حفر قناة السويس
للأستاذ محمد زاهد أبو غدة
حدث في السادس والعشرين من ربيع الآخر 1272
في السادس والعشرين من ربيع الآخر من سنة 1272، الموافق 5/1/1856، أصدر خديوي مصر محمد سعيد بن محمد علي الكبير فرماناً من الإسكندرية جدد فيه منح الفرنسي فرديناند ديلسبس امتياز حفر قناة السويس لتصل بين البحر الأبيض وبين البحر الأحمر، وهو المشروع الذي سيجلب الرخاء والشقاء على مصر وأهليها.
وكان الخديوي محمد سعيد باشا قد تولى الحكم في 28 شوال سنة 1270=24/7/1854، بعد وفاة ابن أخيه عباس الأول، وبعد قرابة 3 أشهر أصدر مرسوماً في 9 صفر سنة 1271=30/11/1854 تضمن منح الامتياز لصديقه الفرنسي فرديناند ديلسبس، ثم أصدر بعده بسنتين المرسوم الثاني الذي نحن بصدده، وهو أكثر تفصيلاً ودقة، وكان المرسوم الأول يتألف من 12 مادة، أما المرسوم الثاني فقد تألف من 23 مادة، وكان مقسماً إلى أبواب حسب مواضيع المواد، وأصدر الخديوي معه مرسوماً آخر من 53 مادة بتشكيل الشركة العالمية لقناة السويس الملاحية: la Compagnie Universelle du Canal Maritime de Suez.
وجاء في مقدمة المرسوم الأول: وجه صديقنا المسيو فرديناند ديلسبس نظرنا إلى الفوائد التي تعود على مصر من وصل البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر بإنشاء طريق للملاحة صالح لمرور السفن الكبرى، وأبان لنا أن في الإمكان تأسيس شركة لهذا الغرض تؤلف من أصحاب رؤوس الأموال من شتى الأمم، وقد ارتضينا ما عرضه علينا ورخصنا له بموجب هذا ترخيصاً خاصاً في تأسيس وإدارة شركة عامة لشق برزخ السويس واستغلال قناة بين البحرين مع الإذن له في القيام بجميع الأعمال والمباني اللازمة لذلك أو أن يعهد بها إلى الغير، على أن تتكفل الشركة بتعويض الأفراد مقدماً إذا دعت الحال إلى نزع ملكيتهم للمنفعة العامة، كل ذلك في الحدود وطبقاً للشروط والالتزامات المبينة في المواد الآتية:
1. يؤسس المسيو فرديناند ديلسبس شركة نعهد إليه بإدارتها تسمى الشركة العالمية لقناة السويس، تكون مهمتها القيام بشق برزخ السويس، واستغلال طريق صالح للملاحة الكبرى، وإنشاء وإعداد مدخلين كافيين أحدهما على البحر الأبيض المتوسط والآخر على البحر الأحمر وبناء مرفأ أو مرفأين.
2. يعين مدير الشركة دائماً من قبل الحكومة ويختار ما أمكن من بين المساهمين الذين لهم أوثق الصلة بالمنشأة.
3. مدة الامتياز تسع وتسعون سنة تبتدئ من التاريخ الذي تنفتح فيه قناة البحرين.
4. تجرى الأعمال التي يقتضي إجرائها على نفقة الشركة وحدها، وتمنح بدون مقابل جميع ما يلزمها من الأراضي التي ليست ملكاً للأفراد، ولا تكون التحصينات التي ترى الحكومة القيام بها على نفقة الشركة.
5. تجبي الحكومة سنوياً من الشركة 15% من صافي الأرباح المستخلصة من ميزانية الشركة وذلك فضلاً عن الفوائد والحصص الخاصة بالأسهم التي تحتفظ الحكومة بحق الاكتتاب فيها لدى إصدارها، وذلك دون أي ضمان من جانبها لتنفيذ الأعمال أو لقيام الشركة بمهمتها .. ويوزع الباقي من صافي الأرباح على الوجه التالي: 75 % للشركة، 10 % للأعضاء المؤسسين.
6. يتم الاتفاق على تعريفات رسوم المرور بقناة السويس ما بين الشركة وخديو مصر ويجبى عمال الشركة هذه الرسوم وتكون التعريفات متساوية دائماً لجميع الأمم. ولا يجوز مطلقاً اشتراط امتياز خاص لإحدى الدول دون سواها.
وورد في آخر مواد المرسوم:
10. عند انتهاء الالتزام تحل الحكومة المصرية محل الشركة، وتنتفع بكافة حقوقها دون تحفظ، وتستولي على قناة البحرين وجميع المنشآت التابعة لها وتؤول إليها ملكيتها الكاملة، ويحدد مقدار التعويض الذي يمنح إلى الشركة في مقابل تنازلها عن المهمات والأشياء المنقولة باتفاق ودي أو بطريق التحكيم.
