
10-11-2025, 11:21 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,110
الدولة :
|
|
رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله
«عون الرحمن في تفسير القرآن»
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
تفسير قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ... ﴾
قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾[آل عمران: 106 - 109].
قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
نهى الله تعالى هذه الأمة أن يكونوا كالذين تفرَّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وتوعَّدهم بالعذاب العظيم، ثم أتْبعه ببيان متى يكون ذلك وحال الناس فيه، وذكر شيء من جزائهم.
قوله: ﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ﴾ «يوم»: ظرف زمان منصوب متعلق بالخبر المحذوف للعذاب في قوله: ﴿ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105]؛ أي: استقر لهم عذاب عظيم يوم تبيضُّ وجوه، أو بمضمر تدل عليه الجملة، أي: يُعذَّبون يوم تبيض وجوه، أو بمحذوف تقديره: «اذكر»؛ أي: اذكر يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
والمراد به يوم القيامة، وعرَّفه بما يحصل فيه من بياض وجوه، وسواد وجوه؛ تعظيمًا له وتهويلًا، وترغيبًا وتشويقًا، وترهيبًا وتخويفًا.
ومعنى ﴿ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ ﴾؛ أي: تكون بيضاء تعلوها النضارة والنور، وهي وجوه المؤمنين السعداء؛ كما قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23]، وقال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [عبس: 38، 39]، وقال تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطففين: 24].
وقال صلى الله عليه وسلم: «لكم سيما ليست لأحد من الأمم، تَردون عليَّ غرًّا محجلين من أثر الوضوء»[1].
فوجوههم بيضاء مسفرة مستنيرة، بسبب ما يُقابَلون به من التهنئة والبشارة بالجنات، وما فيها من ألوان النعيم، وما هم فيه من الفرح والسرور والأمن؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].
وقدَّم ذكر بياض وجوه؛ لأن رحمة الله تعالى تسبق غضبه.
﴿ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾؛ أي: تكون سوداءَ مظلمة، وهي وجوه الأشقياء من الكفرة وأهل الأهواء والبدع والمعاصي؛ كما قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 60]، وقال تعالى: ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ﴾ [عبس: 40 - 42].
وذلك لما في قلوبهم من الغم والهم وشدة الخوف، وما يُلاقون من التوبيخ والتقريع، ولما يترقَّبون ويتوقَّعون من حلول النقمة والعذاب الأليم عليهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ ﴾ [القيامة: 24، 25].
ولا تنافي بين قوله: ﴿ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾، وقوله: ﴿ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ﴾، وبين قوله تعالى: ﴿ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ﴾ [طه: 102]، لاختلاف الأحوال والأوقات، ففي بعضها يكونون زرقًا، وفي بعضها يكونون سودًا.
وأيضًا فقد قال بعض المفسرين في قوله: ﴿ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ﴾؛ أي زُرق العيون، وهذا لا ينافى سواد الوجوه.
وقيل: المراد بالسواد ما يجمع الزُّرقة والسواد، فيكون المعنى واحدًا، وقيل غير ذلك.
﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾: الفاء عاطفة للتفريع، و«أما» للتفصيل، وبدأ بذكر الذين اسودَّت وجوههم في هذا التفصيل، بينما أخَّرهم فيما قبل، وهذا من باب اللف والنشر، فبدأ هنا بحال الذين اسودَّت وجوههم لمجاورته: ﴿ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾، وتعجيلًا بذكر مساءتهم، وليكون الاختتام بالحال الحسن كما ابتُدئ بالوصف الحسن.
﴿ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾: الاستفهام للإنكار عليهم والتوبيخ لهم، والتعجب من حالهم، أي: فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم، وجواب «أما» لابد فيه من الفاء، فلما سقط الجواب سقطت الفاء معه، وجاز ترك الجواب لدلالة السياق عليه.
وأُبهم القائل؛ للتهويل، وليعم كل قائل، فيحتمل أن القائل لهم ذلك هو الله تعالى، أو الملائكة، أو أهل المحشر، أو الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: «ليَردن عليَّ أقوام أعرفهم ثم يختلجون دوني، فأقول يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ماأحدثوا بعدك»[2].
