وهكذا قضى عباس فترة تجاوزت 19 شهرا في السجون المركزية الى أن أفرج عنه في 22/11/1996م في ظل ما يسمى بعملية السلام.
الاعتقال الثالث: لقد مرت الأيام والشهور بعد الإفراج عنه رزق خلالها بطفلته "مودة".. الى أن تم اعتقاله للمرة الثالثة.. ولكنها كانت صدمة أعنف وأشد من سابقاتها لأن السجان هذه المرة ليس الاحتلال.. بل كان السجان هو السلطة الفلسطينية رفيق الدرب الجهادية في الماضي.. ليمضي في سجونها تسعة عشر شهرا أخرى حتى عام (1999).. وكما يقال:….
(( وظلم ذوي القربى أشد مضادة على النفس من وقع الحسام المهند ))
نقل الى سجن أريحا المشهور بوحشية التحقيق والتعذيب في أشد أيام الصيف حرارة وعزل في غرف مليئة بالذباب والدبابير.. كان يغرق في عرقه ولا يجد الماء إلا ما يبقيه على قيد الحياة وبعدها نقل الى سجن (جنيد) في مدينة نابلس حتى أفرج عنه عام 5/6/1999م.
قصة الإفراج عنه من سجون السلطة:
أما الإفراج عن عباس فكان له قصة وحكاية.. ففي يوم اتصل كل السجناء بذويهم طالبين منهم الحضور وجلب الطعام معهم أثناء الزيارة على أن يكفي لهم ولسبعة أشخاص آخرين وكان هذا في آخر يوم من رمضان .. فاجتمع أهالي المعتقلين في السجن ودخلوا غرفهم.. وتم تحضير طعام الإفطار الذي كان عملا منظما للغاية تبعه صلاة المغرب جماعة.. وعندما حضر السجانون لإغلاق السجن فوجؤوا برفض ذوي المعتقلين الخروج من السجن.. حتى يتم الإفراج عن أبنائهم ليقضوا فترة العيد معهم.. وحينها جرت مفاوضات بين السجانين وأربعة ممثلين عن المعتقلين ومن بينهم المهندس عباس السيد.. فحصلت الخلافات وتتابعت الاتصالات والمفاوضات لحل هذه الأزمة حتى وصلت لكافة المستويات بما فيهم الرئيس الراحل ياسر عرفات.. فانتهت الخطوة بإصدار السلطة قائمة مكونة من سبعة عشر معتقلا يفرج عنهم بالحال ومن بينهم عباس على أن تكون هذه خطوة أولية نحو الإفراج عن الجميع.. ولكن هذا القائد الذي تقدم الصفوف رفض الخروج حتى يفرج عن الجميع في آن واحد.. عندها وعد المعتقلين بقائمة ثانية تتضمن الأغلبية بعد أسبوعين فقط.. وعليه تمت إجراءات الإفراج عن عباس في تاريخ 5/6/1999م أي بعد اعتقال دام تسعة عشر شهرا.
القائد الذي ألهب الجماهير بكلماته:
ومضت شهور قلائل فإذا "بعبد الله" الذي يشبه أباه يرى النور في عام 2000م.. التي آذنت بانطلاق شرارة انتفاضة الأقصى.. فتقلد أبو عبد الله مهام قيادة حركة المقاومة الإسلامية حماس في محافظة طولكرم وتمثيل الحركة في وسائل الإعلام كأحد القادة السياسيين البارزين الناطقين باسمها.. وكان أيضا عضوا في التنسيق الفصائلي في المحافظة.. فراح يعقد الندوات ويقدم المحاضرات ويوجه الفعاليات الوطنية والشعبية ويلقي الكلمات في المهرجانات ومسيرات التأبين.. فما أن يعلم المواطنون بكلمة لعباس إلا وتجدهم يتدافعون بالآلاف.. تلهب مشاعرهم كلماته العذبة وأسلوبه الرصين في عرض أفكاره التي كانت تدغدغ العواطف وتشعل الهيجان على المحتل.. فقد حظي باحترام الشارع الفلسطيني الذي رأى حرصه على الوحدة الوطنية.. وتجذيره فكر مقاومة الاحتلال وغرسه في قلوب الناس مهما كلّف ذلك الأمر.. فأصبحت حياة عباس الجهادية تتصاعد وتيرتها وهو المعروف بقصص الصمود الأسطورية في التحقيق.. حتى أصبح هم الاحتلال تصفيته جسديا للتخلص منه.. فأدرجوا اسمه على قائمة كبار المطلوبين.. ونشروا اسمه وصوره في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية كأحد أبرز القادة العسكريين الذين يعزى لهم التخطيط لعمليات استشهادية في قلب المناطق المحتلة عام 48م.. فبدأت عملية المتابعة والمراقبة لعباس من قبل عملاء المحتل في وقت متزامن مع اغتيال القادة السياسيين جمال منصور وجمال سليم.. فنجح بالإفلات من المتابعة مرات عديدة.. وعلى الرغم من خطورة الوضع الأمني لعباس واختفائه الكامل عن الأنظار في 3/5/2001م إلا انه بقي وفيا لدماء رفاق دربه طيلة فترة مطاردته.. حتى ظهر لأول مرة في مسيرة الشهيد القسامي فواز بدران في 13/7/2001م الذي تم اغتياله عن طريق تفجير سيارة مفخخة بمادة موجهة شديدة الانفجار.. حين اخذ المشاركون يهتفون للمهندس عباس وهو يعلنها صريحة مدوّية: "نحن في حركة المقاومة الإسلامية حماس لا مبرر لوجودنا على الإطلاق دون جهاد وتضحيات ومن دون دماء، الموت مكتوب علينا فلنمت ميتة العز التي تحيي بنا من خلفنا".. فاتخذت السلطة الفلسطينية من ذلك ذريعة لاعتقاله بحجة حمايته والحفاظ على حياته.
