رابعاً: السيناريوهات المحتملة لحل مشكلة القدس
تزخر الأدبيات السياسية الإسرائيلية على وجه التحديد والعربية والدولية بشكل عام بمشاريع متعددة تناولت المكونات الأساسية لمشكلة القدس، وحاولت أن تقدم حلاً سياسيا وسطا يأخذ بعين الاعتبار المتغيرات التي أجرتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على المدينة المقدسة ومحيطها، وذلك منذ الاحتلال الإسرائيلي للشطر الغربي عام 1948 والشرقي عام 1967. وقد استندت المشاريع الإسرائيلية بشكل عام إلى الأفكار الأولية التي اقترحها كل من ميرون بنفنستي وتيدي كوليك ومركز القدس لدراسات إسرائيل، ومؤخراً يوسي بيلين ونداف شرغائي. وتستند مجمل هذه المشاريع إلى وصايا هرتزل وبن غوريون بالمحافظة على القدس عاصمة موحدة لإسرائيل.
أهم المشاريع والمقترحات المطروحة
1- مشروع ميرون بنفنستي: (1968 - 1972): وهو يعتمد على الحل الوظائفي ويدعو إلى سيادة ثنائية وسلطة محلية أحادية في الأحياء يحكمها مجلس بلدي مشترك. كما يرى تقسيم القدس إلى بلديتين: الأولى يهودية وتشمل الشطر الغربي مع البلدة القديمة المقدسة وتسمى بلدية أورشليم، والثانية عربية فلسطينية تشمل القرى الفلسطينية الواقعة خارج حدود البلدية الأولى وتسمى بلدية القدس.
ويتفق تيدي كوليك رئيس بلدية القدس لعقدين من الزمن مع فلسفة بنفنستي، ويركز على إدارات الأحياء الموسعة المنتخبة، فيما عرف بمبدأ الفسيفساء.
2- مشروع شمعون شامير:ويتميز بطرحه للإدارة الدينية للأماكن المقدسة واعتماد القدس موحدة مفتوحة للجميع، ولا يرى مانعاً من قيام مؤسسات سياسية فلسطينية في الشطر الشرقي من المدينة، مع تأكيده على فكرة الحكم الذاتي للأحياء وكذلك البلدية العليا للمدينة.
3- مركز القدس لدراسات إسرائيل:ويقوم مشروعه على محاولة إنشاء عاصمة بديلة للفلسطينيين حيث تبقى السيادة الإسرائيلية على القدس الكبرى، في حين يرى إعطاء سيادة خاصة للبلدة القديمة، وحكم ذاتي للأحياء العربية، أما بخصوص الحرم الشريف فيوافق على إدارته فلسطينياً على أن يكون الأمن فيه مشتركاً.
ويقترح لذلك باختصار إنشاء قدسين إحداهما تضم الأحياء والقرى العربية، والأخرى تضم المدن والمستوطنات اليهودية في القدس الشرقية، فيما يعوض الفلسطينيون عن أملاكهم في القدس الغربية، وتسلم القرى والأحياء الفلسطينية من حدود بلدية القدس للفلسطينيين، وتضم الأحياء اليهودية الكبرى لإسرائيل مع نشر الجيش الإسرائيلي بين هذه القرى الفلسطينية ومدينة القدس.
ويقترح هذا المركز ثلاثة بدائل لتطبيق هذه النظرية تقوم على قاعدة تبادل الأراضي وأن تكون نسبة الفلسطينيين إلى اليهود 17 إلى 83% على الترتيب.
4- وثيقة بيلين/أبو مازن:وأشارت في المادة (26) منها إلى موضوع القدس، حيث يقول يوسي بيلين إنه تم في الوثيقة قبول ضم المستوطنات اليهودية الكبرى إلى السيادة الإسرائيلية، وكذلك الاعتراف الفلسطيني بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل. وتكون المدينة موحدة بشطرين: غربي معترف به لإسرائيل وشرقي تحت السيادة الإسرائيلية لتكون بذلك مفتوحة موسعة غير مقسمة. ويدير المدينة مجلس بلدي أعلى مع بلديتين فرعيتين، وتعطى سيادة فلسطينية خاصة على الحرم من خلال إدارة الأوقاف، ويعترف بشرقي القدس عاصمة لفلسطين بوضعها الحالي. وقد اعتمد يوسي بيلين في هذه الأفكار على مشروع مركز دراسات القدس لإسرائيل السابق.