11. يعرض مدير الشركة علينا فيما بعد نظام الشركة، ويجب أن يحوز موافقتنا، ولابد من إذن منا مقدماً بأي تعديل يدخل عليه في المستقبل، ويجب أن يذكر نظام الشركة أسماء المؤسسين، على أن نحتفظ بحق اعتماد قائمتهم، ويراعى أن تتضمن هذه القائمة أسماء الأشخاص الذين سبق أن ساهموا في تنفيذ مشروع قناة السويس الكبير سواء بأعمالهم أو أبحاثهم أو بجهودهم أو أموالهم.
12. وفي الختام نعد بطيب تعضيدنا الخاص وكذا جميع موظفي الحكومة المصرية لتسهيل تنفيذ واستغلال هذا الترخيص.
وكان الخديوي آنذاك تابعاً للسلطان العثماني، وبرتبة نائب السلطان على مصر، ولم يكن من صلاحياته عقد اتفاق كهذا، بل كان لا بد من موافقة السلطان في استانبول حتى يصبح لهذا الامتياز قوة القانون، ولذا سافر ديلسبس إلى القسطنطينية بعد حصوله على الامتياز بشهرين يلتمس تصديق السلطان عبد المجيد على عقد الامتياز، ولكنه لم ينجح في ذلك فقد عارضت بريطانيا المشروع معارضة شديدة، وادَّعت أنه غير مجد اقتصادياً وأن دخل القناة لن يغطي مصروف صيانتها فضلاً عن ربح لرأسمالها، وكان السلطان يتوجس خيفة من المشاريع الأجنبية وبخاصة من فرنسا، فعاد ديلسبس خالي الوفاض إلى مصر.
وكانت الحكومة البريطانية التي كان يرأسها بنجامين دزرائيلي قد أسفرت عن عدائها للمشروع المزمع، وذلك لأنه عز عليها أن تسبقها فرنسا إلى مثل هذه الفكرة، التي اعتبرتها تهديداً لمصالحها لأنها ستجعل فرنسا تتحكم في التجارة العابرة التي تمر بمصر، وكانت سياسة بريطانيا قائمة على أن تكون هي المسيطرة على حركة التجارة والأساطيل العسكرية، ورغم ذلك بقي ديلسبس يطلب ود بريطانيا، وكان حريصاً أشد الحرص على مساهمتها في القناة، فقد كان آنذاك صاحبة أكبر أسطول تجاري وعسكري، وكان حريصاً كذلك عى مشاركة غيرها من الدول الأوروبية ليضمن استعمال هذه الدول للقناة، وليجعل لشركته صبغة دولية تواجه بها مصر والدولة العثمانية وتتقوى بها عليهما في حالة الخلافات.
ورغم عدم حصوله على موافقة السلطان العثماني، استصدر ديلسبس من الخديوي سعيد باشا مرسوم عقد الامتياز الثاني مشروطاً لنفاذه بموافقة السلطان وإلى جانبه قانون الشركة الأساسي، وجاء مرسوم الامتياز الثاني كما أسلفنا مفصلاً ومبوباً، وتضمن زيادة على ما سبق تفاصيل فنية محددة حول مسار القناة ومحطاتها، وتفاصيل حول إدارتها المالية، وجعل فرديناند ديلسبس رئيساً لها لأول 10 سنوات، ولإنشاء حِمى للقناة منح المرسوم الشركة الأراضي المملوكة للحكومة بعرض كيلومترين على كل جانب منها، وأعطاها حق تملكها من الأهالي بسعر عادل، وأعفاها من الضرائب والرسوم الجمركية، وسمح لها بإنشاء محاجرها أو الاستفادة من المحاجر الحكومية، وألزم شركة القناة بحفر ترعة للماء العذب تربط النيل بالقناة الملاحية وتستخدم في أغراض الري والملاحة النهرية، وتتفرع قبيل وصولها إلى بحيرة التمساح إلى فرعين للري والتغذية، ويتجه أحدهما شمالا إلى الفرما والثاني جنوبا إلى السويس، وأن يتم المشروع خلال مدة لا تتجاوز 6 سنوات، وأن تقوم الشركة بدفع أجور عادلة لمن تستخدمهم، وتضمن إنشاء هيئة تحكيم تبت في النزاعات، كما نص على سلم تصاعدي لحصة الحكومة من العائدات إن هي قررت تمديد الامتياز لأكثر من 99 سنة.
