عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 02-02-2007, 06:39 PM
الصورة الرمزية المستغفرة
المستغفرة المستغفرة غير متصل
عضو مبدع
 
تاريخ التسجيل: Jan 2007
مكان الإقامة: سوريا
الجنس :
المشاركات: 1,063
الدولة : Syria
افتراضي

والظاهر أنه عطِف بـ﴿أَوْ ﴾هنا؛ لأنه قُصِد التنويع. ويفهم من السياق في المثلين أن التنويع ليس لتنوع الأعمال؛ وإنما هو لتنوع الأحوال الداعية إلى تشبيهها مرة بالسراب الكاذب، ومرة أخرى بالظلمات الكثيفة. حكى الشوكاني في(فتح القدير) عن الزجاج قوله:أعلَمَ الله سبحانه أن أعمال الكفار، إن مثلت بما يُوجَد، فمثلها كمثل السراب، وإن مثلت بما يُرَى، فهي كهذه الظلمات التي وصف .
أما تشبيهها بالسراب فيكون لمن سكن الجزيرة العربية، أو جاورها. وفي هذا التشبيه يتجلىسطح الصحراء العربية المنبسط، والخداع الوهمي للسراب.. ذلك الخداع، الذي لا يدركه إلا أبناء البيئة الصحراوية.
وأما تشبيهها بالظلمات الكثيفة فيكون لمن لا يعرف شيئًا عن البيئة الصحراوية وأسرارها؛ لأنه يترجم- على عكس الأول- عن صورة، لا علاقة لهابالوسط الجغرافي للقرآن الكريم؛ بل لا علاقة لها بالمستوى العقلي، أو المعارف البحرية في العصر الجاهلي؛ وإنما هي في مجموعها منتزعة من بعض البلدان الشمالية التي يغشاها الضباب الكثيف، وتحيط بها مياه البحار والمحيطات من كل جانب. هذا ما يشير إليه تشبيه الأعمال بالظلمات الكثيفة في أعماق البحار نتيجة لتراكب الأمواج والسحاب. وذلك يستلزم من القائل أن يكون على معرفة علمية بالظواهر الخاصة بقاع البحار، وهي معرفة، لم تُتَحْ للبشرية، إلا بعد معرفة جغرافية المحيطات، ودراسة البصريات الطبيعية.
وغني عن البيان أن نقول: إن العصر القرآني كان يجهل كلية تراكب الأمواج، وظاهرة امتصاص الضوء، واختفائه على عمق معين في الماء. وعلى ذلك فما كان لنا أن ننسب هذا القول إلى عبقرية صنعتها الصحراء، ولا إلى ذات إنسانية صاغتها بيئة قاريَّة؛ كالتي عاش فيها محمد عليه الصلاة والسلام.. وهذا إعجاز جاء به القرآن الكريم إلى جانب إعجازاته الكثيرة.
﴿ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾
و﴿بَحْرٍ لُّجِّيٍّ ﴾منسوب إلى اللجَُّّة؛ وهو الذي لا يكاد يدرك قعره. ولُجَّة البحر: تردُّد أمواجه. قال تعالى:﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً ﴾(النمل:44).والجمع: لجج.تقول العرب‏: إلتجَّ البحر‏. أي‏:‏ تلاطمت أمواجه.‏
و﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ ﴾. أي: يستره ويغطيه. قال تعالى:﴿وإذا غشيهم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾(لقمان:32). أي: علاهم موج كالجبال. ومثله قوله تعالى:﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ﴾(طه:78). والموج في البحر ما يعلو من غوارب الماء.
و﴿مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾. أي: من فوق ذلك الموج، الذي يغشى البحر اللجي موج آخر، ومن فوق هذا الموج الآخر سحاب. والسحاب هو الغيم، كان فيه ماء، أو لم يكن. ولهذا يقال: سحاب جَهَامٌ. أي: لا ما فيه. ويقال عكسه: سحاب ثِقال. قال تعالى:﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾(الرعد:12).أي: المحمل بالمطر. وقد يذكَّر لفظه، ويراد به الظلُّ والظلمة؛ كما في هذه الآية:﴿مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾.
وقرأ جمهور السبعة:﴿سَحَابٌ ﴾، بالرفع والتنوين، و﴿ظُلُمَاتٌ ﴾، بالرفع على معنى: هي ظلماتٌ. وقرأ ابن كثير في رواية قنبل:﴿سَحَابٌ ﴾، بالرفع والتنوين، و﴿ظُلُمَاتٍ﴾، بالخفض على البدل من﴿ظُلُمَاتٍ ﴾ الأولى. وقرأ ابن محيصن والبزي:﴿سَحَابُ ظُلُمَاتٍ ﴾، بإضافة سحاب إلى ظلمات. ووجه الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة.