الاعتقال الرابع: وفي إحدى الأيام اتصل عباس يزوجته وأخبرها بأنه سيتناول وجبة الغداء معها في بيت والدها فما أن وصل حتى اتصلت المخابرات الفلسطينية به.. وطلبت منه الحضور.. فذهب للقائهم دون تردد كونه اعتاد لقاءات الفصائل والأجهزة الأمنية بعد تمثيل حركة حماس خاصة في ظل أجواء الاجتياحات وقصف المقرات والمقاطعات فلا وجود لما يستدعي القلق من إمكانية اعتقاله فأخبر زوجته بتحضير الطعام لتناوله بعد العودة.. فانتظرته ساعة تلو الأخرى ولكنه لم يعد.. فبدأت بإجراء بعض الاتصالات للتحري عن سبب تأخره وإذا بخبر اعتقاله في سجن السلطة (المقاطعة) ينزل كالصاعقة عليها وعلى حركة حماس.. فقد أصبح المهندس في القفص كوجبة جاهزة لجيش الاحتلال وطياريهم.. فقامت الدنيا ولم تقعد وبدأت المظاهرات والاحتجاجات في مدينة طولكرم على اعتقال الناطق الرسمي لحركة المقاومة الإسلامية حماس وممثلها في التنسيق الفصائلي على كافة المستويات.. واستنكرت كافة الفصائل هذا الاعتقال الذي يعد شرخا كبيرا في صفوف الوحدة الوطنية التي رسختها تلك الانتفاضة المباركة.. ورغم شدة الاحتجاجات الا أن السلطة لم تستجب لأية مطالبات وبحجة أصبحت واهية (قرار سياسي ناتج عن الضغوط).. وبأنه قرار اعتقال صادر عن الرئيس عرفات الوحيد الذي يملك الإفراج عنه.. فوقع عباس بين فكي رحى في آن واحد يهود وذوي القربى.. وعاد عهد المعاناة والألم والجراح من جديد.
مطاردة طارد فيها الاحتلال:
عهد جديد يمر غير عهد الاعتقالات والمداهمات.. وغير عهد الاستقرار والمبيت بأمان في بيت زوجي هادئ.. وغير عهد لقيا الأحبة والصحبة في أروقة الطرقات أو في باحات المساجد.. انه يختلف عن سابقاته.. عهد لم يعرف عباس فيه الأمن ولا الأمان.. عهد لم تجتمع فيه العائلة إلا لسويعات أو دقائق معدودة يتخللها الخوف والرعب والقلق.. وانتظار صاروخ الأباتشي الذي لا يعرف في طريقه كبيرا أو صغيرا.. إنه عهد المطاردة.
فبعد أن أوشك الاحتلال على اجتياح مدينة طولكرم في عام 2002م ووسط تحليق طائرات الموت في السماء وورود الإنذارات بحملة كبيرة سينفذها الاحتلال في طولكرم تطال مقاومين.. وبعد الاجتياح الذي حصل في جنين وقلقيلية.. اضطرت أجهزة السلطة الأمنية الى نقله من داخل المقاطعة التي كان يحتجز فيها فخرج عباس من السجن واختفى عن الأنظار وعن متابعة أجهزة الأمن الفلسطينية التي اعتقلت شقيقه الأكبر "سبع السيد" الذي بمثابة الأب الفعلي للأسرة ويرى فيه عباس بمثابة الوالد.. وهو أحد قادة حركة فتح في طولكرم.. اعتقل شقيقه لإجباره على تسليم نفسه دون ان يجدي ذلك نفعا.. فلجأت الأجهزة الأمنية الى ما هو أسوأ.. فقامت باعتقال زوجته وهو ما أثار مشاعر الغضب لدى المواطنين الذين ساروا في مظاهرات ومسيرات غضب أمام مبنى المقاطعة فاضطرت السلطة أمام إصرارهم لإطلاق سراحها.. وقام شقيق عباس بالإضراب عن الطعام نقل على إثرها الى المستشفى الحكومي نتيجة الانهيار الذي أصابه فثارت ثائرة الشعب الكرماوي الذي انتفض من جديد في مسيرة حاشدة اقتحمت مكان احتجازه في المستشفى وهذا ما دفع السلطة الى الإفراج عن شقيقه أيضا دون ان تتمكن من الإيقاع بعباس.