وحلاً لأية إشكالات دستورية أو دبلوماسية، وتفادياً لإثارة غضب السلطان، أرفق الخديوي المرسوم السابق برسالة هذا نصها:
إلى صديقي المخلص الكريم المحتد الرفيع المقام
السيد فرديناند ديلسبس
بما أنه تلزم موافقة عظمة السلطان على الرخصة الممنوحة للشركة العامة لقناة السويس، فإني أبعث إليكم بهذه النسخة لحفظها لديكم، أما الأعمال الخاصة بحفر قناة السويس فلن يبدأ فيها إلا بعد الحصول على ترخيص الباب العالي.
الإسكندرية 26 ربيع الآخر 1271، 5 يناير 1856
محمد سعيد باشا والي مصر.
وفي نفس اليوم أصدر الخديوي موافقته على نظام تأسيس الشركة العالمية لقناة السويس الملاحية، وأمر بضمه إلى مرسوم منح الامتياز للمسيو ديلسبس، وتألف نظام الشركة من 78 مادة، من أهمها أن مقرها الرسمي هو الإسكندرية على أن تكون باريس مقرها الإداري، وأن رأسمال الشركة 200 مليون فرنك موزعة على 400 ألف سهم تصدر سنداتها باللغة التركية والألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية، ويتألف مجلس إدارتها من 32 عضواً يمثلون الجنسيات المختلفة صاحبة المصلحة في المشروع، وينبثق عنهم لجنة تدير الشركة، ومنح النظام المؤسسين نسبة 10% من الأرباح السنوية للشركة، ونسبة 3% لمدرائها، وخصص 2% من الدخل لبناء احتياطي طوارئ حده الأقصى 5 ملايين فرنك، وجعل النظام التحكيم أساساً لفض المنازعات، وجعل محكمة استئناف باريس المسؤولة عن النظر في الاعتراض أو الاستئناف لقرارات التحكيم.
وبسبب من معارضة بريطانيا السافرة، كان أغلب حملة الأسهم من الفرنسيين الذي اكتتبوا بنسبة 52% من أسهم الشركة، واكتتب الخديوي بنسبة 44%، أي أن المساهمين من غير مصر وفرنسا لم يكتتبوا إلا بنسبة 4%، ومع ذلك كان أعضاء أول مجلس إدارة ينتمون إلى 14 جنسية، وفي سنة 1275= 1858 أرسل ديلسبس قبل 4 شهور من الشروع في عمليات الحفر خطاباً إلى سعيد باشا أبلغه فيه بتأسيس الشركة، وأن سعيد باشا أصبح موضع التقدير العميق من رجالات السياسة في أوروبا بسبب رعايته للمشروع، ولم ينس أن يشير للسلطان العثماني فقال: إن سلطان تركيا هو رئيس العالم الإسلامي، وإن مشروع القناة يهدف إلى تقريب السلطان من مكة المكرمة التي هي أهم جزء في الإمبراطورية العثمانية لأنها أساس سلطته الروحية والدينية، وأشار إلى الصبغة الدولية للشركة التي تضم مساهمين ينتمون إلى دول عديدة.
وبدأ الحفر في القناة قرب دمياط في 22 رمضان سنة 1275=25/4/1859، وخطب ديلسبس في الحفل قائلاً: باسم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية، وطبقًا لقرار مجلس إدارتها، نضرب أول معول في الأرض التي ستفتح أبواب الشرق لتجارة الغرب وحضارته، إننا نجتمع هنا تحدونا فكرة واحدة، هي فكرة الإخلاص لمساهمي الشركة ولصالح منشئها وراعيها العظيم محمد سعيد.
والتفت ديلسبس بعد ذلك إلى العمال المصريين قائلاً: سيضرب كل منكم بمعوله الأرض كما فعلنا نحن الآن، عليكم أن تذكروا أنكم لن تحفروا الأرض فقط، ولكن ستجلبون بعملكم الرخاء لعائلاتكم ولبلادكم الجميلة، يحيا أفندينا محمد سعيد باشا.
وسيق للعمل في المشروع عشرات الألوف من فلاحي مصر، بمعدل 20.000 فلاح كل 10 أشهر، وبأجور بخسة، ومات منهم ألوف ضحية الإنهاك والجوع والأمراض، وكان الحفر في البداية بالمعاول والمقاطف، ولكن جري فيما بعد استيراد الكراكات ذات المحركات البخارية وكانت هذه الآلات يقودها سائقوها الأوربيون تقوم بتجريف التراب من المناطق المغمورة لترميه على الشاطئ، وكانت أسرع وأقل تكلفة من الحفر بالأنفار، ولذلك قررت إدارة المشروع العدول عن الحفر الجاف وغمر المناطق المراد حفرها ثم تجريفها بعد ذلك.
