حقوق القرآن
د. أمير بن محمد المدري
الحمد لله الذي جعل في كل زمانٍ فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين وحجة الله على الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد..
فإنّ أعظمَ نعمة امتنّ الله بها على أمة الإسلام إنزال القرآن؛ ذلك الكتاب الذي لا غموض فيه ولا التباس، قال الله تعالى ممتنًا: ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء:10]، وقال الله تعالى لنبيه الكريم صلى الله عليه وسلم:﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [الزُّخرُف:44]. فإنزال الكتاب على هذه الأمة هو أكبر النعم، والنعمُ بعده موازنةً به مزيدُ فضل وإحسان من الغني الكريم.
ولا أدلَّ علي ذلك من حسد الأمم السابقة هذه الأمةَ على تلك النعمة العظيمة، فقد جاء عمرَ بن الخطاب رجلٌ من اليهود فقال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أي آية؟ قال: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، قال عمر: "قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة[1].
والقرآن هو حبل الله المتين الذي من تمسك به نجا وأفلح في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ﴾ [آل عمران:103]، وفي الطبري وابن كثير والقرطبي، "حبل الله: القرآن[2]..
وما مثلنا إلا كقوم في أرض تعج بالسباع، ولا سبيل للأمان فيها إلا بالدخول في حصن وحيد بها، فالحصن كتاب الله، والسباع ما نرى من الفتن التي تدع الحليم حيرانًا، فعن الحارث قال: "دخلت المسجد فإذا أناس يخوضون في أحاديث، فدخلت على علي فقلت: ألا ترى أن أناسًا يخوضون في الأحاديث في المسجد؟ فقال: قد فعلوها؟ قلت: نعم قال: أما إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ستكون فتن، قلت: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، هو الذي من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، فهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم ينته الجن إذ سمعته أن قالوا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ﴾ [الجن:1]، هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم[3].
وأنَّى لهذه الأمة التي أعزها الله بالإسلام والقرآن أن تجد عزة في سواه، وأن تتبوأ ذرى المجد بغيره.
ولهذا الحصن الحصين والدرع المتين، وكلام رب العالمين، حقوقٌ يجب أداؤها، وواجباتٌ لا بد من القيام بها، وفيما يلي بيانُ بعضها:
حق الإيمان والتصديق:
وهذا الحق لا يكون العبد مسلمًا إلا بأدائه، وهو الذي من أجله قام سوقُ الجنة والنار، وجردت سيوف الجهاد، وسالت دماء الأطهار والكفار، وقد تكررت الأوامر الإلهية به، مبينة أنه من أوجب الواجبات؛ قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء:136]، قال القرطبي والبغوي والشوكاني والواحدي وغيرهم: "الكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن[4].
وقد قال الله تعالى في صفة عباده المؤمنين: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [المائدة:83]، وقد ذم الله المكذبين بهذا الكتاب العظيم فقال: ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ﴾ [الزُّمَر:32].
وأنكر الله تعالى على المكذبين تكذيبَهم بالقرآن إذ لا مسوغ له مع ظهور بركة هذا الكتاب العزيز فقال: ﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴾ [الأنبياء:50]، وما كذَّب المكذبون بهذا الكتاب إلا جحودًا وعنادًا، وهم في أنفسهم يعلمون أنه الحق، وكم استخفى المشركون ليلًا ليستمعوا إلى النبي صلي الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن في تهجده، ولقد سجدوا مع النبي صلي الله عليه وسلم يوم قرأ سورة النجم لما أخذ القرآنُ منهم كلَّ مأخذ.
ومما لا شك فيه أن العبد لا يمكن أن يؤدي حق الإيمان بالقرآن ما لم ينفِ الأقوالَ الباطلة والعقائد الفاسدة من القول بخلق القرآن ونحوه، قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولًا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: ﴿ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ [المدثر: 26]، فلما أوعد الله بسقر لمن قال: ﴿ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 25]، علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر[5].
حق تلاوته:
تلاوة القرآن من الحقوق الجليلة التي أمر الله بها نبيه والأمةَ بعده؛ فقال تعالى لنبيه: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزَّمل:4]، وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدلنا على هذا الحق بطريقة فريدة في القرآن، إذ قال: ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ ﴾ النمل: 91، 92].
