عرض مشاركة واحدة
  #26  
قديم 26-08-2025, 12:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,138
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم




تفسير قوله تعالى:

﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ... ﴾


قوله تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ * لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 84 - 92].

قوله تعالى: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.

ذكر عز وجل في الآيات السابقة أخذه ميثاق الأنبياء بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونُصرته هم وأممهم، وأنكر على من يبغون غير دين الله، ثم مقابل ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس من أهل الكتاب وغيرهم: ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ الآية.

فكما أخذ ميثاق النبيين وأممهم بالإيمان به وبرسالته، كذلك أمره صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس بإيمانه هو وأمته بما أنزل على النبيين قبله، وأن يقول لمن ابتغوا غير دين الله وغيرهم ﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ الآية، وهذه الآية شعار الإسلام.

قوله: ﴿ قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾: الخطاب والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو أمر له ولأمته، كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا ﴾ [البقرة: 136].

ولهذا جمع الضمير في قوله: ﴿ قُلْ آمَنَّا ﴾، وقوله: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾، وقوله: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾.
والإيمان بالله يتضمن التصديق والإقرار بوجوده، وبربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا ﴾ الواو: عاطفة، و«ما»: موصولة، أي: وآمنا بالذي أُنزِل علينا من الوحي، أي: بالقرآن والسنة؛ لأن كلًّا منها وحي مُنَزَّل من عند الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ [النجم: 4]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ﴾ [النساء: 113]، وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ ﴾ [البقرة: 231].

وقال هنا: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ الآية، وقال في آية البقرة: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [البقرة: 136]، فباعتبار مبدأ الإنزال عُدي بـ«على»؛ لأنه من أعلى ومن فوق، وباعتبار انتهاء الإنزال إلى المنزَّل عليه عُدي بـ«إلى».

وقدَّم الأمر بالإيمان بالمنزل على هذه الأمة في الآيتين تعظيمًا له واعتناءً به.

﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ أي: وآمنا بالذي أُنزِل على إبراهيم عليه السلام - وهو أبو الأنبياء - من الصحف؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 36، 37]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الأعلى: 18، 19].

﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ﴾؛ أي: وآمنا بالذي أنزل على إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وهؤلاء وإن لم تصل إلينا كتبهم، فنؤمن بأن الله أنزل عليهم؛ لأن الله أخبرنا بذلك.

﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾: هو إسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام- وهو الابن الأول لإبراهيم، وهو الذي ابتلى الله إبراهيم بالأمر بذبحه فاستسلما معًا لأمر الله تعالى؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُسَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ *إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات:102-107].

وهو أبو العرب وجد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق وأفضل الرسل - عليهم السلام، فقدَّم ذِكر «إسماعيل» لسبقة زمنًا وفضلًا، فهو أكبر من «إسحاق» وهو أفضل منه؛ لأنه أب لأفضل الرسل وسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.

﴿ وَإِسْحَاقَ ﴾: هو إسحاق بن إبراهيم الابن الثاني لإبراهيم - عليهما السلام - ومن فضله أن جل الأنبياء بعده من ذريته.

﴿ وَيَعْقُوبَ ﴾: هو يعقوب بن إسحاق - عليهما السلام - ويلقَّب «إسرائيل»، ومعناه «عبد الله»، وهو الذي يُنسب إليه بنو إسرائيل.

﴿ وَالْأَسْبَاطِ ﴾: جمع سِبط، وأصل السبط في اللغة ابن البنت، ولهذا يقال للحسن والحسين - رضي الله عنهما - سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قيل: المراد بـ «الأسباط» أحفاد إبراهيم أبناء ابنه يعقوب الاثنا عشر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4].

وعلى هذا يكون أولاد يعقوب كلهم أنبياء، وقد قال تعالى عن يوسف عليه السلام: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ [النساء: 163]، وقال تعالى: ﴿ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140].

وقيل: المراد بـ «الأسباط» بطون بني إسرائيل الذين فيهم الأنبياء، فيكون التقدير: وما أنزل على أنبياء الأسباط؛ قال تعالى: ﴿ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ﴾ [الأعراف: 160].

وخصَّ هؤلاء المذكورين؛ لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم.

﴿ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى ﴾؛ أي: وآمنا بالذي أوتيَ موسى وعيسى، أي: بالذي أنزل إليهما من الوحي والآيات الشرعية في التوراة والإنجيل، ومن الآيات الكونية التي أُعطيها كل منهما.

