مما سبق نستنتج أن الفقه الإسلامي ، ومن خلال نظرة الإسلام الشاملة لجميع نواحي المجتمع ، كان سباقاً في إدارة دفة الاقتصاد، وناجحاً في دمج الحياة الاقتصادية والاجتماعية معاً بما يضمن كرامة الإنسان وحريته بغض النظر عن معتقده. فقد أظهر الإسلام دور المال وأوضح أهميته ، وبيّن ضرورة عدم تداوله بشكل خاطئ وعدم اكتسابه بطرق غير شرعية كالرشوة أو الربا أو الاغتصاب. إضافة إلى أن الفرد الذي صقله الإسلام ووقر في قلبه الإيمان تشكلت لديه المناعة ضد كل ما يؤدي إلى إحداث ضرر في المجتمع مهما كان نوعه. على عكس الفرد الذي دُرّب وهُيئ للصراع الاقتصادي والتنافس المادي القائم على الأسس الرياضية والإحصائية دون النظر لمصالح المجتمع فإنه يُصبح من الصعب إجباره أو توجيهه نحو حسابات اجتماعية يظهر معها آثار الضرر البيئي والاجتماعي الذي يُحدثه مشروعه في المجتمع وما يحيط به.
إضافة إلى أنه أرسى أسواقاً ذات دعائم متينة بعيدة عن الغش وأساليبه ، وخالية من المنافسات غير الشريفة كالاحتكار أو عرقلة انتقال السلع والأفراد من وإلى السوق ، وهدفها تحديد السعر بناء على الطلب والعرض العادلين من خلال ظروف تنافسية تعكسها حالة البلدان السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وفي حال ظهور أي خلل في تحديد السعر على غير تلك القواعد يتوجب على القائم بأمر السوق التدخل لمنع تعدي أحد الفريقين على الآخر والسعي إلى التسعير من جديد لإعادة التوازن بين العرض والطلب.
وفيما يلي مخطط مقترح يبين أهمية المعلومات المتاحة لتنظيم الأسواق وتحديد الأسعار حسب العرض والطلب ودور الفقه الإسلامي في ذلك:
عمليات البيع والشراء والتوزيع
رياضيات وإحصاء وبحوث عمليات...
وبناء على ما سبق فإنني أوصي الأخ القارئ بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مناهج الحياة لأنها شريعة الله أولاً ، وفيها من الثوابت ما لا يستطيع حاكم تغييره أو محكوم مما يساعد في ثبات الأحوال واستقرارها ثانياً. وفيها من المتغيرات والاجتهادات ما يجعلها تستفيد من جميع التطورات المحيطة شريطة أن لا تخالف تلك الثوابت ثالثا.
وقد طبقها الناس على اختلاف مذاهبهم اعتقاداً وعملاً على مرّ العصور ، مما أثبت جدارتها وملاءمتها لكل زمان ومكان.
إضافة إلى أن سلوك الفرد المسلم والجماعات المؤمنة يتحدد من خلال رقابة ذاتية مصدرها الإيمان بالله تعالى ورقابة خارجية مصدرها وازع الحاكم الذي أوجب الله تعالى طاعته بقوله:)يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا([ النساء :59].
وإن تطبيق قوانين الغير وتشريعاته دون العودة إلى ما لدينا من كنوز ، يؤدي إلى وقوع المخلصين من الناس في ازدواجية هم في غنى عنها لأنهم سيطبقون في آن واحد أحكام شريعتهم وأحكام القوانين الملزمين بها مما يسبب التشويش والاضطراب والظلم أحياناً. كما يؤدي ذلك إلى ظهور طبقة من الناس محتالة على القانون نظراً لسهولة التفلت من رقابة الحاكم.
ويجب على الجهات التي حلت محل المحتسب وهي وزارة التموين أووزارة الاقتصاد أوالمصرف المركزي أوالبورصة أوصندوق الاستثمار أواللجان المحاسبية الدولية وغيرها أن تسعى إلى تطبيق الأحكام الإسلامية لأنها عقيدة أغلبية الناس فمن الواجب العمل بمقتضاها. فوزارة التموين حالياً تقوم بمراقبة ميازين ومكاييل الأسواق وتحارب الغش والتدليس والفساد ، لكنها تتدخل في سياسة التسعير بل وتجبر المنتجين والبائعين عليه مما يعرقل المنافسة والتسابق نحو خدمة المستهلك ، فضلاً عن بعض الذين يتمكنون من الاحتيال على القانون فيضعون الأسعار التي تناسبهم. وعلى كل حال فإن هذه السياسة لم تعد تجدي نفعاً خاصة بعد بدء تطبيق أحكام منظمة التجارة العالمية WTO ودخول المنتجات والسلع والخدمات إلى أسواقنا من كل حدب وصوب.
