وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا

دكتور/ أحمد مليجي
أستاذ مساعد في مجال الجيولوجيا البيئية
قسم العلوم الجيولوجية - المركز القومي للبحوث- الدقي- القاهرة
قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا﴾ [سورة الأعراف].
أقوال المفسرين في الآية :
في تفسير تأويل قوله تعالى «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ» [سورة الأعراف:58].
ذكر الطبري: القول في تأويل قوله تعالى « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ»، أي والبلد، الطيبة تربته العذبة مشاربه، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث، وأرسل عليه الحيا بإذنه، طيبا ثمره في حينه ووقته، وقوله تعالى «وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا» أي والذي خبث فردؤت تربته وملحت مشاربه لا يخرج نباته إلا نكدا.
وجاء في تفسير القرطبي: قوله تعالى « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا »، أي التربة الطيبة والخبيثة التي في تربتها حجارة أو شوك؛ وقيل: معناه التشبيه، شبه تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب، ومتبلد الفهم بالذي خبث؛ وقيل: هذا مثل للقلوب؛ فقلب يقبل الوعظ والذكر، وقلب فاسق ينبو ويعرض عن ذلك.
وذكر ابن كثير: « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ » أي والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعا حسنا، وقوله تعالى « وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا » قال مجاهد وغيره كالسباخ ونحوها، وقال علي ابن أبى طلحة عن ابن عباس في هذه الآية هذا مَثل ضربه الله ليبين الفروق بين المؤمن والكافر.
وجاء في فتح القدير: قوله تعالى « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ »، أي التربة الطيبة يخرج نباتها بإذن الله وتيسيره إخراجا حسنا تاما وافيا ، « وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا » أي والتربة الخبيثة لا يخرج نباتها إلا نكدا، أي لا خير فيه، قيل ومعنى الآية التشبيه، شبه الله تعالى السريع الفهم بالبلد الطيب، والبليد بالبلد الخبيث، ذكره النحاس وقيل: هذا مثل للقلوب فشبه القلب القابل للوعظ بالبلد الطيب والنائي عنه بالبلد الخبيث ، قاله الحسن. وقيل: هو مثل لقلب المؤمن وقلب المنافق، قاله قتادة ، وقيل: هو مثل للطيب والخبيث من بني آدم.
وجاء في تفسير الظلال: بأن الله عز وجل شبه قلب الإنسان بالتربة الزراعية، حيث تنبت المشاعر والأحاسيس والنوايا والاتجاهات في قلبه، لذلك فالقلب الطيب ينبت فيه الخير، مثل الأرض الطيبة التي تنبت الثمار الناضجة، والقلب الخبيث ينبت فيه الشر، مثل الأرض الخبيثة التي لا تنبت إلا هشيما. فالقلب الطيب يهدي لله ويعمل بما جاء في كتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، والقلب الخبيث كالأرض البور يصد عن ذكر الله، ولا يخرج منه إلا نكدا على نفس صاحبه وعلى المحيطين به من البشر.
الدلالات اللغوية:
من التأملات اللغوية في دلالات بعض الألفاظ القرآنية الواردة في الآية الثامنة والخمسين من سورة الأعراف كما يلي:
أولا: قوله تعالى: (الطيب):
جاء في المعاجم: الطَّيِّبُ: أي كل ما تستلذه الحواس أو النفس: و كل ما خلا من الأذى والخبث ، ومن تخلى عن الرذائل وتحلى بالفضائل ، فيقال فلان طيب القلب: أي طاهر الباطن ، وبلدة طيبة: أي كثيرة الخير آمنة أو مأمونة من الآفات، وتربة طيبة: أي جيدة طاهرة تصلح للنبات. و طُعمة طيبة: حلال ، و ريح طيبة: لينة، و نكهة طيبة: ذكية الرائحة لا نتن فيها.
ثانيا: قوله تعالى: (خبث):
جاء في المعاجم: خَبُثَ: الشئُ – خُبثـَا، وخَباثَةً، وخَباثـيةً أي صار فاسدا رديئا مكروهَا. وفلان: صار ذا خُـبْثٍ فهو خبيثٌ وجمعها خٌبَثَاء ، وخُبُـثٌ ، وخَبَثَـة ، وأخباثُ. (جج) الأخير: أخابيث: وهي خبيثة، (ج) خبائث.
