الحركة الفكرية
ليس من السهل أن يبدأ شعب مسيرة منظمة نحو الخلاص مباشرة بعد تعرضه لمأساة كالطرد من البلاد أو التشتيت والتشريد. فهناك فترة للعق الجراح والبحث عن أساسيات العيش مثل البحث عن مأوى ومصدر للطعام. يهيم الناس فرادى وجماعات باحثين عن حلول سريعة لحاجاتهم الأولية والملحة، ومن ثم يبدؤون بتحسس الأواصر الاجتماعية وإعادة بناء النسيج الاجتماعي بقدر الإمكان وإقامة العلاقات التي يمكن أن تشكل بالنسبة لهم ركائز هوية جماعية. وإذا سارت الأمور على ما يرام وبدأت الحياة الاقتصادية والاجتماعية تستقر يتوفر لدى الناس الوقت للتفكير بما هو أبعد من الحاجات الأولية ويصبحون في وضع نفسي يتقبل الجدل والنقاش حول المستقبل. وهذا ما يمكن أن يوفره الكتاب والمفكرون على نطاق واسع.
لا تختفي الأدبيات من تاريخ الشعوب حتى في أشد الأوقات صعوبة وحلكة. لكنها بداية تتميز بالانفعالات أو وصف الكوارث أو الحنين وما شابه ذلك. غالبا ما تكون الأدبيات ملتصقة بالماضي بادئ الأمر، وتدريجيا تتحول إلى رؤى المستقبل التي تنطوي غالبا على طروحات الخلاص. هكذا كان الأمر بالنسبة لليهود الذين ساروا بالفعل تدريجيا من الانشغال بالأمور المعيشية إلى الفكر الخلاصي ومن ثم إلى التنظيم العملي الذي وضع الفكرة موضع التطبيق. بدأت الأفكار بأشواق وحنين وتطورت إلى تنظيمات غيبية منفصلة عن الواقع، وما أن أخذ البعد الاجتماعي بالتبلور والاستقرار على نحو معين حتى بدأ الكتاب يطرحون صيغا متصاعدة في طموحاتها. لا مجال هنا لمناقشة كل الأفكار والطروحات ويُكتفى بطرح آراء بعض المفكرين اليهود الذين سبقوا الصهيونية ومهدوا لها.
ظهر في القرون الوسطى في مصر رجل دين يهودي اسمه موسى بن ميمون أخذ على عاتقه جمع عدد من التعاليم والاجتهادات حول التوراة. وحيث أنه كان متأثرا بأرسطو، حاول أن يصنف معلوماته على أسس عقلانية ومنطقية ووضع كتابا عنونه مشنيه هتوراه أو التوراة الثانية. تبعه رجل دين آخر من سكان صفد اسمه يوسف كارو. عمل هذا أيضا على تجميع الشرائع اليهودية ومن ثم اختصرها في كتاب عنونه شولحان هأروخ أو الطاولة الطويلة.
كان يهودا الكلعي السفاردي من يهود بلغاريا أول من دعا إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين وذلك في كتاب نشره عام 1839. تلاه كاتب آخر يدعى تسفي كاليشر والذي كتب كتابا بعنوان دريشات صهيون أو طلب صهيون دعا فيه إلى ضرورة اجتماع قادة اليهود للتخطيط لاستيطان ما أسماه بأرض إسرائيل. وقد تعاون مع جمعية فرنسية لإقامة المدرسة الزراعية التي أقامها اليهود في يافا عام 1870. ظهر في تلك الفترة موشي هس الذي نشر كتبا بعنوان روما والقدس. أشاد هس بما أسماه القومية اليهودية وقال بأن الأمم تعلمت الفكر القومي من اليهود الذين تعاملوا مع أنفسهم على أنهم قومية منذ ظهور التعاليم الدينية اليهودية. وأضاف بأن حل المشكلة اليهودية يكمن في بعث الأمل في صفوف اليهود والعمل على إقامة دولة يهودية على أرض الأجداد. ونصح اليهود بأن يعملوا على تثقيف العرب والأفارقة الذين وصفهم بالقطعان والمتوحشين وأن يجعلوا القرآن والإنجيل يدوران حول التوراة.
أما ديفيد غوردون الذي كان من المثقفين غير المتزمتين فدعا عبر صحيفة كان يحررها إلى شراء الأراضي في فلسطين والاستيطان فيها. لم يشذ عن هذا المفكر بيرتس سمولينسكن الذي دعا إلى إقامة منظمة يهودية عالمية من أجل حل المشكلة اليهودية وذلك من خلال الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وقال بأن اليهود مهددون بالإبادة حيثما حلوا إلا من أرض إسرائيل، وأن على اليهود أن يحيوا ثقافتهم ولغتهم. تبعه في ذلك موشي ليف ليلينبلوم الذي كان من الاندماجيين وارتجع. كتب في كتاب صغير صدر له عام 1884 بأن على اليهود أن يهاجروا إلى فلسطين التي هي أرض الأجداد كحل للمشاكل التي يلاقونها في أوروبا وحذر من الهجرة إلى أمريكا أو أي بلد آخر. وقال بأن أمام اليهود الخيارات التالية: البقاء فيما هم فيه أو التخلي عن ديانتهم أو الهجرة إلى فلسطين.
كان يهودا ليف بينسكر من أشهر الكتاب اليهود الذين برزوا بداية كمؤيدين للاندماج مع الشعوب الأخرى. كتب بينسكر يؤيد الاندماج وقال بأنه على اليهود تعلم اللغة الروسية والعيش في أي مكان في الديار الروسية. لكنه وقع تحت صدمة مجازر عام 1882 التي تمت ضد اليهود في روسيا على إثر اغتيال القيصر فغير أفكاره وكتب كتابا شهيرا بعنوان التحرير الذاتي قال فيه أن اليهود متميزون ولا يمكن إذابتهم في الشعوب الأخرى، وأن المشكلة اليهودية تُحل فقط عندما يصبح اليهود مقبولين كمتساوين مع الشعوب. وتحدث عن كراهية اليهود وقال أنها عبارة عن آفة تنتقل لدى الشعوب بالوراثة ولا حل لها إلا أن يكون لليهود مكانهم الخاص الذي يمارسون حياتهم عليه. وأعرب عن الاستعداد للقبول بأي مكان ولم يصر على فلسطين كشرط لإقامة الوطن القومي. اكتفى بالقول بأن اليهود بحاجة إلى بلاد خاصة بهم، لكنه أصبح رئيس جمعية أحباء صهيون التي نظمت أول حملة استيطانية في فلسطين.
كان أليعيزر بن يهودا أشد المتحمسين للهجرة إلى فلسطين. حمل لواء التمسك باللغة العبرية وعمل على نشرها وإقناع اليهود باستعمالها في نشاطاتهم اليومية. قال بأن اليهود قومية، وذلك يعني البلاد واللغة والثقافة القومية. وعلى عكس زملائه من المفكرين، أخذ يتكلم العبرية وهاجر إلى فلسطين تحت شعار أن الفكرة لا قيمة لها إن لم يتم تطبيقها
|