ومن نصارى العرب الذين أسلموا ، الجارود بن عمرو ، وكان سيدا في قومه بني عبد آلاف ورئيسا فيهم ،وكان يسكن البحرين ، وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة تسع من الهجرة ،وفرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقدمه ، وقد كان صلبا في إسلامه ، فقد ثبت على الإسلام بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعه من قومه ، ولم يرتد مع من ارتدوا . [ابن عبد البر ، في كتاب الاستيعاب 1/263، والإصابة 1-441 ].
سادسا : إخبار من اطلع على كتبهم ، بأنه مذكور فيها ،ويشهد له ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما - عن ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم - في التوراة حيث قال : وهو موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن : يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ، وحرزا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ،سميتك المتوكل ، ليس بفظ ، ولا غليظ ، ولا سخاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ،ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما وقلوبا غلفا . [ أخرجه البخاري حديث رقم 2018 ].
وشاهد آخر حدث في خلافة عمر – رضي الله عنه - ،قال أبو العالية :لما فتح المسلمون تستر ، وجدوا دانيال – عليه السلام – ميتا ، ووجدوا عنده مصحفا ، قال أبو العالية : أنا قرأت ذلك المصحف وفيه : صفتكم ،وأخباركم ، وسيرتكم ، ولحون كلامكم .[ هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ص109 ].
سابعا : أن المكذبين والجاحدين لنبوته – صلى الله عليه وسلم- لم يمكنهم إنكار البشارة والإخبار بنبوةنبي عظيم الشأن كمحمد عليه الصلاة والسلام ، جاء ذكره ، وجاءت صفته وصفة أمته ، ومكان وزمن خروجه في كتبهم ، لكنهم جحدوا أن يكون هو المقصود ، وأنه نبي آخر غيره حسدا من عند أنفسهم وكبرا وعلوا ، يبين ذلك ما رواه رجل من الأوس اسمه سلمة بن سلامة ، قائلا : كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل ، قال : فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل ، وأنا يومئذ حدث – يعني صغير - علي بردة لي ، مضطجع فيها بفناء أهلي، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار ، فقال ذلك في أهل يثرب ، والقوم أصحاب أوثان ، بعثا كائنا بعد الموت .
فقالوا له :ويحك ! أترى هذا كائنا يا فلان ، إن الناس يبعثون بعد موتهم إلى جنة ونار ، ويجزون فيها بأعمالهم ؟ قال: نعم ، والذي يحلف به . قالوا : يا فلان ويحك ! ما آية ذلك ؟ قال : نبي مبعوث من نحو هذه البلاد .وأشار بيده إلى مكة، قالوا : ومتى نراه ؟ قال :فنظر إلي ، وأنا أصغرهم سنا ، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه .قال سلمة : فوالله ، ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تبارك وتعالى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حي بين أظهرنا ، فآمنا به وكفر بغيا وحسدا ، فقلنا له : ويحك يا فلان ! ألست الذي قلت لنا فيه ما قلت ؟ قال : بلى ولكنه ليس به .[ رواه الإمام أحمد ، وابن حبان وصححه ، والحاكم في المستدرك ( ح/ 5764) ، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، وانظر هداية الحيارى لابن قيم الجوزية ص 66].
وكان اليهود بالمدينة يتوعدون الأوس والخزرج عندما ينالون منهم ما يكرهون بخروج النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقولون لهم: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن ، نقتلكم معه قتل عاد وإرم .فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - أجابه الأوس والخزرج حين دعاهم إلى الله تعالى ، فآمنوا به وكفر اليهود به . وفيهم نزل هؤلاء الآيات من البقرة: ( ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين "[ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/37 ].
لذلك كان الصحابة – رضي الله عنهم - يذكرون اليهود بما كانوا يذكرونه لهم قبل مبعثه ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب رضي الله عنهم : يا معشر يهود ! اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته .فقال رافع بن حريملة ، ووهب بن يهوذا : ما قلنا لكم هذا قط ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ، ولا نذيرا بعده . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }[ سورة المائدة الآية : 19.]، ابن إسحاق انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/101].