واختلف في المعنِيِّين بقوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾، فقيل: هم أهل الكتاب، آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل بَعثته، فلما بُعث كفروا به، وقيل: هم أهل الأهواء والبدع، وقيل: هم المنافقون، آمنوا بالظاهر، وكفروا بالباطن.
والظاهر أن الوصف بسواد الوجوه والتوبيخ بقوله: ﴿ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾: يعم جميع الكفار، كما أن الوصف ببياض الوجوه، وحصول الرحمة، ودخول الجنة، يعم جميع المؤمنين.
وقد يحمل الإيمان في قوله: ﴿ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ في حق البعض أنهم آمنوا ثم ارتدُّوا وكفروا، أو غير ذلك.
وقد يحمل في حق الجميع على الفطرة؛ لأن الإيمان في الأصل هو دين الفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ كما قال عز وجل في الحديث القدسي: «إني خلقت عبادي حنفاءَ كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتْهم عن دينهم»[3].
وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من مولودٍ إلا يولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه»[4].
﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾؛ أي: ويقال لهم: ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾.
ومعنى ﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ ﴾؛ أي: قاسوا العذاب وتجرَّعوه وأحسُّوا به، و«العذاب»: العقوبة والنكال، والأمر للإهانة.
فجمع لهم بين العذاب المعنوي المؤلم للقلب، بالتقريع والتوبيخ والتنديم والإهانة، وبين العذاب الحسي المؤلم للبدن، والعذاب المعنوي لا يقل عن العذاب الحسي، بل هو أشد منه.
﴿ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾: الباء للسببية، و«ما» مصدرية، أي: بسبب كفركم وعدم إيمانكم.
قوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾.
كما بدأ بذكر بياض وجوه المؤمنين ختَم بالكلام على حُسن حالهم، فقال: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ ﴾: الواو: عاطفة، و«أما» تفصيلية كسابقتها؛ أي: وأما الذين ابيضَّت وجوههم، وهم المؤمنون.
﴿ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ ﴾: الفاء واقعة في جواب «أما»، و«في» للظرفية، والمراد برحمة الله تعالى هنا رحمته المخلوقة، وهي الجنة؛ كما قال عز وجل في الحديث القدسي للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي»[5].
فسمى «الجنة» رحمته؛ لأنه - عز وجل - يرحَم بها من يشاء، ولأنهم لا يدخلونها إلا برحمته؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «لن يُدخل أحدًا عملُه الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله بفضل ورحمة»[6].
﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾؛ أي: هم ماكثون فيها مقيمون مكثًا أبديًّا، وإقامة دائمة؛ لأن الجنة لا تَفنى ولا يَفنى نعيمُها، ولا أهلها يخرجون منها؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [الحجر: 48].
قوله تعالى: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ﴾؛ كقوله تعالى في سورة البقرة: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [البقرة: 252].
قوله: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ ﴾: الإشارة لما سبق من الآيات، وبخاصة من الآيات من بعد قوله: ﴿ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾ [آل عمران: 58]، وقد تكون الإشارة للقرآن كله، ويقوي هذا كونها جاءت بصيغة البعد «تلك».
و«آيات» جمع آية، وهي العلامة، والمراد بها هنا: آيات الله الشرعية؛ آيات القرآن الكريم، وسُمِّي القرآن الكريم آيات الله؛ لما فيه من الإعجاز في ألفاظه ومعانيه وأحكامه وأخباره، وكونه صالحًا لكل زمان ولكل مكان، ولكل أمة، دالًّا على كمال الخالق - عز وجل - في ذاته وأسمائه وصفاته، واستحقاقه العبادة وحده دون سواه، وعلى صدق من جاء به، ولما فيه من صفات الخلود والشمول والكمال، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، وقال تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الأنعام: 38]، وقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]، وقال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].
﴿ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ ﴾؛ أي: نقرؤها عليك بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 192 - 194]، وقال تعالى: ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [القيامة: 16 - 19]؛ أي: إذا قرأه جبريل عليه السلام، فاتَّبع قراءته.