عمليات الاغتيال تتواصل وقسم بالثأر:
لم تتوقف عمليات الاغتيال الصهيوني فقد ودع عباس شهيدا جديدا من رفاق دربه القساميين.. الشهيد عامر الحضيري الذي أصابت صواريخ الاباتشي سيارته بثلاث صواريخ واحترق جسده الطاهر بصورة مؤلمة.. فاقسم الكثير من أصدقائه ومنهم عباس بالثأر والانتقام.
فلم يشأ عباس ان يكون الرد على جرائم الاحتلال بطريقة تقليدية.. بل أرادها ردّا مزلزلا مجلجلا يذيق المحتل ويلات الانتقام.. بعملية نوعية يشفي بها صدور المؤمنين.. مختارا من بينهم عاشقا من عشاق الشهادة ممن يتسابقون لنيل وسام الاستشهاد.. فأرادها كبرى عمليات القسام وكبرى معارك الثأر المقدس.. ففي 27/3/2002م كان الاحتلال على موعد مع الفارس الذي ترجل عن فرسه ليغرس شظايا ثأر القسام في أجساد 32 صهيونيا وقعوا قتلى و أكثر من 180 جريحا معظمهم في حالة الخطر والخطر الشديد وذلك في قلب نتانيا فيما يعرف بفندق بارك الذي أصبح دمارا بعد أن فجر الاستشهادي عبد الباسط عوده جسده الطاهر في داخله عشية ما يسمى عندهم بعيد الفصح.. لتكون بذلك العملية الأكبر والأضخم في تاريخ الاحتلال الذي وصفها بالمذبحة أو بالمجزرة.
رحلته مع القسام:
لم يكن عباس السيد بعلاقة مع كتائب القسام في بداية انتفاضة الأقصى كونه ممثل الحركة في الجانب السياسي لما تميز به من قدرات في مجال الخطابة والتحليل والتخطيط الاستراتيجي والحضور الجيد أمام الجمهور ووسائل الإعلام.. الى أن وقعت عملية استشهادية في قلب نتانيا عام 2001م هزت أركان الاحتلال.. وكانت أول عملية نوعية في انتفاضة الأقصى توقع 3 قتلى صهاينة وأثر من 50 جريحا.. فلم يكن معروفا في حينها من المسؤول الى أن أن جاء في يومها القسامي الشهيد فواز بدران الحافظ لكتاب الله والذي تلقى تعليمه في الأردن الى المهندس عباس ليطلب منه تبني العملية.. عباس لم يشأ الاستعجال فتأنى يومين حتى تجلت التفاصيل فأعلن عن المعلية وتوعد الاحتلال بعشر عمليات مشابهة.. عرفت بالعهدة القسامية التي كان أول فرسانها الاستشهادي أحمد عليان الذي قام بتنظيمه فواز بدران للعمل في كتائب القسام..
وعلى الفور قام المهندس عباس بضم فواز بدران الى جهاز الكتائب.. طاليا منه تعليمه كيفية تصنيع المادة المتفجرة التي تلقاها في الأردن على يد أحد مجاهدي الشيشان.. والتي سميت فيما بعد بمادة قسام19 شديدة التفجير.. وبالفعل تعلم عباس كيفية تصنيع المادة وطلب من حارسه الشخصي الشهيد عامر الحضيري تعلم تصنيع المادة والذي أرسل فيما بعد بمهمة نشرها في الضفة..
