
14-08-2025, 11:44 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ يوسف
المجلد العاشر
الحلقة( 383)
من صــ 436 الى صـ 450
فمجموع أمته تقوم مقامه في الدعوة إلى الله؛ ولهذا كان إجماعهم حجة قاطعة فأمته لا تجتمع على ضلالة وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى رسوله وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره فما قام به غيره سقط عنه وما عجز لم يطالب به. وأما ما لم يقم به غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به؛ ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على هذا وقد تقسطت الدعوة على الأمة بحسب ذلك تارة وبحسب غيره أخرى؛ فقد يدعو هذا إلى اعتقاد الواجب وهذا إلى عمل ظاهر واجب وهذا إلى عمل باطن واجب؛ فتنوع الدعوة يكون في الوجوب تارة وفي الوقوع أخرى.
وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم؛ لكنها فرض على الكفاية وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبليغ ما جاء به الرسول والجهاد في سبيل الله وتعليم الإيمان والقرآن. وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر فإن الداعي طالب مستدع مقتض لما دعي إليه وذلك هو الأمر به؛ إذ الأمر هو طلب للفعل المأمور به واستدعاء له ودعاء إليه فالدعاء إلى الله الدعاء إلى سبيله فهو أمر بسبيله وسبيله تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر. وقد تبين أنهما واجبان على كل فرد من أفراد المسلمين وجوب فرض الكفاية لا وجوب فرض الأعيان كالصلوات الخمس بل كوجوب الجهاد.
والقيام بالواجبات: من الدعوة الواجبة وغيرها يحتاج إلى شروط يقام بها كما جاء في الحديث: {ينبغي لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يكون فقيها فيما يأمر به فقيها فيما ينهى عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما ينهى عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه} فالفقه قبل الأمر ليعرف المعروف وينكر المنكر والرفق عند الأمر ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود والحلم بعد الأمر ليصبر على أذى المأمور المنهي فإنه كثيرا ما يحصل له الأذى بذلك.
ولهذا قال تعالى: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك} وقد أمر نبينا بالصبر في مواضع كثيرة كما قال تعالى في أول المدثر: {قم فأنذر} {وربك فكبر} {وثيابك فطهر} {والرجز فاهجر} {ولا تمنن تستكثر} {ولربك فاصبر} وقال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} وقال: {واصبر على ما يقولون}وقال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا} وقال: {فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت}. وقد جمع سبحانه بين التقوى والصبر في مثل قوله: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}.
والمؤمنون كانوا يدعون إلى الإيمان بالله وما أمر به من المعروف وينهون عما نهى الله عنه من المنكر فيؤذيهم المشركون وأهل الكتاب. وقد أخبرهم بذلك قبل وقوعه وقال لهم: {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} وقد قال يوسف عليه السلام {أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين}. فالتقوى تتضمن طاعة الله ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر يتناول الصبر على المصائب التي منها أذى المأمور المنهي للآمر الناهي.
لكن للآمر الناهي أن يدفع عن نفسه ما يضره كما يدفع الإنسان عن نفسه الصائل فإذا أراد المأمور المنهي ضربه أو أخذ ماله ونحو ذلك وهو قادر على دفعه فله دفعه عنه؛ بخلاف ما إذا وقع الأذى وتاب منه؛ فإن هذا مقام الصبر والحلم والكمال في هذا الباب حال نبينا صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين {عن عائشة أنها قالت ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله} فقد تضمن خلقه العظيم أنه لا ينتقم لنفسه إذا نيل منه وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله ومعلوم أن أذى الرسول من أعظم المحرمات فإن من آذاه فقد آذى الله وقتل سابه واجب باتفاق الأمة سواء قيل إنه قتل لكونه ردة أو لكونه ردة مغلظة أوجبت أن صار قتل الساب حدا من الحدود.
والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم في احتماله وعفوه عمن كان يؤذيه كثير كما قال تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره}. فالآمر الناهي إذا أوذي وكان أذاه تعديا لحدود الله وفيه حق لله يجب على كل أحد النهي عنه وصاحبه مستحق للعقوبة؛ لكن لما دخل فيه حق الآدمي كان له العفو عنه كما له أن يعفو عن القاذف والقاتل وغير ذلك وعفوه عنه لا يسقط عن ذلك العقوبة التي وجبت عليه لحق الله؛ لكن يكمل لهذا الآمر الناهي مقام الصبر والعفو الذي شرع الله لمثله حتى يدخل في قوله تعالى {وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} وفي قوله: {فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره}. ثم هنا فرق لطيف: أما الصبر فإنه مأمور به مطلقا فلا ينسخ. وأما العفو والصفح فإنه جعل إلى غاية وهو: أن يأتي الله بأمره فلما أتى بأمره: بتمكين الرسول ونصره - صار قادرا على الجهاد لأولئك وإلزامهم بالمعروف ومنعهم عن المنكر - صار يجب عليه العمل باليد في ذلك ما كان عاجزا عنه وهو مأمور بالصبر في ذلك كما كان مأمورا بالصبر أولا.
والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظه؛ ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة حتى إن الكفار إذا أسلموا أو عاهدوا لم يضمنوا ما أتلفوه للمسلمين من الدماء والأموال؛ بل لو أسلموا وبأيديهم ما غنموه من أموال المسلمين كان ملكا لهم عند جمهور العلماء: كمالك وأبي حنيفة وأحمد وهو الذي مضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين.
فالآمر الناهي إذا نيل منه وأوذي ثم إن ذلك المأمور المنهي تاب وقبل الحق منه: فلا ينبغي له أن يقتص منه ويعاقبه على أذاه فإنه قد سقط عنه بالتوبة حق الله كما يسقط عن الكافر إذا أسلم حقوق الله تعالى كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الإسلام يهدم ما كان قبله والتوبة تهدم ما كان قبلها} والكافر إذا أسلم هدم الإسلام ما كان قبله: دخل في ذلك ما اعتدى به على المسلمين في نفوسهم وأموالهم؛ لأنه ما كان يعتقد ذلك حراما؛ بل كان يستحله فلما تاب من ذلك غفر له هذا الاستحلال وغفرت له توابعه.
فالمأمور المنهي إن كان مستحلا لأذى الآمر الناهي كأهل البدع والأهواء الذين يعتقدون أنهم على حق وأن الآمر الناهي لهم معتد عليهم فإذا تابوا لم يعاقبوا بما اعتدوا به على الآمر الناهي من أهل السنة كالرافضي الذي يعتقد كفر الصحابة أو فسقهم وسبهم على ذلك فإن تاب من هذا الاعتقاد وصار يحبهم ويتولاهم لم يبق لهم عليه حق بل دخل حقهم في حق الله ثبوتا وسقوطا؛ لأنه تابع لاعتقاده.
ولهذا كان جمهور العلماء - كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أصح الروايتين والشافعي في أحد القولين على - أن أهل البغي المتأولين لا يضمنون ما أتلفوه على أهل العدل بالتأويل كما لا يضمن أهل العدل ما أتلفوه على أهل البغي بالتأويل باتفاق العلماء.
وكذلك أصح قولي العلماء في المرتدين فإن المرتد والباغي المتأول والمبتدع كل هؤلاء يعتقد أحدهم أنه على حق فيفعل ما يفعله متأولا فإذا تاب من ذلك كان كتوبة الكافر من كفره؛ فيغفر له ما سلف مما فعله متأولا وهذا بخلاف من يعتقد أن ما يفعله بغي وعدوان كالمسلم إذا ظلم المسلم والذمي إذا ظلم المسلم والمرتد الذي أتلف مال غيره وليس بمحارب بل هو في الظاهر مسلم أو معاهد فإن هؤلاء يضمنون ما أتلفوه بالاتفاق.
فالمأمور المنهي إن كان يعتقد أن أذى الآمر الناهي جائز له فهو من المتأولين وحق الآمر الناهي داخل في حق الله تعالى فإذا تاب سقط الحقان وإن لم يتب كان مطلوبا بحق الله المتضمن حق الآدمي فإما أن يكون كافرا وإما أن يكون فاسقا وإما أن يكون عاصيا. فهؤلاء كل يستحق العقوبة الشرعية بحسبه وإن كان مجتهدا مخطئا فهذا قد عفا الله عنه خطأه فإذا كان قد حصل بسبب اجتهاده الخطأ أذى للآمر الناهي بغير حق فهو كالحاكم إذا اجتهد فأخطأ وكان في ذلك ما هو أذى للمسلم أو كالشاهد أو كالمفتي. فإذا كان الخطأ لم يتبين لذلك المجتهد المخطئ كان هذا مما ابتلى الله به هذا الآمر الناهي.