وهاهم اليهود تتوالى أسئلتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - رغم رؤيتهم لكثير من علامات النبوة التي يعرفونها من التوراة ، فجاءت مجموعة من اليهود نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ،فقالوا : يا أبا القاسم ، حدثنا عن خلال نسألك عنهن ، لا يعلمهن إلا نبي .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سلوني عما شئتم ،ولكن اجعلوا لي ذمة الله ، وما أخذ يعقوب عليه السلام على نبيه ، لئن حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الإسلام ).
قالوا :فذلك لك . قال : ( فسلوني عما شئتم ) .قالوا : أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة وماء الرجل ، كيف يكون الذكر منه؟ وأخبرنا كيف هذا النبي الأمي في النوم ؟ ومن وليه من الملائكة ؟
قال : ( فعليكم عهد الله وميثاقه ، لئن أنا أخبرتكم لتتابعني ).قال : فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى صلى الله عليه وسلم ، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب عليه السلام مرض مرضا شديدا ، وطال سقمه ، فنذر لله نذرا ، لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن أحب الشراب إليه وأحب الطعام إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحمان : الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها ). قالوا: اللهم نعم .قال : ( اللهم اشهد عليهم ، فأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله :إن علا ماء الرجل على ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله ، وإن علا ماء المرأة على ماء الرجل كان أنثى بإذن الله ).قالوا : اللهم نعم . قال: ( اللهم اشهد عليهم ، فأنشدكم بالذي انزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه ).قالوا: اللهم نعم .قال
اللهم اشهد ). قالوا : وأنت الآن ، فحدثنا من وليك من الملائكة ؟ فعندها نجامعك ، أو نفارقك ! قال : ( فإن ولي جبريل عليه السلام،ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه ). قالوا : فعندها نفارقك ! لو كان وليك سواه من الملائكة لتابعناك وصدقناك . قال : ( فما يمنعكم من أن تصدقوه ) .قالوا : إنه عدونا . فعند ذلك قال الله عز وجل : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله )..إلى قوله عز وجل : (كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعملون ) ،فعند ذلك باؤا بغضب على غضب الآية [رواه الإمام أحمد 1/278 ].
وكان عمر يذهب إلى يهود ، ويأتيهم ، يقول عمر رضي الله عنه : فبينما أنا عندهم ذات يوم ، قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك . قلت : ولم ذلك ؟ قالوا : إنك تغشانا وتأتينا . قال قلت : إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان ؟! قال : ومر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فقالوا : يا ابن الخطاب ! ذاك صاحبكم فالحق به .
فقلت لهم عند ذلك : أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو ، وما استرعاكم من حقه ، واستودعكم من كتابه ، أتعلمون أنه رسول الله ؟؟ قال : فسكتوا !! فقال عالمهم وكبيرهم : إنه قد عظم عليكم ، فأجيبوه . قالوا : أنت عالمنا وسيدنا ، فأجبه أنت . قال : أما إذ أنشدتنا به ، فإنا نعلم أنه رسول الله!
قلت ويحكم ! - أي هلكتم - قالوا : إنا لم نهلك . قال :قلت كيف ذاك ؟ وأنتم تعلمون أنه رسول الله ، ثم لا تتبعونه ، ولا تصدقونه؟!!
قالوا : إن لنا عدواً من الملائكة وسلما من الملائكة ، وإنه قرن به عدونا من الملائكة. قلت : ومن عدوكم ، ومن سلمكم ؟ قالوا : عدونا جبريل ، وسلمنا ميكائيل [تفسير الطبري 1/433 ، وانظر فتح الباري 8/661 ].