ثانيا: قوله تعالى: (نكدا):
فالنكد: العسر بشدته الممتنع من إعطاء الخير على وجه البخل ، تقول: نكد ، ينكد، نكدا. و"نكدا" بفتح الكاف، هو مصدر بمعنى ذا نكد، وجاء في المعاجم أيضا: النَكِدُ: الشحيح والقليل النفع ، والنَّكَـدُ: أي كل شئ جر على صاحبه شرا ، ويقال أرض نكدة أي قليلة الخير.
من الدلالات العلمية:
في قوله تعالى « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ » [سورة الأعراف:58].
أولا: خروج النبات طيبا:
تشير الآية الكريمة من قوله تعالى « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ.....» إلى أن البلد، الطيبة تربته، العذبة مشاربه (كما جاء في تفسير الطبري)، يخرج نباته بإذن الله وتيسيره إخراجا حسنا تاما وافيا في حينه ووقته (كما جاء في تفسير فتح القدير). كما يشير قوله تعالى « وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ » إلى خروج النبات طيبا – بحول الله وقدرته – من خلال وسط بيئي موزون ، كما أشار المولى عز وجل إلى ذلك في موضع آخر قائلا « وأنبتنا فيها من كل شئ موزون » [سورة الحجر:19]. ويعتبر هذا التقدير الدقيق هو الأصل في خلق الله عز وجل للنبات الطيب ، وهو الظاهرة العامة في توازن الوسط البيئي كما بين المولى سبحانه وتعالى «وكل شئ عنده بمقدار » [سورة الرعد:8]، وقال عز من قائل: « إنا كل شئ خلقناه بقدر » [سورة القمر:49]، وقال عز وجل « وإن من شئ إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم » [سورة الحجر:21].
ولقد وضح الله عز وجل خطوات إخراج النبات في صورته البهيجة في تسلسل علمي غاية في الدقة، و هذا ما أشارت إليه الآية الخامسة من سورة الحج ، حيث قال عز من قائل: «وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ و َأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ «، حيث تشير هذه الآية إلى عملية إنزال المطر، ثم يليها عملية اهتزاز التربة، و ما يتبعها من عملية ربُوّ التربة و زيادتها، وذلك نتيجة نشاط عمليات التجوية الجيوكيميائية و ما يصاحبها من انفصال العناصر المغذية للنبات، وأخيرا يخرج النبات طيبا بهيجا.
ولقد تناول الباحث بإسهاب الإعجاز العلمي في هذه الآية الكريمة في المؤتمر العالمي السابع للإعجاز العلمي في القرآن والسنة بدبي 2004 م، موضحا التسلسل الدقيق و التوازن البديع لخروج النبات طيبا بهيجا، في وسط طيب جميل ، من أجل الإنسان. فقد بين الله عز وجل في موضع آخر تتابع عملية الإنبات من خلال الإشارة القرآنية المعجزة في الآيات الكريمات التي جمعت بين صب الماء، وشق الأرض، والإنبات في تسلسل دقيق معجز يقول ربنا (تبارك وتعالى): « فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ، فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ« [سورة عبس:24-32]. وهذا التسلسل المعجز في تسع آيات قصار ، تشكل الطعام الرئيسي المتنوع في محتوياته ومكوناته المغذية لكل من الإنسان والأنعام، ولذا خُتمت بقول الحق (تبارك وتعالى): «مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ«. ومن هنا أكد الله عز وجل في موضع آخر من سورة السجدة (آية:27) على أهمية الزرع لكل من الحيوان والإنسان قائلا « أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ «. وتشير هذه الآية الكريمة إلى أهمية الزرع لكل من الأنعام والإنسان ، ولذا نجد من خطورة التلوث أنه يصيب كل من النبات والحيوان والإنسان ويدمر الجميع. وتقديم الأنعام على الإنسان في قوله تعالى « فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ « يشير إلى أهمية النظام الغذائي للحيوان الذي يعتمد على النبات كمصدر وحيد للغذاء ، أما الإنسان فيعتمد في طعامه على كل من الإنتاج النباتي والحيواني. ولكن عندما اخترق الإنسان هذه السنة الكونية، و أصبح يُطعم الأنعام طحينا حيوانيا من أجل زيادة الإنتاج الحيواني في وقت وجيز، فكانت الكارثة الكبرى بظهور مرض جنون البقر وأمراض أخرى عديدة مما أدى إلى هلاك الملايين من رؤوس الماشية ، ولذلك عقـََّب الله، سبحانه وتعالى، هذه الآية بـ «أفلا يبصرون« أي اعتبروا أيها الناس بهذا المنهج الرباني ولا تخالفوه.