5- مشروع رعنان ويتز:يدعو المشروع الذي قدمه صاحبه للسلطة الفلسطينية إلى إقامة قدس فلسطينية شرقي قرية شعفاط تستوعب 300 ألف مواطن فلسطيني وإنشاء طريق يربط بينها وبين القدس الحالية يديره الجانبان، كما يدعو إلى ضم المستوطنات اليهودية الكبرى إلى القدس الحالية. أما بخصوص المدينة المقدسة داخل الأسوار فيقترح أن تدار دولياً، كما يقترح تخيير العرب المقيمين في القدس الحالية -الكبرى حسب المفهوم الإسرائيلي- بين أن ينتقلوا إلى القدس الفلسطينية الجديدة أو أن يبقوا في أماكن سكناهم الحالية.
ملاحظات حول المشاريع
ويلاحظ من خلال دراسة هذه المشاريع أن الجانب الإسرائيلي هو الذي يتقدم بها عادة إلى الجانب العربي الذي لم يستجب لها منه سوى القليل من السياسيين، ومن أهمهم عدنان أبو عودة المستشار السياسي للملك الحسين سابقاً عندما طرح "القدس عاصمة لدولتين" عام 1992، كما أشيع عن موافقة محمود عباس (أبو مازن) عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية على مقترحات يوسي بيلين السابقة فيما عرف بوثيقة بيلين/أبومازن الشهيرة. ويرجع هذا التحفظ العربي العام إلى أن الموقف العربي والفلسطيني بشكله العام متمسك بالانسحاب الإسرائيلي إلى حدود 4 يونيو/ حزيران 1967 وفق قرار الأمم المتحدة رقم 242 لعام 1967، وهو ما تحاول كل المشاريع الإسرائيلية تجاوزه والالتفاف عليه.
السيناريوهات المحتملة في ظل المفاوضات بين الأطراف
تقوم السيناريوهات المختلفة بشكلها الكلي أو الجزئي على تناول عدة أشكال من الحلول في بنية واحدة، ويشمل ذلك الحل الديني المتعلق بالأماكن المقدسة وكيفية الوصول إليها وإدارتها وأمنها، والحل الوظائفي القائم على أساس تقسيم الشطر الشرقي وفقاً لأوضاعها السكانية الإثنية (أحياء وبلديات فرعية وبلدية عليا)، والحل الجغرافي السياسي المتعلق بمفهوم السيادة وعاصمة الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، ومفهوم الأمن وتبعية السكان والأرض والحدود. ولذلك رفعت شعارات من مثل "عاصمتان في مدينة موحدة" أو "عاصمة لدولتين" وما شابهها. وفي حال استمرار موازين القوى القائمة الحالية وقواعد عملية السلام الجارية فإن السيناريوهات تتخذ أحد الأشكال التالية:
الشكل الأول
- القدس عاصمة إسرائيل في غرب المدينة، وعاصمة فلسطين خارج حدود البلدية الحالية وبمحاذاتها.
- تتمتع البلدة القديمة بسيطرة مشتركة ويتبع سكانها لدولة فلسطين.
- يمكن أن يستبدل اليهود القيمون في الحي الإسلامي بالبلدة القديمة بفلسطينيين عائدين من المنفى.
- تتمتع الأحياء العربية منها واليهودية باستقلال ذاتي مع وجود مجلس بلدي أعلى مشترك.
- يدير الفلسطينيون الحرم القدسي الشريف وتدير الفاتيكان الأماكن المسيحية المقدسة، ويشرف على الأمن فيها شرطة مشتركة فلسطينية وإسرائيلية.
الشكل الثاني
- تخضع الأماكن المقدسة لإدارة دينية من ممثلي الديانات الثلاثة بأمن فلسطيني إسرائيلي مشترك وسيادة رمزية فلسطينية بالعلم الفلسطيني.
- القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية مع إدارات أحياء ذاتية، وتقسم المدينة إلى بلديتين فرعيتين ومجلس بلدي أعلى.
- تنشأ مدينة جديدة فلسطينية على أجزاء من القدس الكبرى خارج حدود البلدية الحالية.
- ينشأ مجلس تنسيق مع اتصال جغرافي بين المدينتين.