وقد مدح الله تعالى الذين يتلون القرآن حق التلاوة فقال: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [البقرة:121]، وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الماهر بالقرآن في معيَّة الملائكة الكرام فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ وهو يتعاهده وهو عليه شديد فله أجران"[6].
وأي فضل أجل وأعظم من بذل الجهد في قراءة القرآن وإمتاع النظر بآياته، وقد أوضح النبي -صلى الله عليه وسلم- ثواب التلاوة؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (آلم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"[7].
ويومَ يقوم الناس لرب العالمين يأتي القرآنُ شفيعًا لأصحابه؛ فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيامُ: أيْ ربِّ منعتُه الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل فشفعني فيه قال: فيشفعان"[8].
وعن أبي أمامة الباهلى قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرؤوا القرآن فإنه يأتى يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحجان عن صاحبهما اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركه وتركها حسره ولا تستطيعها البطله (السحرة"[9].
ومما يعين على أداء حق التلاوة ما يلى:
تعلم اللغة العربية، وإذا كان المسلم من الأعاجم فإن عليه أن يعرف من اللغة العربية ما يؤهله للقيام بحق التلاوة.
طلب علم التجويد، وهو العلم الذي موضوعُه كيفية قراءة القرآن الكريم على الوجه الصحيح.
الورد، فإن المسلم ينبغي أن يكون له ورد من القرآن يداوم عليه كل يوم، ويرجى لمن يقرأ كل يوم جزءًا من القرآن ألا يكون مفرطًا، ولكن لا يختمه في أقل من ثلاث لحديث عبد الله بن عمرو أنه قال: "يا رسول الله في كم أقرأ القرآن؟ قال: في شهر، قال: إني أقوى من ذلك، " ردد الكلام أبو موسى وتناقصه حتى قال: "اقرأه في سبع"، قال: إني أقوى من ذلك، قال: "لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث"[10].
حق حفظه:
وحافظ القرآن أولى بهذا الفضل المذكور في حق التلاوة؛ لأن الحفظ يشمل التلاوة، ولما في الحفظ من مشقة ولما يتميز به الحافظ من كون الوحي في صدره يقرأه متى شاء، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتَقِ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها"[11].
فتخيّل أخي نفسك في الجنة تقرأ الآية فتعلو بها درجة، واسأل نفسك الآن كم درجة تريد أن ترتقي؟ وليكن جوابك عملًا فالدرجة في الجنة بآية من القرآن، الثمن معروف والجزاء كذلك.
تنبيه:
وعلى المسلم أن يعلم أن الله تعالى لم يكلفه حفظ القرآن كاملًا، وأن الواجب عليه من ذلك ما يؤدي به صلاته، ويستشفي به إذا مرض، والصحابة لم يكن جميعهم يحفظ القرآن كاملًا، وكذلك لم يكن منهم من لا يحفظ منه شيئا.
على المسلم أن يعلم كذلك أن حق الحفظ يشمل التعهد والمراجعة، وقد روي مرفوعا: "عرضت علي أجورُ أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها "[12].
أما طريقة حفظ القرآن فالطريقة التي تناقلها المسلمون جيلًا جيلًا؛ حفظ الجديد، ومراجعة القديم.
وقد امتدح الله تعالى حُفَّاظ كتابِه ووصفهم بأنهم من أهل العلم؛ لأنهم يحملون القرآن في صدورهم فقال عز وجل: ﴿ بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ [العنكبوت: 49]، وإِنَّ مَنْ لم يحفظْ القرآن العظيم كاملًا، فَلْيحفظْ ما تيسر منه، فقد وجَّهَنا النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى حفظ آياتٍ مُعَيَّنة، كقوله: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ مَنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهفِ، عُصِمَ مِنَ الدَّجال»[13].
ثم إن على مَنْ حَفِظَ القرآنَ كلَّه أو شيئًا منه أن يتعهدَّه بالقراءة والتِّلاوة حتى لا ينساه، فقد أرشدنا النبيُّ الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بقوله المبارك: «إنَّما مَثَلُ صَاحِب القُرآن كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ المُعَقَّلةِ: إِنْ عَاهَدَ عَلَيْه أَمْسَكَهَا، وإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ» [14].