وفي سنة 1277=1861 توفي السلطان العثماني عبد المجيد وخلفه السلطان عبد العزيز، وتوفي بعده بسنتين الخديوي محمد سعيد باشا، عن 42 سنة بعد مرض عضال، وذلك في الإسكندرية في 27 رجب سنة 1279= 18/1/1863، وذلك بعد قرابة 8 سنوات من إصداره الترخيص، وكان آخر أعماله أن استجاب لطلب الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث لمساعدة فرنسا في تدخلها في المكسيك فأرسل فرقة من الجيش المصري قاتلت هناك مع الجيش الفرنسي.
وخَلَف محمدَ سعيد على عرش مصر ابنُ أخيه إسماعيل بن إبراهيم بن محمد علي باشا الكبير، وكانت بين السلطان عبد العزيز وبين الخديوي إسماعيل صداقةٌ شخصية، وتشابهٌ في الانبهار بالغرب والاندفاع وراء المظاهر والبهارج، وعادت هذه الصداقة بالوبال على تركيا ومصر، ودفع البلدان ثمنها غالياً.
وتسبَّبت المعارضة البريطانية للمشروع في توقفه مرتين، ولارتباط الجهات التجارية والحكومية البريطانية بعقود امتياز مشابهة، لم يكن من المنطق أن تهاجم الصحف البريطانية مبدأ المشروع، فكانت تهاجمه لتضمنه إجبار الفلاحين المصريين على العمل فيه، واعتبرت نظامه نظام سخرة يعود بالبشرية إلى عهد العبيد، ونسيت أن بريطانيا استعملت السخرة حقاً أثناء مدها السكك الحديدية في مصر، وأن عشرات الألوف من الفلاحين ماتوا دون أن يدافع عنهم أحد.
وتحت الضغط البريطاني الذي لم يتوقف، أرسل الديوان السلطاني في سنة 1279=1863 رسالة يعترض على بدء العمل دون تصديق السلطان العثماني على الامتياز، فأجابه الخديوي إسماعيل أن هذه أعمال ابتدائية ضرورية لتخطيط المشروع ولا تعتبر بدءاً في العمل.
وأفلحت الضغوط البريطانية المتزايدة في أن أصدر الباب العالي عدة قرارات، تمخضت بعد 17 اجتماعاً، وتضمنت ألا تمد الحكومة المصرية الشركة إلا بستة آلاف عامل بدلا من 20 ألف، ورفع أجر العامل إلى ضعف الأجر العادي في مصر، وإلغاء ما تضمنه الامتياز من تمليك الشركة للأراضي على جانبي القناة وغيرها، ولم يكن أمام حكومة الخديوي إسماعيل إلا أن تعلن أنها ستنفذ قرارات الباب العالي، وفي اليوم التالي اعتبرت الصحف البريطانية ذلك نصراً أحرزته الإنسانية في حربها على السُّخرة والاستعباد.
وكان تلك القرارات بمثابة حكم بالموت على الشركة التي كانت أصلاً تعاني من ضائقة مالية وحصار بريطاني محكم، فعارضتها معارضة شديدة واعتبرتها منافية للامتياز، وطلبت أن يبتَّ في أمرها التحكيم المنصوص عليه في العقد، وطُرِح اسم الإمبراطور نابليون الثالث ليحكم في النزاع، وقبل به الخديوي إسماعيل ظنا منه أنه سيكون محايداً وينصفه ضد الشركة إزاء أمر حدث خارج عن إرادة إسماعيل معارضته، ولكن الإمبراطور اتخذ هذه الفرصة ليصدر حكماً جائراً يحكم فيه للشركة بملايين طائلة وفرت لها سيولة ما كانت تحلم بها ومكنتها من إتمام المشروع، وتابع الإمبراطور نابليون الثالث مساعيه مع السلطان العثماني عبد العزيز الذي أصدر فرماناً بالمصادقة على الامتياز في 2 ذي القعدة سنة 1282=1866.
و بعد 11 سنة من بدايته اكتمل العمل في القناة في جمادى الأولى سنة 1286، وبلغ طول القناة عند انتهائها 160 كيلومتراً، وكانت في بدايتها متواضعة لا يزيد عمقها على 8 أمتار وعرضها على 22 متراً، وبلغ أكبر عرض لها 58 متراً، وحمولة السفن العابرة لها لا تتجاوز 5000 طن، وجرت عليها عبر السنين عمليات توسيع وتعميق، حتى أصبح عمقها 24 متراً في سنة 2010، وصارت حمولة السفن التي تعبرها 240.000 طن، وهي بذلك أهم المعابر في العالم ،ومصدر دخل رئيس لمصر.
يتبع