ومن المفيد تنظيم معايير مهنة الوساطة والسمسرة ومنع التكتلات المؤدية إلى إلحاق الضرر والظلم بالناس وتأمين الحرية والإفصاح اللازمين لرواد السوق من بائعين ومشترين ومنع غبن المسترسل وعدم تلقي السلع والقادمين من خارج البلد قبل أن يعلموا حقيقة الأسعار. وهذا الكلام موجه تماماً للوسطاء والسماسرة لأن الحاضر المقيم في السوق على علم ودراية بالسعر وظروف السوق ، أما الجالب للسلعة من خارج السوق فهو جاهل بهما. ولا يصح حتى أن يتوكل له به (مع أن جنس الوكالة مباح) لأنه إذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس إليه أغلى الثمن على المشتري فنهاه عن التوكل له لما في ذلك من زيادة السعر على الناس. والهدف من كل هذا هو محاربة ارتفاع الأسعار بفعل فاعل ، والذي هو عامل أساسي من عوامل تفشي التضخم.
ويجب مراقبة ومحاسبة الإدارات المشرفة على الأسواق والتي حلت محل المحتسب. لأن رسول الله e كان يستوفي الحساب على العمال ويدقق عليهم. وهذا ما فعله مع صحابي من الأزد يقال له ابن اللتبية كان قد استعمله على الصدقة فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. قال: فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر يهدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه فقال: اللهم هل بلغت اللهم هل بلغت ثلاثا"[i][73]. وبهذا فقد أرسى معياراً لتعريف الرشوة (التي هي أصل كل فساد إداري) بما لا يترك أي لُبسٍ لأحد.
انتهى والحمد لله رب العالمين
1. الحسبة في الإسلام، أحمد الحراني الدمشقي "ابن تيمية"، 1967، دار البيان بدمشق.
2. مجموع الفتاوى، أحمد الحراني الدمشقي "ابن تيمية"، جمع محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، الرياض، 1398.
3. المقدمة ، ابن خلدون ، مطبعة مصطفى محمد بمصر.
4. المغني مع الشرح الكبير ، ابن قدامة ، 13 جزء.
5. حاشية ابن عابدين رد المحتار على الدر المختار، ابن عابدين.
6. الإشارة إلى محاسن التجارة ومعرفة جيد الأعراض ورديها وغشوش المدلسين فيها ، أبو الفضل جعفر بن علي الدمشقي، دار صادر ببيروت ، طبعة 1 ، 1999.
7. تاريخ العراق الاقتصادي ، الصابي .
8. إحياء علوم الدين ، محمد أبي حامد الغزالي، 1993 الطبعة الثانية ، أربعة أجزاء ، مطبعة دار الخير.
9. سنن ابن ماجة، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، المكتبة العلمية.
10. سنن الترمذي ، الجامع الصحيح ، تحقيق أحمد شاكر ، دار الفكر.
11. سنن النسائي ، بحاشيتي السندي والسيوطي ، دار الكتاب العربي ببيروت.
12. صحيح البخاري ، تحقيق د. مصطفى البغا ، دار العلوم الإنسانية ، طبعة ثانية ، 1993.
13. صحيح مسلم ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ، دار الحديث ، طبعة أولى ، 1991.
14. الاقتصاد الإسلامي ، د. محمد عبد المنعم عفر، أربعة أجزاء، دار البيان العربي بجدة ، 1985.
15. ضوابط تنظيم الاقتصاد في السوق الإسلامي ، د. غازي عناية، دار النفائس ، بيروت ، 1992.
16. البورصة وأسس الاستثمار و التوظيف ، د. عامر لطفي، منشورات دار شعاع ، 1999.
17. مسند أحمد
18. الشرح الصغير ، أحمد بن محمد الدريدر ، جزئين.
19. المغني في أبواب التوحيد والعدل ، القاضي عبد الجبار.
20. الاقتصاد الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، دار الرسالة، 1996 طبعة 1.
73 [صحيح البخاري:2407]
__________________
هيا بنا نتوب جميعااا اذكار المسلم
..
انتظري يا عقارب الساعة لا تمري بسرعة اصمدي ودعينى اودع ذكرياتي الجميلة واحمل بيدى تلك الحقيبة
|