بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد:
قال الشيخ أحمد النجمي في كتابه المورد العذب الزلال ص(79):
وأما الأدلة من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ دعوته بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك بالله تعالى ففي كتب السنة والسيرة النبوية عشرات النصوص التي تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ أول ما بدأ بمحاربة الأوثان وكسرها وهدمها وبيان عجزها وضعفها عن نصرة من عبدها وألهها، وأنا ذاكر منها ما تيسر في هذه العجالة ليعلم منها سوء صنيع من بنى دعوته علىغير هذا الأساس وغض الطرف عمن ناقضه وهدمه ممن تصدوا للدعوة في هذا الزمان زاعمين أن ذلك لا يخرجهم من حضيرة الإسلام ما داموا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ناسين ما ورد في القرآن الكريم والسنة المطهرة من النصوص التي لا تحصى والتي تنادي على عملهم بالبوار وعلى صنيعهم بالخسار، حيث هدموا من الإسلام الركن الأعظم وضلوا في دعوتهم عن الطريق الأقوم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فمنها حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه الذي رواه مسلم في صحيحه. كتاب صلاة المسافرين. عن ابي أمامة قال: قال عمرو بن عبسة السلمي: (كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة وأنهم ليسوا على شئ وهم يعبدون الأوثان فسمعت برجل في مكة يخبر أخباراً فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخيفاً جرءاء عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت: ما أنت: قال أنا نبي. فقلت: وما نبي؟ قال: أرسلني الله. فقلت بأي شئ أرسلك قال أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله ولا يشرك به شئ. قلت له: فمن معك على هذا: قال حر وعبد ـ قال ومعه يو مئذ أبو بكر وبلال ممن آمن معه ـ فقلت ـ إني متبعك. قال: إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا. الا ترى حالي وحال الناس، ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني...)(1)الحديث.
والشاهد في هذا الحديث قوله: (أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شئ) فأي دعوة لا تقوم على هذا الأساس فهي دعوة باطلة اتخذت طريقاً غير طريق الرسل وسبيلاً غير سبيلهم والله تعالى يقول: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}(2).
والبصيرة هي العلم بدعوة الرسل، والأسس التي قامت عليها والسير على نهجها كما فعل الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى في دعوته وكما فعل شيخنا عبدالله بن محمد القرعاوي في دعوته،
الدليل الثاني أو المثال الثاني: الطفيل بن عمرو الدوسي وقد ذكر قصته ابن إسحاق عن إبراهيم عن عثمان بن الحويرث عن صالح بن كيسان أن الطفيل بن عمرو، وهذا الإسناد منقطع ورواه ابن عبدالبر في الإستيعاب مختصراً من طريق الكلبي وهو ضعيف وذكر الذهبي في ترجمة الطفيل بن عمرو أن يحيى بن سعيد الأموي أخرجه في مغازيه من طريق الكلبي عن أبي صالح أن الطفيل وهذا السند أيضاً ضعيف لضعف الكلبي وشيخه أبي صالح باذان، ولبعض هذه القصة شواهد في الصحيحين ومسند الإمام أحمد وقد ذكر هذه الرواية الإمام النقاد الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، ولم يردها بل ذكرها مقراً لها وكذلك ايضاً ذكرها ابن كثير في ترجمة الطفيل بن عمرو، والقصة هي: أن الطفيل بن عمرو