من مائدةُ السِّيرةِ
عبدالرحمن عبدالله الشريف
إيذاءُ قريشٍ للمسلمينَ
عندما رأى كُفَّارُ قريشٍ تَزايُدَ أعدادِ المسلمينَ يومًا بعدَ يومٍ، وَثَبَتْ كلُّ قبيلةٍ على مَنْ فيها مِنَ المسلمينَ يُعذِّبونهم ويَفتِنونهم عن دينِهم، وتَسلَّطَ أكابرُ المشركين على ضعافِ المؤمنينَ!
يقولُ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه: "كان أوَّلَ مَنْ أظهر إسلامَه سبعةٌ: رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وأبو بكرٍ، وعمَّارٌ، وأُمُّه سُمَيَّةُ، وصُهَيبٌ، وبلالٌ، والمِقْدادُ؛ فأمَّا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فمَنَعَهُ اللهُ بعَمِّه أبي طالبٍ، وأمَّا أبو بكرٍ فمنعه اللهُ بقومِه، وأمَّا سائرُهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراعَ الحديدِ وصهَروهم في الشَّمسِ"[1]!
فكان عمَّارُ بنُ ياسرٍ وأبواه رضي اللهُ عنهم مِنْ أولئك الَّذين نالهم الأذى والتَّعذيبُ، وكان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمُرُّ عليهم وهم يُعذَّبون، فيقولُ لهم: «صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ؛ فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْجَنَّةُ»[2].
وفي أحدِ الأيَّامِ، مَرَّ أبو جهلٍ بسُمَيَّةَ والدةِ عمَّارٍ رضي اللهُ عنها وهي تُعذَّبُ، فطعنها بحَرْبةٍ في فرجِها، فقتلها، فكانت أوَّلَ شهيدةٍ في الإسلامِ[3].
ومِنَ المعذَّبينَ: خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ رضي اللهُ عنه، كان المشركون يُعذِّبونه أشدَّ العذابِ، فكانوا يُجرِّدون ظهرَه مِنَ الثِّيابِ، ويُلْقُونَه على الجمرِ الـمُشتعِلِ، فما يطفئُ النَّارَ إلَّا شحمُ ظهرِه![4].
وكذلك بلالُ بنُ رباحٍ رضي اللهُ عنه، الَّذي كان يقولُ إذا اشتَدَّتْ عليه حرارةُ التَّعذيبِ تحتَ حرارةِ الشَّمسِ الـمُحْرِقةِ: "أَحَدٌ، أَحَدٌ"[5]، وقد اشتراه أبو بكرٍ رضي اللهُ عنه مِنْ أُميَّةَ بنِ خلفٍ فأعتقه، كما اشترى أفرادًا آخرينَ ممَّن كانوا يُعذَّبون فأعتقهم، وأنقذهم اللهُ به مِنَ العبوديَّةِ والتَّعذيبِ.
وقد نالَ أبا بكرٍ رضي اللهُ عنه نصيبُه مِنَ الأذى، فقد ضُرب يومًا في المسجدِ الحرامِ ضربًا شديدًا، حتَّى حُمِلَ إلى بيتِه وقومُه لا يَشُكُّونَ في موتِه[6].
وامتَدَّ إيذاءُ المشركين إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، ووجَّهوا أنواعَ الإساءةِ إليه، فأَلْقَوْا فَرْثَ الـجَزُورِ ودمَها على كَتِفِه صلى الله عليه وسلم وهو ساجدٌ[7]!
وأقبلَ عُقْبةُ بنُ أبي مُعَيْطٍ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يُصلِّي في حِجْرِ الكعبةِ، فوضع ثوبَه في عُنُقِه، فخَنَقَهُ خنقًا شديدًا، فأقبلَ أبو بكرٍ حتَّى أخذ بمَنْكِبِه ودفعه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقالَ: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ [غافر: 28][8]!
ومعَ هذا كُلِّه، ما كان مِنَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أنْ صبَر، وواصلَ دعوتَه، وثبت ثباتَ الجبالِ، لا يَثْنِيهِ أذًى، ولا يَفتِنُه إغراءٌ.
[1] أخرجه أحمدُ (3823)، وابنُ ماجه (150).
[2] أخرجه الطَّبرانيُّ (1508)، والحاكمُ (5666).
[3] سير أعلام النُّبلاء (1/176).
[4] حلية الأولياء (472).
[5] أخرجه ابنُ ماجه (150).
[6] البداية والنِّهاية (3 /30).
[7] أخرجه البخاريُّ (3854)، ومسلمٌ (1794).
[8] أخرجه البخاريُّ (3856).