وزاد مسلم: «وَإِذَا قَامَ صَاحِبُ القُرآنِ فَقَرأَهُ بِاللَّيلِ والنَّهارِ ذَكَرَهُ، وإذا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ». وقال أيضًا: «تَعَاهَدُوا هذا القُرآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإِبِلِ في عُقُلِهَا»[15].
وقد نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نسيان القرآن، ونهى كذلك عن قول الرجل نَسِيتُه، فقال: «بِئْسَ مَا لأِحَدِهِمْ يَقُولُ: نَسِيتُ آيةَ كَيتَ وكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّيَ، اسْتذْكِرُوا القُرآنَ، فَلَهُوَ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ بِعُقُلِهَا» [16].
وسبب الذم ما فيه مِنَ الإِشعار بعدم الاعتناء بالقرآن، إذْ لا يقع النِّسيان إلاَّ بترك التعاهد وكثرة الغفلة، فلو تعاهده بتلاوته والقيام به في الصلاة لدام حِفظُه وتذكُّرُه، فإذا قال الإنسان: نَسيت الآية الفلانية، فكأنما شهد على نفسه بالتَّفريط.
حق التدبر:
قال الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر:17]، قال ابن كثير: "أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس [17]، فهو كتاب سهل الله ألفاظه فهي سهلة عذبة تدعو قارئها للتأمل والتدبر والاعتبار والاتعاظ، قال الطبري: "يعني ليتدبر هذا القرآن من أرسلناك إليه من قومك يا محمد"[18].
وليست العبرة في التلاوة أن يُقرأ القرآن مرات متعددة دون أن يصاحبها إدراك لما يُقرأ، والترتيل والتدبر مع قلة مقدار القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها، لأن المقصود من القراءة الفهم والتدبر والعمل.
والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعنى بصورة كاملة، وبالشكل المطلوب، ومن أجل ذلك كانت القراءة بتمهل خطوة نحو التدبر.
وقد جاء التوبيخ والتبكيت لمن غفل عن التدبر؛ فقال الله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء:82]، قال الشوكاني: "دلت هذه الآية على وجوب التدبر للقرآن ليعرف معناه[19].
وقوله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82]، قال الشوكاني: "المعنى: أنهم لو تدبروه حق تدبره لوجدوه مؤتلفًا غير مختلف، صحيح المعاني قوي المباني بالغًا في البلاغة إلى أعلى درجاتها ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ أي: تفاوتًا وتناقضًا[20]
فالله تعالى كما سهل ألفاظه للقارئين فقد سهل معناه للمتدبرين، فلا اختلاف في أحكامه، ولا تضارب في أخباره، بل يصدق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا.
وقد بين الله عز وجل سبب إعراض المعرضين عن تدبر كتابه الكريم فقال: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد:24]، فسبب انصراف المنصرفين عن كتاب رب العالمين ما في قلوبهم من الأقفال، فمن وجد في نفسه انصرافًا عن تدبر القرآن، فليعلم أنه مبتلى ابتلاءً عظيمًا وليستعن بفالق الإصباح ليزيل ما بقلبه من غشاوة لينعم بضياء القرآن.
ولقد حفظ ابن عمر سورة البقرة في سنين ذوات عدد، إذ كان يقف عند كل آية منها متدبرًا متفكرًا، قال مجاهد بن جبر: "عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلي خاتمته، أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها[21].
وقال ابن أبي مليكة: "رأيت مجاهدا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، ويقول له ابن عباس: اكتب حتى سأله عن التفسير كله[22].
وقد كان اهتمام السلف بالقرآن تدبرًا وتفسيرًا اقتداء منهم بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي كان لا يمر على القرآن إلا متفهمًا متدبرًا، وقد سمع عليه الصلاة والسلام امرأة ذات ليلة تقرأ: ﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ﴾ [الغاشية:1]، فقام يستمع ويقول: "نعم قد جاءني[23].
وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام "كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ[24].
وقد نبغ في معرفة معاني القرآن من الصحابة جماعةٌ منهم ابنُ عباس، قال الأعمش عن أبي وائل: "استخلف عليٌ عبدَ الله بن عباس على الموسم، فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية سورة النور، ففسرها تفسيرًا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا[25].
