«عون الرحمن في تفسير القرآن»
الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم
فوائد وأحكام من قوله تعالى:
﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ... ﴾
قوله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [آل عمران: 92 - 95].
1- إباحة كل الأطعمة لبني إسرائيل من الحيوان وغيره، قبل نزول التوراة، إلا ما حرَّمه إسرائيل على نفسه؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ﴾.
2- إن لله تعالى يُحل ما يشاء ويحرِّم ما يشاء؛ لقوله تعالى: ﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ الآية.
3- توسيع الله تعالى على بني إسرائيل قبل بَغْيهم، بإحلال كل الطعام لهم، وكانوا على شريعة إبراهيم عليه السلام، فلم يكن محرمًا عليهم سوى ما حرَّمه إسرائيل على نفسه.
4- أن ما حرَّمه إسرائيل على نفسه حرَّمه بنوه وأحفاده من بعده حتى نزول التوراة.
5- إثبات نزول التوراة من عند الله، وإثبات علوِّه - عز وجل - على خلقه بذاته وصفاته؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ ﴾.
6- تبكيت اليهود والإشارة إلى أنهم سبب ما جاء من تحريم كثيرٍ من الأشياء عليهم في التوراة، وذلك بسبب بغْيهم كما ذكر الله تعالى.
7- إفحام اليهود وإقامة الحجة عليهم من كتابهم التوراة على جواز النسخ عقلًا وحصوله شرعًا؛ حيث نسَخت التوراة بعضَ الأحكام قبلها؛ من إحلال كل الطعام لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، فحرَّمت عليهم أشياء كثيرة بسبب بغيهم؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [الأنعام: 146].
قال ابن القيم[1]: ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا على شريعة أبيهم إسرائيل وملته، وأن الذي كان لهم حلالًا إنما هو بإحلال الله تعالى لهم على لسان إسرائيل والأنبياء بعده إلى حين نزول التوراة، ثم جاءت التوراة بتحريم كثير من المآكل عليهم التي كانت حلًا لبني إسرائيل، وهذا مُحض النسخ».
وقال ابن كثير[2]: «شرع في الرد على اليهود - قبَّحهم الله - وبيان أن النسخ الذي أنكروا وقوعه وجوازه قد وقَع، فإن الله - عز وجل - قد نص في كتابه التوراة أن نوحًا عليه السلام لما خرج من السفينة أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها، ثم بعد هذا حرَّم إسرائيل على نفسه لحمان الإبل وألبانها، فاتَّبعه بنوه في ذلك، وجاءت التوراة بتحريم ذلك، وأشياء أُخر، زيادة على ذلك، وكان الله - عز وجل - قد أذن لآدم في تزويج بناته من بنيه، وقد حرَّم ذلك بعد ذلك، وكان التسري على الزوجة مباحًا في شريعة إبراهيم، وقد فعله إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة، وقد حرِّم مثل هذا في التوراة عليهم، وكذلك كان الجمع بين الأختين شائعًا، وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين، ثم حرِّم ذلك عليهم في التوراة.
وهذا كله منصوص عليه في التوراة عندهم، فهذا هو النسخ بعينه، فكذلك ما شرعه الله للمسيح عليه السلام في إحلاله بعض ما حرِّم في التوراة، فما بالهم لم يتبعوه؟ بل كذَّبوه وخالفوه، وكذلك ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم من الدين القويم وملة إبراهيم، فما لهم لا يؤمنون؟».
8- الرد على اليهود في إنكارهم نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، بناءً على إنكارهم النسخ، بدعوى أنه لا يمكن أن يأتي نبي بخلاف ما جاء به الذي قبله.
9- أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم؛ لأن ملة إبراهيم لم يُحرَّم فيها شيءٌ من الأطعمة، بينما حرَّم على اليهود أشياء كثيرة في التوراة.
10- بلوغ الذين يفترون على الله الكذب ويردون الحق، وينكرونه غاية الظلم؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾، فأكد الظلم وحصره فيهم لبلوغهم من الظلم غايته.
11- جرأة المكذبين من أهل الكتاب وغيرهم على افتراء الكذب على الله تعالى، ومن اجترأ على الكذب على الله، فجرأتُه على الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى سائر الناس، من باب أَولى.
12- أن الحجة لا تقوم على العباد إلا بعد البيان والعلم؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾.
13- وجوب تصديق الله، وإظهار القول بذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ ﴾، فأقواله - عز وجل - وأخباره صدقٌ، وأحكامه عدل وحقٌّ، وفي هذا أيضًا تعريضٌ بكذب أهل الكتاب.
14- وجوب اتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وإخلاص التوحيد لله تعالى، والبراءة من الشرك؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: اتبعوا ملة إبراهيم في إخلاص التوحيد والبراءة من الشرك وأهله، وعلى هذا الأصل اتفقت جميع الشرائع؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36]، أما من حيث فروع الشرائع، فقد جعل الله لكل نبي شرعة ومنهاجًا؛ كما قال تعالى: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48].
15- فضيلة إبراهيم عليه السلام؛ لأن الله - عز وجل - أمرنا باتباعه وأثنى عليه، وجعله إمامًا وقدوة في إخلاص التوحيد لله تعالى والبراءة من الشرك وأهله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120 - 123].
16- فضل التوحيد، وأنه سبب النجاة، وخطر الشرك؛ لأنه سبب الهلاك، مما يوجب على العبد صيانةُ جناب التوحيد، والحذر من الشرك.
[1] انظر: «بدائع التفسير» (1/ 501).
[2] في «تفسيره» (2/ 62-63).