﴿ بالحقِّ ﴾: حال؛ أي: نتلوها عليك حال كونها متلبسة بالحق، والحق الأمر الثابت، فهي بنفسها حق؛ كما قال تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].
وطريق وصولها حقٌّ، وسندها أصحُّ الأسانيد وأعلاها، نزلت من عند الله - عز وجل - بواسطة جبريل الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ﴾ [الشعراء: 192 - 194].
وهي أيضًا مشتملة على الحق، أخبارها صدق وأحكامها عدل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام.
﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ﴾: لما ذكر عز وجل انقسام الناس إلى قسمين: قسم تبيض وجوههم، وقسم تسود وجوههم، وما لكل منهم من الجزاء - أتْبع ذلك بنفي أن يريد ظلمًا للعالمين، في إشارة إلى أن كلًّا منهما جُوزي بما عمِل من غير ظلم بزيادة في عذاب مذنب، أو نقصٍ من ثواب محسن؛ أي: لا يريد كونًا؛ أي: لا يشاء.
والواو في قوله ﴿ وَمَا ﴾: استئنافية، و«ما»: نافية عاملة عمل «ليس»، ولفظ الجلالة اسمها، وجملة ﴿ يُريد ﴾ في محل نصب خبرها، و﴿ ظُلمًا ﴾ مفعول لـ«يريد»، وهي نكرة في سياق النفي تدل على انتفاء جنس الظلم أن تتعلق به إرادة الله تعالى، و«العالمين» كل ما سوى الله تعالى.
فنفى عز وجل أن يريد ظلمًا للعالمين، بأن يعذِّب أحدًا منهم بغير ذنب، أو يزيد في عقابه، أو يَضيع عنده ثوابُ أحد أو يَنقُص؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران: 182]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [يونس: 44].
قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾.
نفى عز وجل أن يريد ظلمًا للعالمين، ثم أيَّد هذا النفي وقوَّاه ببيان أن له ما في السماوات والأرض، وإليه مرجعُ الأمور كلها، فليس هناك ما يدعوه للظلم؛ لأنه سبحانه وتعالى ذو الكمال في ذاته وصفاته، وفي ملكه وسلطانه وغناه، وفي قدرته على كل شيء.
والظالم إنما يظلم غيره؛ ليُكمل نقصًا في نفسه، أو ليزداد عزًّا أو سلطانًا أو ملكًا.
قوله: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ الواو: عاطفة، ولفظ الجلالة «الله» متعلق بمحذوف خبر مقدم، و«ما»: اسم موصول يفيد العموم بمعنى «الذي» في محل رفع مبتدأ مؤخر.
﴿ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾: معطوف على ما قبله، وجاء التعبير بـ«ما» في الموضعين بدل «من» تغليبًا للعالم على غير العالم.
وقدِّم الخبر لإفادة الحصر، أي: ولله وحدَه كل الذي في السماوات والذي في الأرض؛ خلقًا وملكًا.
﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ بيَّن - عز وجل - أن له ما في السماوات والأرض خلقًا وملكًا، ثم بيَّن أن مرجع الأمور كلها إليه تدبيرًا وتصريفًا.
وقدِّم الخبر هنا أيضًا لإفادة الحصر، أي: وإلى الله تعالى وحده وإلى حكمه وقضائه ترجع الأمور كلها؛ أي: إليه وحده تصير وتعود جميع الأمور والشؤون؛ كما قال تعالى: ﴿ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾ [الشورى: 53].
وأظهر في الجمل الثلاث بذكر لفظ الجلالة «الله» دون الإضمار؛ تعظيمًا لله - عز وجل - ولتكون كل جملة منها مستقلة الدلالة بنفسها.
[1] أخرجه البخاري في الطهارة (136)، ومسلم في الطهارة (247)، وابن ماجه في الزهد (4282)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الرقاق (6582)، ومسلم في الفضائل (2304)، والنسائي في الافتتاح (904)، من حديث أنس رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها (2865)، من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في التفسير- باب قوله: ﴿ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ ﴾ [ق: 30] (4850)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها- النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (2846)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في المرض (5673)، ومسلم في صفة القيامة (2816)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|