قال: كنت رجلاً شاعراً سيداً في قومي، فقدمت مكة فمشيت إلى رجالات من قريش فقالوا إنك امرؤ شاعر سيد وإنا قد خشينا أن يلقاك هذا الرجل فيصيبك ببعض حديثه فإنما حديثه كالسحر فاحذره أن يدخل عليك وعلى قومك ما أدخل علينا فإنه يفرق بين المرء وأخيه وبين المرء وزوجته وبين المرء وابنه فو الله مازالوا يحدثوني شأنه وينهوني أن أسمع منه، حتى قلت والله لا أدخل إلى المسجد إلا وأنا ساد أذني، قال فعمدت إلى أذني فحشوتهما كرسفاً، ثم غدوت إلى المسجد فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم قائم في المسجد فقمت قريباً منه فأبى الله إلا أن يسمعنى بعض قوله، فقلت في نفسي: والله إن هذا للعجز وإني امرؤ ثبت ما تخفى علي الأمور حسنها من قبيحها، والله لأسمعن منه، فإن كان امره رشداً أخذت منه وإلا اجتنبته فنزعت الكرسفة فلم أسمع قط كلاماً أحسن من كلام يتكلم به، فقلت يا سبحان الله ما سمعت كاليوم لفظاً أحسن ولا أجمل منه فلما انصرف تبعته فدخلت معه بيته فقلت: يا محمد: إن قومك جاوءني فقالوا لي كذا وكذا فأخبرته بما قالوا، وقد أبى الله إلا أن أسمعني منك ما تقول، وقد وقع في نفسي أنه حق فاعرض علي دينك، فعرض على الإسلام فأسلمت ثم قلت: إني أرجع إلى دوس وأنا فيهم مطاع وأدعوهم إلى الإسلام لعل الله أن يهديهم فادع الله أن يجعل لي آية فقال: اللهم اجعل له آية تعينه، فخرجت حتى أشرفت على ثنية قومي وأبي هناك شيخ كبير وامرأتي وولدي فلما علوت الثنية وضع الله بين عيني نوراً كالشهاب يتراءاه الحاضر في ظلمة اليل وأنا منهبط من الثنية فقلت: اللهم في غير وجهي فإني أخشى أن يظنوا أنها مثلة لفراق دينهم، فتحول فوقع في رأس سوطي فلقد رأيتني أسير على بعيري إليهم وإنه على رأس سوطي كأنه قنديل معلق قال فأتاني أبي فقلت له: إليك عني فلست منك ولست مني. قال: وما ذاك قلت إني أسلمت واتبعت دين محمد. قال: أي بني ديني دينك، وكذلك أمي فأسلما ثم دعوت دوساً إلى الإسلام فأبت علي وتعاصت ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت غلب على دوس الزنىوالربا فادع الله عليهم فقال: اللهم اهد دوساً، ثم رجعت إليهم وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقمت بين ظهرانيهم أدعوهم إلى الإسلام حتى استجاب منهم من استجاب، وسبقني بدر وأحد والخندق ثم قدمت بثمانين أو تسعين أهل بيت من دوس فكنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى فتح مكة. فقلت: يارسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه قال أجل. فاخرج إليه فأتيت فجعلت أوقد عليه النار، ثم قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقمت معه حتى قبض ثم خرجت إلى بعث مسيلمة ومعي ابني عمرو حتى إذا كنت ببعض الطريق رأيت رؤيا رأيت كأن رأسي حلق وخرج من فمي طائر وكأن امرأة أدخلتني في فرجها وكأن ابني يطلبني طلباً حثيثاً فحيل بيني وبينه فحدثت بها قومي فقالوا خيراً، فقلت: أما أنا فقد أولتها. أما حلق رأسي فقطعه، وأما الطائر فروحي والمرأة الأرض أدفن فيها فقد روعت أن أقتل شهيداً، وأما طلب ابني إياي فما أراه إلا سيعذر في طلب الشهادة ولا أراه يلحق في سفره هذا قال فقتل الطفيل يوم اليمامة وجرح ابنه ثم قتل يوم اليرموك" اهـ(3).
ومنها قصة بلال وأنه كان يعذب ويقال له إلهك اللات والعزى فيقول أحد أحد فبلغ أبا بكر فأتاهم فقال علام تقتلونه فإنه غير مطيعكم. قالوا: اشتره. فاشتراه بسبع أواق فأعتقه(4).
