيا الليل وأيقظ أهله، كل ذلك كان يحققه صلى الله عليه وسلم بالاعتكاف إلى الله جل وعلا.
بأن يعتكف قلب المرء وقالبه وجسده على ربه سبحانه وتعالى, وأن يمتنع من مخالطة الناس، وألا يقترب من أنفاس الخلق ليخلو بالله جل وعلا، وليتأسَّ به المؤمنون وتكون هذه الخلوة بالله تعالى سببا في إصلاح معاشهم ومعادهم وسببا في تهيئة قلوبهم وجوارحهم لتحقيق أسباب المغفرة، وسببا لتوفير الوقت والجهد والصحة، كل ذلك في هذه الأيام يواصل فيها ليكون سببا في أن يغفر الله له، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو ليس له ذنب أصلًا - صلى الله عليه وسلم - وإنما هو في درجة الشكر: « أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا » ([4]) كما قال صلى الله عليه وسلم .
قد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر حتى إذا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا، وكان على كثرة أشغاله صلى الله عليه وسلم من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم العلم والقيام على مصالح المسلمين، لا يمنعه شيء من ذلك البتة أن يعتكف هذه العشر لله تعالى ؛ لتكون:
أولا سنده ومئونته في بقية عامه، لتكون قوته ومدده،
والثانية، لتكون سببًا في مواصلة الليل بالنهار لتحقيق جائزة الرب،
والثالثة ليلتمس فيها ليلة القدر،« مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ » ([5])
فكانت هذه الأشغال والوظائف التي ينبغي أن تسيطر على أعمال الناس في هذه العشر، النبي لم يكن محتاجًا صلى الله عليه وسلم إلى ذلك كله ، فقلبه موصول بربه، وذكره لا يفتر، وعمله لا يكل، ولا يمل من المحبة والإقبال والسعي للرب جل وعلا، هو أعلى الناس في الدنيا والآخرة لهذه الدرجة صلى الله عليه وسلم ، لا درجة أعلى من درجته في ذلك، وهي الوسيلة التي لا تنبغي إلا لعبد واحد هو النبي صلى الله عليه وسلم ، لذلك كان المؤمنون لا بد أن يسيروا على هذا الحال الذي كان عليه في درجته، إذا أرادوا أن يحققوا هذه الأسباب من التماس ليلة القدر، من الإقبال على الله تعالى، من الاستعداد لتحقيق جائزة الرب والفوز بها، وألا تكون أشغال الدنيا ومعوقاتها سببا في أن تمنعك عن ذلك لأنك أيها المسكين لست أعلى درجة منه صلى الله عليه وسلم .
فإذا ما جاءك الشيطان ليقول لك: لا تستطيع الاعتكاف هذا العام، إن شاء الله العام القادم سوف تعتكف مائة يوم، وسوف تعتكف العام كله، وسوف تخرج في سبيل الله بقية عمرك، كل هذا من تسويل الشيطان ليضيع عليك هذه الأيام التي ينبغي أن تواصل فيها ليلك بنهارك, لذلك قالت السيدة عائشة وأنس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم: « إِذَا دَخَلَ العَشْرُ قَامَ اللَّيْلَ » ([6]) كان يقوم ليله صلى الله عليه وسلم لا يفتر فيه، ينتظر أن يصادف ليلة القدر في أي وقت من ليالي العشر الآكد فيها في الوتر.
وقد كان كثير من الأئمة كالإمام أحمد وغيره رضي الله عنهم يمتنعون عن الكلام في الاعتكاف مع أحد، حتى ولو بالعلم والدراسة ليعتكف على ربه، وأن ينظر في هذه الشحنة التي ينبغي أن يحصلها، وفي أسباب المغفرة التي يجب أن يجاهد نفسه عليها.
وكان يوقظ أهله في هذه الأيام يوقظ أهله في تلك العشر، كل من أطاق الصلاة أقامه للصلاة ليشهد هذا الخير، وليشهد تلك الرحمة، وليشهد تلك النفحات من نفحات الله جل وعلا، وليكون كل أحد يأخذ نصيبه من رحمة الله تعالى، وأن تصيبه بركات الرب جل وعلا، وأن يتنزل عليه ما يتنزل من جود الله تعالى وكرمه وإحسانه في تلك الليالي، وجدّ وشد المئزر، شد المئزر: كناية عن اعتزال النساء في هذه العشر،
و "جدّ"َ: يعني اجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها , يعني إن كان يصيب نومًا في العشرين الأولى من رمضان في هذه الأيام ما كان يصيب نومًا ولا غمطا، طوى فراشه صلى الله عليه وسلم واعتزل النساء وقام لله تعالى.ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر هذه الليالي من ليالي القدر، ويقبل عل شأنه، ويرتب أحواله، وينظر فيما عند الله، ويأتنس بالله تعالى، ويأخذ قسطه من تفريغ القلب والبال لله جل وعلا، وتفريغ الوقت والجهد والصحة للعبادة والنظر في سيره إلى الله تعالى، وإقباله عليه،