قال تعالى: {وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا} فهذا مما يرتفع عنه الإثم في نفس الأمر وكذلك الجزاء على وجه العقوبة؛ ولكن قد يقال: قد يسقط الجزاء على وجه القصاص الذي يجب في العمد ويثبت الضمان الذي يجب في الخطأ كما تجب الدية في الخطأ وكما يجب ضمان الأموال التي يتلفها الصبي والمجنون في ماله وإن وجبت الدية على عاقلة القاتل خطأ؛ معاونة له فلا بد من استيفاء حق المظلوم خطأ؛ فكذلك هذا الذي ظلم خطأ؛ لكن يقال: يفرق بين ما كان الحق فيه لله وحق الآدمي تبع له وما كان حقا لآدمي محضا أو غالبا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد من هذا الباب موافق لقول الجمهور الذين لا يوجبون على أهل البغي ضمان ما أتلفوه لأهل العدل بالتأويل وإن كان ذلك خطأ منهم ليس كفرا ولا فسقا.
وإذا قدر عليهم أهل العدل لم يتبعوا مدبرهم ولم يجهزوا على جريحهم ولم يسبوا حريمهم ولم يغنموا أموالهم فلا يقاتلونهم على ما أتلفوه من النفوس والأموال إذا أتلفوا مثل ذلك أو تملكوا عليهم. فتبين أن القصاص ساقط في هذا الموضع؛ لأن هذا من باب الجهاد الذي يجب فيه الأجر على الله وهذا مما يتعلق بحق العبد الآمر الناهي. وأما قول السائل: هل يقتص منه لئلا يؤدي إلى طمع منه في جانب الحق؟ فيقال: متى كان فيما فعله إفساد لجانب الحق كان الحق في ذلك لله ورسوله فيفعل فيه ما يفعل في نظيره وإن لم يكن فيه أذى للآمر الناهي. والمصلحة في ذلك تتنوع؛ فتارة تكون المصلحة الشرعية القتال وتارة تكون المصلحة المهادنة وتارة تكون المصلحة الإمساك والاستعداد بلا مهادنة وهذا يشبه ذلك؛ لكن الإنسان تزين له نفسه أن عفوه عن ظالمه يجريه عليه وليس كذلك؛ بل قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: {ثلاث إن كنت لحالفا عليهن ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما نقصت صدقة من مال وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله}. فالذي ينبغي في هذا الباب أن يعفو الإنسان عن حقه ويستوفي حقوق الله بحسب الإمكان.
قال تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون} قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا. قال تعالى: {هم ينتصرون} يمدحهم بأن فيهم همة الانتصار للحق والحمية له؛ ليسوا بمنزلة الذين يعفون عجزا وذلا؛ بل هذا مما يذم به الرجل والممدوح العفو مع القدرة والقيام لما يجب من نصر الحق لا مع إهمال حق الله وحق العباد. والله تعالى أعلم.
(حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين (110)
وقال شيخ الإسلام - قدس الله روحه -:
فصل:
في قوله تعالى {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا} الآية: قراءتان في هذه الآية؛ بالتخفيف والتثقيل. وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ بالتثقيل وتنكر التخفيف كما في الصحيح عن الزهري قال: أخبرني عروة عن عائشة قالت له - وهو يسألها عن قوله: {وظنوا أنهم قد كذبوا} مخففة قالت - معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها - قلت: فما هذا النصر - {حتى إذا استيئس الرسل} بمن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك لعمري لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن.
وفي الصحيح أيضا عن ابن جريج سمعت ابن أبي مليكة يقول قال ابن عباس: {حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا} خفيفة ذهب بها هنالك وتلا {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} فلقيت عروة فذكرت ذلك له فقال: قالت عائشة: معاذ الله والله ما وعد الله رسوله من شيء قط إلا علم أنه كائن قبل أن يكون؛ ولكن لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا وخافوا أن يكون من معهم يكذبهم؛ فكانت تقرؤها: {وظنوا أنهم قد كذبوا} مثقلة. فعائشة جعلت استيأس الرسل من الكفار المكذبين وظنهم التكذيب من المؤمنين بهم ولكن القراءة الأخرى ثابتة لا يمكن إنكارها وقد تأولها ابن عباس وظاهر الكلام معه والآية التي تليها إنما فيها استبطاء النصر وهو قولهم: {متى نصر الله} فإن هذه كلمة تبطئ لطلب التعجيل.