ومنها قصة عمرو بن الجموح وهو أنه لما فشا الإسلام في الأنصار بعد قدوم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم إليهم فأسلم شباب من الأنصار ومنهم معاذ بن جبل ومعاذ بن عمرو بن الجموح وكان عمرو بن الجموح شيخاً كبيراً باقياً على دينه فتركوه حتى نام وأخذوا صنمه وألقوه في حفرة العذرة فذهب يبحث عنه فلما أصبح افتقده فذهب يبحث عنه فوجده في حفرة العذرة فأخذه وغسله وطيبه ورده في مكانه، وفي الليلة الثانية أخذوه وألقوه في حفرة العذرة، فوجده ملطخاً بالقذر فغسله وطيبه ورده في مكانه، ثم علق السيف فيه وقال له: لو أعلم الذي صنع بك هذا لفعلت وفعلت، ولكن هذا السيف فإذا أراد أحد أن يأخذك فقاتله فتركوه حتى نام فأخذوه فقرنوه بجيفة كلب ثم ألقوه في حفرة القذر فلما رآه قال:
والله لو كــــــنت إلهاً لم تكن أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملـــــقاك إلهاً مـــــستدن الآن فــتشناك عن سوء الـغبن
الحمد لله الــــــعلي ذي المنن الواهب الــرزاق ديـان الـدين
هو الذي أنقذني من قــبل أن أكون في ظلـــــمة قبر مرتهن(5).
وبالجملة فإن عشرات النصوص بل مئات النصوص موجودة في بطون الكتب من تفسير وحديث وسير تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ في دعوته بغير التوحيد ومحاربة الشرك والنصوص الدالة على ذلك من الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر فأيما داع دعا قوماً إلى الله فبدأ بغير التوحيد مع أن الشرك فيهم فاش والأضرحة التي هي بمنزلة اللات والعزى لديهم موجودة والناس لها قاصدون وعليها مترددون بها يتطوفون ويتمسحون وبأسماء أصحابها في الصباح والمساء يهتفون ويلهجون ولهم من دون الله يدعون وإليهم عند الشدائد يفزعون ويلجؤن، ولتلك الأضرحة ينذرون، وعلى اسمائهم يذبحون، معتقدين أنهم يعطون ويمنعون ويغنون إذا شاؤا ويفقرون، إن من دعا قوماً هذه حالهم فسكت عن شركهم سكوت المقر ودعا إلى غير التوحيد الذي هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله فإنه قد خالف الرسل كلهم من أولهم نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم واتخذ سبيلاً غير سبيلهم ومنهجاً غير منهجهم ؛ بل قد خالف قول الله تعالى: {قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني}(2).
وأولى به أن يوفر على نفسه الجهد والعناء لأن كل ما كان على غير منهج الرسل فهو مردود غير مقبول. قال صلى الله عليه وسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)(6).
لنا لقاء ان شاءالله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه مسلم في صحيحه كتاب صلاة المسافرين باب إسلام عمرو بن عبسة رقم الحديث(832).
(2) سورة يوسف آية: 108.
(3) سير أعلام النبلاء (1/344).
(4) سير أعلام النبلاء عن هشام بن عروة عن ابن سيرين (1/353).
(5) البداية والنهاية لابن كثير (3/163) بمعنى القصة ولفظ الشعر.
(6) لعل قائلاً يقول: إن الداعي المشار إليه قد حارب الحكم بغير ما أنزل الله وهو من شرك التحكيم؟
فالجواب:
أولاً: أن هذا خلاف طريقة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، فقد تقدم لنا أنه ما من نبي يبعث إلى قومه إلا ويدعوا قومه أول ما يدعوهم إلى عبادة الله وحده.
ثانياً: أنه ما من نبي يبعث إلى قوم إلا وعند قومه من العادات والأعراف التي يتحاكمون إليها ويرضون بحكمها ويسيرون أمورهم عليها ما عندهم ولم يؤمر أحد من الرسل أن يزيل تلك الأعراف ويترك الأوثان التي يعبدونها من دون الله ؛ بل أمروا بالدعوة إلى عبادة الله وحده ونبذ عبادة الأوثان والأنداد سواء كانت قبوراً أو أصناماً أو أشخاصاً أو غير ذلك.
قال تعالى: {وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} وقال: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشئ عجاب}.
ثالثاً: أن تحكيم القوانين والأعراف والعوائد هي نوع واحد من أنواع الشرك ولم يأمر الله عزوجل بأن تخصص الدعوة والإنكار لهذا النوع دون غيره من أنواع الشرك بالله التي هي أشد خطراً منه وأكثر شيوعاً منه.