ولعل السبب في التعبير بقوله: ﴿ وَمَا أُوتِيَ ﴾ بدل، «وما أنزل» للإشارة إلى الآيات الكونية التي أعطاها الله كلًّا منهما، والتي بقي ذكرها إلى نزول القرآن؛ لأن موسى وعيسى- عليهما السلام - أُعطيا الكثير من الآيات الكونية؛ لأن موسى بعث في وقت قد انتشر فيه السحر، وعيسى قد بعث في وقت قد ظهر فيه الطب، فأُعطي كلٌّ منهما من الآيات ما يناسب ما ظهر في عهده.

﴿ وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾: معطوف على «موسى وعيسى»، أي: وآمنا بما أوتي النبيون من ربهم من الآيات الشرعية والكونية؛ كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [البقرة: 136]؛ أي: وآمنا بما أوتي جميع النبيين والرسل من الكتب والمعجزات؛ كما قال تعالى: ﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 119].

﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ﴾: الجملة الحالية؛ أي: حال كوننا لا نفرق بين أحد منهم في الإيمان، أي: لا نفرِّق بين أحدٍ منهم والآخر، بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما هو حال اليهود والنصارى، بل نؤمن بهم جميعًا على السواء، إيمانًا مجملًا؛ كما أخبر القرآن والسنة عنهم.

﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾: الجملة في محل نصب معطوفة على جملة الحال قبلها، أي: ونحن له، أي: لله وحده مستسلمون، منقادون ظاهرًا وباطنًا، بقلوبنا وألسنتنا وجوارحنا.

وقدَّم المتعلِّق (له) على المتعلَّق به وهو (مسلمون) للدلالة على الحصر، أي: مستسلمون له وحده دون سواه، وهنا انتهت المجادلة مع نصارى نجران.

قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾.

قوله: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ ﴾ الواو: استئنافية، و«من»: شرطية، و«يبتغ»: فعل الشرط مجزوم بحذف حرف العلة الياء، أي: ومن يطلب ويريد ﴿ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا ﴾ «غير»: مفعول ﴿ يَبْتَغِ ﴾، و﴿ دِينًا ﴾: تمييز أو مفعول ثانٍ لـ«يبتغ» أي: دينًا يدين لله تعالى به، ويعمل به، ويجازى عليه، ويُدان به، كما قال تعالى: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]؛ أي: لكم دينكم الذي تدينون به، وعملكم الذي تعملون به، وليَ ديني الذي أدين به وأعمل به.

﴿ الْإِسْلَامِ ﴾: معناه العام: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، وهذا يطلق على جميع الأديان، فكل من انقاد لما جاءت به رسل الله فهو مسلم.

ومعناه الخاص: ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين والشرع – وهو المراد هنا - وهو ينتظم المعنى الأول، أي: ومن يبتغ غير الإسلام دينًا بعد مجيء الإسلام.

قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال تعالى: ﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

﴿ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾: جواب الشرط «مَنْ»، والفاء: رابطة لجواب الشرط، أي: فلن يقبل منه ذلك الدين؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد»[1]، أي: مردود غير صحيح، فلا يقبله الله تعالى منه، ولا يُقره رسوله صلى الله عليه وسلم ولا المؤمنون، ولا يُثاب عليه، ولهذا قال: ﴿ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ الواو: عاطفة، أو حالية، وأصل الخسران ذهاب رأس المال، أي: وهو في الدار الآخرة من الخاسرين، الذين خسروا دينهم ودنياهم وأخراهم وخسروا أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وخسروا كل شيء، وحرموا من الثواب وأُركِسوا في العذاب.

خسروا دينهم؛ لأنهم دانوا بغير الإسلام، وخسروا دنياهم؛ لأنهم لم يعملوا فيها ما يقربهم إلى الله تعالى، وخسروا أنفسهم فضاعت أعمارهم وحياتهم سدًى، وخسروا أموالهم فلم يقدموا منها ما ينفعهم في الآخرة، وخسِروا أهليهم، فحيلَ بينهم وبينهم في الآخرة، وتلك والله الخسارة الكبرى والمصيبة العظمى؛ قال تعالى: وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وقال تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23]، وقال تعالى: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [التغابن: 9].

قولة تعالى: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.

سبب النزول:
عن ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: «كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم، فأرسل إلى قومه: «سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟»، فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالو: إن فلانًا قد ندم، وإنه أمرنا أن نسألك هل له من توبة؟ فنزلت: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [آل عمران: 86 - 89]، فأرسل إليه، فأسلَم»[2].