وقوله: {وظنوا أنهم قد كذبوا} قد يكون مثل قوله: {إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان} والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل الكلام في العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم {إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث} وقد قال تعالى: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئا}.
فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم وهذا الباب قد يكون من حديث النفس المعفو عنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل} وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت {في الصحيح أن الصحابة قالوا يا رسول الله: إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يحرق حتى يصير حممة أو يخر من السماء إلى الأرض: أحب إليه من أن يتكلم به. قال: أوقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال ذلك صريح الإيمان} وفي حديث آخر: {إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به. قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة}.
فهذه الأمور التي هي تعرض ثلاثة أقسام: منها ما هو ذنب يضعف به الإيمان وإن كان لا يزيله. واليقين في القلب له مراتب ومنه ما هو عفو يعفى عن صاحبه ومنه ما يكون يقترن به صريح الإيمان. ونظير هذا: ما في الصحيح عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد؛ ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ونحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال له ربه: {أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} وقد ترك البخاري ذكر قوله:
" بالشك " لما خاف فيها من توهم بعض الناس. ومعلوم أن إبراهيم كان مؤمنا كما أخبر الله عنه بقوله: {أولم تؤمن قال بلى} ولكن طلب طمأنينة قلبه كما قال: {ولكن ليطمئن قلبي} فالتفاوت بين الإيمان والاطمئنان سماه النبي صلى الله عليه وسلم شكا لذلك بإحياء الموتى كذلك الوعد بالنصر في الدنيا: يكون الشخص مؤمنا بذلك؛ ولكن قد يضطرب قلبه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه قد كذب فالشك مظنة أنه يكون من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث.
وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك ويعلمون أنه قد ابتلي به من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فليتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوى إيمان المؤمنين فبها يصح الاتساء بالأنبياء كما في قوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}.
وفي القرآن من قصص المرسلين التي فيها تسلية وتثبيت ليتأسى بهم في الصبر على ما كذبوا وأوذوا كما قال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا}. . . (1) ولنا؛ لأنه أسوة في ذلك ما هو كثير في القرآن؛ ولهذا قال: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} وقال: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك} وقال: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم} {وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك}.
وإذا كان الاتساء بهم مشروعا في هذا وفي هذا فمن المشروع التوبة من الذنب والثقة بوعد الله وإن وقع في القلب ظن من الظنون وطلب مزيد الآيات لطمأنينة القلوب كما هو المناسب للاتساء والاقتداء دون ما كان المتبوع معصوما مطلقا. فيقول التابع: أنا لست من جنسه فإنه لا يذكر بذنب فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء؛ لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا قيل: إن ذلك مجبور بالتوبة فإنه تصح معه المتابعة كما قيل: أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم آدم أبو البشر ومن أشبه أباه ما ظلم.
والله تعالى قص علينا قصص توبة الأنبياء لنقتدي بهم في المتاب وأما ما ذكره سبحانه أن الاقتداء بهم في الأفعال التي أقروا عليها فلم ينهوا عنها ولم يتوبوا منها فهذا هو المشروع. فأما ما نهوا عنه وتابوا منه فليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإن كان ما أمروا به أبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة؛ فما لم يؤمروا به أحرى وأولى.
وأيضا فقوله: {وظنوا أنهم قد كذبوا} قد يكونون ظنوا في الموعود به ما ليس هو فيه بطريق الاجتهاد منهم؛ فتبين الأمر بخلافه فهذا جائز عليهم كما سنبينه فإذا ظن بالموعود به ما ليس هو فيه ثم تبين الأمر بخلافه ظن أن ذلك كذب وكان كذبا من جهة ظن في الخبر ما لا يجب أن يكون فيه. فأما الشك فيما يعلم أنه أخبر به فهذا لا يكون وسنوضح ذلك إن شاء الله تعالى. ومما ينبغي أن يعلم أنه سبحانه ذكر هنا شيئان: " أحدهما " استيئاس الرسل. و " الثاني " ظن أنهم كذبوا.
__________
Q (1) بياض بالأصل
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|