الشكل الثالث
- تتخلى إسرائيل عن مناطق ذات كثافة عربية خارج الأسوار مقابل ضم مستوطنات يهودية من خارج الأسوار إلى إسرائيل.
- يشترك الفلسطينيون في السيادة على القدس القديمة (داخل الأسوار) مع إسرائيل.
- تبنى عاصمة فلسطينية على أجزاء من القدس بمحاذاة الحدود البلدية الحالية للمدينة.
- تعتبر المدينة الحالية عاصمة لإسرائيل، مع تدويل الأماكن المقدسة بصفة دبلوماسية تتجدد كل 25 عاماً.
- تقسم المدينة ويدير كل حي شؤونه الخاصة.
محددات الاتفاق المحتمل على أي سيناريو للحل
1- تحديد مفهوم القدس وحدودها بشطريها، وهي إشكالية صنعتها إسرائيل.
2- إشكالية التداخل في شبكات المياه وشبكات الكهرباء والمجاري الصحية في حال إعادة تقسيم المدينة.
3- التشابك السكاني من خلال الاستيطان اليهودي داخل البلدة القديمة وفي محيط القرى العربية في الضواحي، وكذلك الوجود اليهودي المتناثر في قلب الحي الإسلامي المجاورللحرم القدسي الشريف.
4- إشكالية التنازل الفلسطيني عن السيادة على القدس الشرقية حسب حدود 4 يونيو/ حزيران 1967 وانعكاساته على شرعية القيادة الفلسطينية.
5- الإصرار الإسرائيلي على وحدة المدينة تحت السيادة الإسرائيلية بما في ذلك الأماكن المقدسة في البلدة القديمة.
6- التدخل المسيحي الكنسي فيما يتعلق بالأماكن المسيحية المقدسة وعدم اهتمامه باستعادة السيادة العربية حتى على القدس الشرقية.
7- فرض الأمر الواقع اليهودي على المدينة من حيث أحزمة الاستيطان والسيطرة على حائط البراق وهدم الحارات والبيوت ومصادرة الأراضي.
8- استناد التفكير والحلول الإسرائيلية إلى حل مشكلة السكان الفلسطينيين والأماكن المقدسة فقط.
ملاحظات كلية
ويلحظ من مجمل هذه المحددات أنها تضع مسألة القدس ومستقبلها في يد الطرف الصهيوني المحتل، لكنها في الوقت نفسه تهدد المشروع الوطني الفلسطيني في حال استجابته للأمر الواقع الإسرائيلي. ولذلك فإن من المتوقع التوصل إلى حلول تحقق السيادة والانتصار الديني للجانب اليهودي في مقابل خسارة الأرض وانتقاص السيادة والحق الديني للمسلمين والمسيحيين، مما يؤكد عدم صلاحية قواعد التفاوض الحالية لرسم مستقبل المدينة.
ويؤكد المشروع الأميركي (24/12/2000) الذي يمثل ورقة أولية لاتفاق الطرفين على إطار الحل النهائي، صحة الاستنتاج الذي وصلنا إليه بخصوص التشويهات والتنازلات الكثيرة التي تفرض على الجانب الفلسطيني في ظل مقايضات غير عادلة وغير متوازنة.
الخلاصة
إن قضية القدس بأبعادها الدينية والسياسية والتاريخية تمثل جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، وما يطرح من مشاريع إسرائيلية عبر التفاوض إنما يعمل على تكريس الأمر الواقع الصهيوني وينتقص الحق العربي الإسلامي فيها، غير أن التقدم الذي أبداه الطرف الفلسطيني بشكل عام وبعض الأطراف العربية نحو التعامل مع هذه الطروحات تسبب في جراح حقيقية للموقف العربي والإسلامي، مما جرأ الطرف الصهيوني على تزايد تمسكه بأهدافه ومحددات مواقفه الثابتة، مع المناورة في بعض التفاصيل بل والإغراق فيها.
ويبدو أن أي عملية تفاوضية تتم خارج نطاق الضغط العملي على الاحتلال عبر الانتفاضة والمقاومة الفاعلة لن تتمكن من استرجاع حتى الفتات من الحق العربي السياسي السيادي والديني والإنساني في مدينة القدس. وستبقى قضية القدس أساس الصراع على مدى الأجيال القادمة.