حق المدارسة والتعلم:
لقد حثَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه الكرام وأُمَّته من بعده على تعلم القرآن وتعليمه بقوله: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرآنَ وعَلَّمَهُ» رواه البخاري.
وقد بَعَثَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلى الأمصار المختلفة معلِّمين للقرآن الكريم: فبعث مصعبَ بن عمير وابنَ أم مكتوم في بيعة العقبة الثانية إلى المدينة؛ ليعلِّما الأنصار القرآن ويفقهانهم في الدِّين، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة، وكان يُسمَّى المُقرئ والقَارئ: يقول البراء بن عازب رضي الله عنهما: «أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ» رواه البخاري. وبعث -صلى الله عليه وسلم- معاذَ بنَ جبل رضي الله عنه قاضيًا إلى اليمن يعلِّم الناس القرآن وشرائع الإسلام ويقضي بينهم.
واسْتَعْمَلَ صلى الله عليه وسلم عمرو بن حزم الخزرجي النَّجَاري رضي الله عنه على نجران ليفقههم في الدين ويعلمهم القرآن، ويأخذ الصَّدقات منهم.
وكان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريفًا، ويقف هو في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم رجع إلى عريفه، فإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء يسأله عن ذلك.
وكان هذا التَّعليم - من النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم مجَّانيًا من غير مقابل، ولعل مَدرسة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المدرسة الأولى التي رَفَعَتْ شِعارَ مجَّانية التعليم، وشعار إلزامية التعليم والتعلم. ولم يبقَ الأمرُ شِعارًا بل نزل إلى ساحة التطبيق والتنفيذ.
قال النووي - رحمه الله: «تعليم المتعلِّمين فرض كفاية، فإن لم يكن مَنْ يصلح له إلاَّ واحد تَعَيَّنَ عليه، وإن كان هناك جماعة يحصل التعليم ببعضهم: فإن امتنعوا كُلُّهم أَثِمُوا، وإن قام به بعضُهم سقط الحرج عن الباقين، وإن طُلِبَ من أحدهم وامتنع فأَظْهَرُ الوجهين، أنه لا يأثم لكن يُكْرَهُ له ذلك إِنْ لم يكن له عذر».
ومع ترغيبه -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه على تعليم القرآن، كان يحثُّهم على الإخلاص في هذا التَّعليم: فعن سهل بن سعد السَّاعدي رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا، ونحن نقترئ، فقال: «الحمدُ لله، كتابُ الله واحدٌ، وفيكم الأحْمَرُ وفيكم الأَبْيَضُ وفيكم الأَسْوَدُ، اقْرَؤوهُ قَبْلَ أَنْ يَقْرأَهُ أَقْوَامٌ يُقِيمُونَهُ كما يَقُومُ السَّهْمُ يَتَعَجَّلُ أَجْرَهُ ولا يَتَأَجَّلُهُ»[26].
فينبغي أن يحرص المسلمون على طلب الثواب الأخروي في تعلمهم وتعليمهم لكتاب الله تعالى ويجتهدوا في ذلك. ومن غير اللائق بمسلم نال أعلى الشهادات العلمية والخبرات العملية، ثم إذا سمعته يقرأ القرآن تعجبت من حاله وأمره، فلا يقيم حروفه وكلماته، وليس حاله كحال من يعذر لضعف تعليمه.
وإن من وسائل تعلمه وإتقانه: قراءته على أحد المقرئين، وكثرة الاستماع إليه، واستشعار عظمته وأنه كلام رب العالمين.
وهذا الحق (حق المدارسة والتعلم) ثابت، بالغاية من القرآن ذاته بأنه كتاب هداية (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) فكيف يتحقق الهدى من القرآن دون درسه أي تعلم ما فيه من مقومات تلك الهداية بجانبيها العقلية والقلبية؟
وقد أثبت القرآن هذا الحق بشكل مفصل لا لبس فيه، قال تعالى: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران:79].
وقوله تعالى “تَدْرُسُونَ” من التدريس. وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة تعلِّمون بالتشديد من التعليم، واختارها أبو عبيدة لأنها تجمع بين المعنيين (التعليم والتعلم[27].
يتبع