ويرى العلماء أن أسباب وجود هذه الظلمات في البحار اللجيَّة ترجع في الحقيقة إلى سببين رئيسين:
أما السبب الأول فهو العمق. فإن الجزء المرئي من أشعة الشمس، الذي ينفذ إلى كتل الماء في البحار والمحيطات،يتعرض لعمليات كثيرة من الانكسار‏,‏ والتحلل إلى الأطياف المختلفة، والامتصاص بواسطة كل من جزيئات الماء‏,‏ وجزيئات الأملاح المذابة فيه‏,‏ وبواسطة المواد الصلبة العالقة به‏,‏ وبما يحيا فيه من مختلف صور الأحياء‏,‏ وبما تفرزه تلك الأحياء من مواد عضوية‏؛ ولذلك يضعف الضوء المار في الماء بالتدريج مع العمق‏.‏
والطيف الأحمر هو أول ما يمتص من أطياف الضوء الأبيض. ويتم امتصاصه بالكامل على عمق، لا يكاد يتجاوز العشرين مترًا‏.‏فلو أن غواصًا جرح، وهو يغوص في ماء البحر، فإن الدم، الذي يخرج منه يكون أسودًا؛ لأن اللون الأحمر ينعدم تمامًا، ويصبح هناك ظلمة اللون الأحمر.ويليه الطيف البرتقالي، الذي يتم امتصاصه على عمق ثلاثين مترًا. ثم يليه الطيف الأصفر، الذي يتم امتصاصه زرق اللون، لتشتت هذا الطيف من أطياف الضوء الأبيض في المائتي متر العليا من تلك الكتل المائية‏.‏
وبذلك فإن معظم موجات الضوء المرئي تمتص على عمق مائة متر تقريبًا من مستوي سطح الماء في البحار والمحيطات‏,‏ ويستمر1% منها إلى عمق‏ مائة وخمسين مترًا‏,‏ و‏0,01%‏ إلى عمق‏ مائتيْ مترٍ في الماء الصافي الخالي من العوالق‏.‏
وعلى الرغم من السرعة الفائقة للضوء,‏ فإنه لا يستطيع أن يستمر في ماء البحار والمحيطات لعمق يزيد على الألف متر‏,‏ فبعد مائتي متر من أسطح تلك الأوساط المائية يبدأ الإظلام شبه الكامل؛ حيث لا ينفذ بعد هذا العمق سوى أقل من‏0,01%‏ من ضوء الشمس‏,‏ ويظل هذا القدر الضئيل من الضوء المرئي يتعرض للانكسار والتشتت والامتصاص حتى يتلاشى تمامًا على عمق، لا يكاد يصل إلي كيلومتر واحد تحت مستوى سطح البحر‏؛‏ حيث لا يبقى من أشعة الشمس الساقطة على ذلك السطح سوى واحد من عشرة تريليون جزء منها‏.‏ ثم تغرق أعماق تلك البحار والمحيطات بعد ذلك في ظلام دامس‏.‏
وأما السبب الثاني فهو الحواجز من الموج الداخلي، والموج الخارجي، والسحاب. فهذه كلها حواجز، تمنع مرور الشعاع الضوئي إلى الأسفل.
والموج الداخلي هو الذي يعلو البحر اللجِّي ويغطيه، ويعكس معظم ما بقي من الأشعة الشمسيةالساقطة على أسطح البحار والمحيطات‏,‏ ويحول دون الوصول إلى أعماقها. وبذلك يكون السبب الرئيس في إحداث الإظلام التام فوق قيعان البحار اللجية.ويتكون هذا الموج الداخلي عند الحدود الفاصلة بين كل كتلتين مائيتين مختلفتين في الكثافة‏. ويبدأ تكونه على عمق أربعين مترًا تقريبًا من مستوى سطح الماء في المحيطات؛ حيث تبدأ صفات الماء فجأة في التغير من حيث كثافتها ودرجة حرارتها‏,‏ وقد تتكرر على أعماق أخرى، كلما تكرر التباين بين كتل الماء في الكثافة‏.‏
ومن فوق هذا الموج الداخلي موج آخر، يسمَّى بالموج السطحي، الذي يعدُّ أحد العوائق أمام مرور الأشعة الشمسية. وبذلك يعد أحد الأسباب في إحداث ظلمة تلك الأعماق‏,‏ بالإضافة إلى تحلل تلك الأشعة إلي أطيافها، وامتصاصها بالتدريج في الماء‏.‏
ومن فوق هذا الموج السطحي يأتي السحاب، الذي يمتص حوالي‏ تسعة عشر جزءًا بالمائة من الأشعة الشمسية المارة من خلاله. ويحجب بالانعكاس والتشتيت نحو‏ ثلاثين جزءًا بالمائة منها‏‏,‏ فيحدث قدرًا من الظلمة النسبية، التي تحتاجها الحياة على سطح الأرض‏.‏وبذلك تجتمع ظلمة الموج الداخلي، وظلمة الموج السطحي، وظلمة السحاب مع ظلمات الأطياف السبعة، التي يحدثها امتصاص الماء لتلك الأطياف.
والله سبحانه عندما يصف هذه الظلمات، ينسبها إلى عمق البحر اللجي:﴿كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ﴾.
ثم يقول سبحانه:﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴾؛ وكأنه يقول لنا: هذه الظلمات الكثيفة المتراكبة سببها الأعماق، وسببها الحواجز. ومن المعروف أنلفظ﴿ظُلُمَاتٌ ﴾من جموع القلة. وجمع القلة من ثلاثة إلى عشرة. فأنت تقول: ظلمة، وظلمتان، وثلاث ظلمات إلى عشر ظلمات. والظلمات التي تتحدث عنها الآية الكريمة هي عشر ظلمات: سبع منها للألوان، وثلاث للحواجز(الأمواج الداخلية، والأمواج السطحية، والسحاب).
ثم عقب سبحانه على ذلك بقوله:﴿إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾مبالغة في بيان شدة هذه الظلمات. والمعنى: إذا أخرج من ابتليَ بهذه الظلمات يده من كمِّه، لم يكد يراها.وجاز إضمار الفاعل- هنا- من غير أن يتقدم ذكره، لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة.وكذا تقدير ضمير يرجع إلى ظلمات. واحتيج إليه؛ لأن الجملة في موضع الصفة لظلمات، ولا بد لها من رابط. وقيل: ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل. أي: إذا أخرج المخرج فيها يده، لم يكد يراها.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 32.19 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 31.58 كيلو بايت... تم توفير 0.61 كيلو بايت...بمعدل (1.89%)]