وبعد خمس عمليات صدق فيها القسام وعده بعهدة قسامية عشريه.. تم الترتيب لعملية سادسة بطلها الاستشهادي محمود مرمش الذي فجر نفسه أمام مدخل تجمع تجاري في قلب نتانيا قتل خلالها 6 صهاينة وجرح ما يزيد عن المئة.. ليخرج العدو الصهيوني بعدها بتصريح قائل "أن هذه العملية هي الأولى من نوعها في مجال استخدام مواد جديدة شديدة الانفجار تقتل وتصيب الكثير من غير الحاجة الى وجود قطع معدنية ومسامير وقد امتلكتها حركة حماس مؤخرا" وعلى إثر هذه العملية وقع اغتيال المجاهد القسامي فواز بدران.. ليقسم عباس بعدها بتنفيذ خمسة عمليات ثأر يبتدئها بعبد الباسط عودة.. ولكن في حينها لم يكتب للعملية النجاح فقد اعتقل القسامي نهاد أبو كشك الذي كان يحمل هوية صهيونية وهو احد مرافقي عباس وحراسه وذلك أثناء توجه الى نابلس لإحضار حزام ناسف مجهز على يد الخبير الشهيد مهند الطاهر ومعه أيضا وصية الاستشهادي التي وقعت في يد الاحتلال فاعتبر عبد الباسط في حينها قنبلة موقوته طورد على إثرها كما تم اغتيال من وصفته حماس بالفارس عامر الحضيري بواسطة ثلاثة صواريخ أطلقت من طائرة أباتشي حرقت جسده بالكامل.. ليشتد غضب المهندس عباس فأقسم بالثأر المقدس..
طلب عباس من القسامي المعتقل معمر شحرور الاستعداد لمهمة كبيرة.. يكون فيها الرد مؤلما لقوات الاحتلال.. ففي يوم استدعاه عباس وأبلغه بقرب موعد التنفيذ.. وعلى الفور توجه معمر لتجهيز عبد الباسط.. الذي كان قدى اختفى عن الأنظار وكانت المشكلة في كيفية وصوله الى قلب نتانيا فجرى تنظيم الأسير القسامي فتحي الخصيب الذي استطاع الحصول على أوراق مزورة شبه رسمية يمكنه من التنقل عبر الحواجز والوصول الى أي هدف داخل الأراضي المحتلة عام 48م يساعده في ذلك اتقانه للهجة العبرية.. وبالفعل في تاريخ 27/3/2002م كان رد القسام وكان الانتقام.. بمعلية نوعية.. سميت بعملية الثأر المقدس.. وهكذا أصبح المهندس القسامي عباس المطلوب رقم واحد لقوات الاحتلال.. فكان مطارَدا ومطارِدا لهم.. ولم يكتفي بهذا الحد بل سعى لامتلاك مادة سامة شديدة المفعول تعرف بمادة "السيانيد" تضاعف عدد القتلى الى عشرة أضعاف.. ولكنه لم يتوفق في استخدامها وجرى اعتقاله في شهر 5/2002م على يد القوات الخاصة في حملة شرسة على المدينة ومخيم طولكرم أعقبت حصارا مشددا استمر لأيام طويلة.
ستة شهور من التحقيق الشرس والتعذيب المستمر:
لم يكتف الاحتلال بالتحقيق الميداني مع المهندس عباس السيد بل لجؤوا الى تعذيبه بشكل شرس في أقبية التحقيق.. حيث كان يجبر على البقاء يقظا لمدة ستة أيام متواصلة ثم يترك ليستريح ساعتين ثم تعاد الكرة مرة أخرى.. يستلم تعذيبه فريق من المحققين يقوم بضربه وتعذيبه في أماكن حساسة متفرقة في جسده تصل به الى أعلى درجات الألم ولا يترك لدقائق الا في حالات الإغماء.. ثم يستريح الفريق بعد التعب ليستلم بدلا منه فريق آخر يمارس نفس الأساليب وهكذا بالتناوب لإجباره على الاعتراف عن مكان مادة "السيانيد" والتي من أجلها فضل الاحتلال اعتقاله بدلا من اغتياله..
ظهر الحقد بحكم فاق الخيال:
وظهر الحقد الصهيوني على عباس جليّا في مطالبات بعض القضاة الصهاينة بإنزال عقوبة الإعدام بحقه هو وأعضاء خليته القسامية (معمر شحرور ونصر زيتاوي وفتحي خصيب ومهند شريم) غير ان المحكمة الصهيونية استقرت على إصدار حكما بحقه بالسجن مدة (36) مؤبدا إضافة الى (200) سنة أخرى.
و هكذا تمضي الأيام بعباس السيد.. الذي تمسك بعقيدته.. وتشبث بأرضه.. وبحث عن كرامة شعبه بين سطور المقاومة.. وألبس القسام تاج الفخار بعمله البطولي حين أبر بقسمه.. بالثأر المقدس لدماء القادة ولدماء الشهداء العظام.. فلم ترهبه باستيلات التعذيب والقهر والحرمان.. ولم تثنه آلة الموت بيد الطغيان.. عن مقاومة من دنسوا الأرض وهتكوا العرض واستباحوا الحرمات.. فصنع من جهاده أسطورة خطت بأحرف من نور بين صفحات المجد والعزة والكرامة.. صفحات فلسطين أرض الرباط.. ومهد الرسالات..
__________________
سر على بركة الله شيخنا لا يضرك أذى المنافقين والمتخاذلين
|