وذهب بعض المفسرين إلى أنها نزلت في أهل الكتاب، آمنوا برسلهم، ثم كفروا فعبدوا غير الله، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وشهدوا أنه حق قبل مبعثه وبعده، بما في كتبهم من البشارة به؛ كما قال عيسى عليه السلام: ﴿ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ [الصف: 6]، وبما عندهم من المعرفة به؛ كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146]، وقال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 20]، ثم كفروا به حسدًا منهم وعنادًا.

والآية أعمُّ من هذا كله، فتشمل كل من كفر بعد الإيمان، وبعد قيام الحجة عليه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

قوله: ﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ﴾ «كيف»: اسم استفهام ومعناه هنا: الاستبعاد، والمراد بالهداية في قوله: ﴿ يَهْدِي اللَّهُ ﴾: هداية التوفيق، أي: يبعد أن يوفق الله للهدى قومًا كفروا بعد إيمانهم من العرب وأهل الكتاب وغيرهم، أي: ارتدوا ورجعوا إلى الكفر بعد أن آمنوا، وكيف يستحق من هذه صفته أن يهديه الله، أو كيف يتوقع أن يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم.

ويُحتمل كون الاستفهام للإنكار والنفي؛ كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ﴾ [النساء: 168، 169]؛ وذلك لأن مَن آمَن وعرَف الحق ثم ارتد عنه أعظم ذنبًا وكفرًا ممن لم يعرف الحق وبقي على كفره ولم يدخل في الإيمان.

فمن عرَف الحق وتركه يُعاقب بالانتكاس وانقلاب القلب وزيغه؛ كما قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [الصف: 5].

والكفر بعد الإيمان وبعد معرفة الحق علامة على عدم تمكن الإيمان، فإن من ذاق حلاوة الإيمان يبعد أن يعود إلى الكفر؛ كما في حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «ثلاث مَن كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار»[3].

﴿ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ﴾: الجملة في محل نصب عطفًا على جملة ﴿ كَفَرُوا ﴾، أي: كيف يهديهم بعد اجتماع الأمرين الكفر والشهادة بصدق الرسول.

ويجوز أن تكون الجملة في محل نصب على الحال، أي: والحال أنهم قد شهدوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، والواو في شهدوا تعود لمن كفروا.

والمراد بـ«الرسول»: محمد صلى الله عليه وسلم، و( أل ) فيه للعهد الذهني؛ لأنه صلى الله عليه وسلم معهود في الأذهان بعد بعثته ونزول القرآن عليه؛ أي: شهدوا أن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم حق ثابت، صادق فيما أخبر به، عادل فيما حكم به، لاشك في رسالته.

﴿ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾: معطوف على: ﴿ وَشَهِدُوا ﴾، ولم يؤنث الفعل، فلم يقل: «وجاءتهم»؛ لأن التأنيث في ﴿ الْبَيِّنَاتُ ﴾ غير حقيقي، وفصل بينه وبين الفعل بالمفعول «هم» ويجوز تأنيثه، كما في قوله تعالى: ﴿ جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾ [البقرة: 213]؛ أي: وجاءهم الآيات البينات في القرآن الكريم والكتب السابقة، واكتفى بذكر الصفة وهي «البينات» دون الموصوف وهي «الآيات»؛ لأن المهم في الآيات كونها بيِّنات مُبيَّنات مُبيِّنات للحق من الباطل، والهدى من الضلال.

والمعنى: وجاءهم الآيات البينات الواضحات، والحجج والبراهين القاطعات، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق، وما جاء به حق وصدق وعدل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115]؛ أي: صدقًا في الأخبار وعدلًا في الأحكام.

﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾: الجملة استئنافية، وهي كالتعليل لما قبلها، فاستبعد هداية من كفروا بعد إيمانهم وشهادتهم أن الرسول حقٌّ، وبعد مجيء البينات إليهم؛ لأنهم ظالمون: ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾؛ أي: والله لا يوفق القوم الظالمين.

و﴿ الظَّالِمِينَ ﴾: جمع «ظالم»، والظلم: النقص؛ كمال قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33]، وهو وضع الشيء في غير موضعه على سبيل العدوان.

وهو إما تفريط في واجب، أو انتهاك لمحرم عمدًا، فهؤلاء ظلموا باختيارهم الكفر، ووضعه مكان الإيمان بعد تبيُّن الحق لهم، وظلموا أنفسهم فنقصوها حقها، وعرَّضوها للعذاب ودسَّوها؛ كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.05 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.42 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.65%)]