ثانيا: خبث الوسط:
يُعرّف علماء البيئة خبث الوسط البيئي، بأنه: تغيير في الخواص الطبيعية والكيميائية والبيولوجية المحيطة بالإنسان – من ماء وتربة وهواء – و الذي قد يسبّب أضرارا لحياة الإنسان أو غيره من الكائنات الحية الأخرى. وقبل أن نوضح أسباب خبث الوسط البيئي، نجد أنه من الأهمية بمكان، أن نعرّف باختصار شديد مكونات الوسط البيئي وكيفية توازنه الرائع بقدرة الخالق سبحانه وتعالى، وذلك كمدخل لمعرفة تحول الوسط البيئي من الحالة الطيبة التي خلقها الله بقدرته من أجل الإنسان، إلى الحالة الخبيثة التي فعلها الإنسان بيديه. فما هي المكونات الأساسية للوسط البيئي؟
المكونات الأساسية للوسط البيئي
المكون الأساسي الأول للوسط البيئي: الماء
الماء هو أصل الحياة. ولا يمكن الاستغناء عنه، وصدق الحق – عز وجل – حين قال في محكم كتابه :« وجعلنا من الماء كل شيء حي « [سورة الأنبياء:30]. فالماء معجزة من معجزات الخالق سبحانه وتعالى، وهو النعمة المهداة من الخالق العظيم إلى جميع مخلوقاته، حتى تستمر الحياة إلى ما شاء الله لها أن تكون. وقال تعالى « هُوَ الَّذي أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُون، يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَْعْنابَ وَمِن كُلِّ الَّثمَراتِ إِنَّ في ذلِكَ لأَيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُون « [سورة النحل: 10-11].
و يتكون الماء من أجسام متناهية الصغر، تسمى "جزيئات". و قطرة الماء الواحدة تحتوي على الملايين من هذه الجزيئات، وكل جزيء من هذه الجزيئات يتكون من أجسام أصغر تسمي ذرات، ويحتوي جزيء الماء الواحد على ثلاثة ذرات مرتبطة ببعضها برابطة تساهمية (Covalent Bond)، هما ذرتي الهيدروجين والأكسجين وتشكلان زاوية مقدارها 105 درجات. وتركيبه الكيميائي كما هو معروف (H2O) (شكل 1). ولذلك كان من بديع صنع الله الخالق – سبحانه وتعالى– و روائع حكمته أن جعل هذا البناء الجزيئي الفريد للماء ما يميزه عن غيره من السوائل والمركبات الهيدروجينية، ويتضح ذلك في قطبيته الكهربية الواضحة التي جعلت منه أقوى مذيب على سطح الأرض، وجعلت لجزيئاته قوة تلاصق وتماسك عالية جدا فيما بينها، وذلك لترابط جزيئات الماء فيما بينها برابطة تعرف باسم الرابطة الهيدروجينية.
شكل (1): يبين تركيب جزئ الماء.
وبالإضافة إلى ذلك فإنه من فضل الله على عباده ورحمته ولطفه بهم أنه ينزل ماء المطر من السماء خاليا من الشوائب، وفي غاية النقاء والصفاء عند بدء تكوينه، ويظل الماء نقيا إلى أن يصل إلى سطح الأرض، كما قال تعالى « وأنزلنا من السماء ماءا طهورا« [سورة الفرقان: 48]. ومن خصائصه أنه سائل لا لون و لا طعم و لا رائحة له، إذا كان نقيا، وهو متعادل (أي ليس بحمضي ولا قلوي)، إذا كان في حالته النقية ، فقيمة مقياس رقمه الهيدروجيني هي 7 – سبحان الله – وإذا تدخل الإنسان وغيَّر من هذه الخصائص فإنه يتحول من حالته المتعادلة، ليصبح حمضيا أو قاعديا ، كما سيأتي ذكره، مسببا مشاكلا بيئية كثيرة، تؤدي إلى خبث الوسط البيئ