وهذه شهادة ابن صوريا ، وكان أعلم من بقي من يهود بني قريظة بالتوراة ، فقد جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قصة اليهودي واليهودية الذين زنيا ، فقال : ( يا معشر يهود ! أخرجوا إلي علماءكم ) .فأُخرج له عبد الله بن صوريا ، ومعه أبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا . فسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى حصل أمرهم ، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة . فخلا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا ، فألظ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسألة ، يقول له : ( يا بن صوريا أنشدك الله ، وأذكرك بأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟) قال: اللهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم ! إنهم ليعرفون أنك لنبي مرسل ،ولكنهم يحسدونك .
ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، وجحد نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى فيهم : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) [ابن إسحاق ، انظر السيرة النبوية لابن هشام 3/103 ].
وكانوا يصرحون بانطباق ما يعرفونه من صفات في كتبهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلا منهم جاء إلى مسجده ، فقال : ( يا فلان ). فقال : لبيك يا رسول الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أتشهد أني رسول الله ). قال : لا . قال : ( أتقرأ التوراة ؟ ) . قال : نعم ، والإنجيل .قال : ( والقرآن ؟ ) .قال : والذي نفسي بيده ، لو أشاء لقرأته . ثم ناشده : ( هل تجدني في التوراة والإنجيل ؟ ). قال : أجد مثلك ، ومثل هيأتك ، ومثل مخرجك !وكنا نرجو أن يكون منا ، فلما خرجت تحيرنا أن يكون أنت هو ، فنظرنا فإذا ليس أنت هو. قال: ( ولم ذاك ؟ ).قال : إن معه من أمته سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير نجاسة ولا عذاب ، ومعك يسير .قال : ( فوالذي نفسي بيده لأنا هو ، وإنهم لأمتي ، إنهم لأكثر من سبعين ألفا وسبعين ألفا ).[ قال الهيثمي :رواه الطبراني ، ورجاله ثقات من أحد الطريقين ، انظر مجمع الزوائد للهيثمي 8 /242 ].
ثم تأمل هذا المسلك الذي اتخذه اليهود ليحرفوا الكلم عن مواضعه، ولينكروا نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم - إذا خرج في الوقت والمكان وبالصفة التي علموها . يقول أحمد حجازي - في كتابه البشارة بنبي الإسلام 1/132- : أن كثيرا من علماء بني إسرائيل يقولون : أن اسم ( محمد ) – صلى الله عليه وسلم - قد ورد في التوراة ، في سياق بركة إسماعيل – عليه السلام - بحساب ( الجمل ). ليعرف الناس أنه بظهوره يبدأ ملك بني إسماعيل .
ثم يورد حجازي شهادة أحد علمائهم الذين أسلموا ، وهو شموئيل بن يهوذا بن أيوب ، الذي سمى نفسه بعد إسلامه : ( السموءل بن يحي ) ، فقد ذكر في كتابه ( بذل المجهود في إفحام اليهود ) تحت عنوان : الإشارة إلى اسمه – صلى الله عليه وسلم :
ما جاء في الجزء الثالث من السفر الأول من التوراة أن الله تعالى خاطب إبراهيم عليه السلام : ( وأما في إسماعيل فقد قبلت دعاءك . قد باركت فيه . وأثمره ، وأكثره جدا جدا ) .
ذلك قوله – أي باللغة العبرانية - : ( ولشماعيل . شمعتيخا . هني . بيراختى . أوتو . وهفريتى . أوتو . وهربيتي . أوتو بماد ، ماد ) .
فهذه الكلمة ( بماد ماد ) إذا عددنا حساب حروفها بالجمل . وجدناه اثنين وتسعون . وذلك عدد حساب حروف (محمد ) – صلى الله عليه وسلم - فإنه أيضا اثنان وتسعون . وإنما جعل ذلك في هذا الموضع مُلغّزاً. لأنه لو صرح به لبدلته اليهود وأسقطته من التوراة . يقول حجازي معلقا : ولم لا يقول شموئيل : أن الله تعالى قد صرح به من قبل أن تغير التوراة ، واليهود هم الذين غيروا الاسم الصريح بالرمز في مدينة بابل ، ليعرفوه هم أنفسهم إذا جاء ، ويسهل عليهم جحد نبوته إذا جاءهم بما لا تهوى أنفسهم ؟!